محمد هاشم عبد السلام

كاتب ومترجم مصري

 

يحاول جان جينيه في هذا الكتاب الصغير الدخول بنا إلى المملكة السرية حيث سر وجوهر العملية الإبداعية الخاصة جدًا والمتفردة لدى النحات والفنان العظيم ألبرتو جياكوميتي. ذلك المكان السري الذي يقول عنه جينيه “إنه يجعل كل إنسان، عندما يلتجأ إليه، أكثر نفاسة من الآخرين”. وقد حاول جينيه التركيز ليس فقط على الفلسفة السهلة البسيطة في ظاهرها التي حكمت أعمال جياكوميتي، دون الدخول بنا في تفصيلات فنية وتقنية أو مصطلحات فلسفية تنفِّر القارئ غير المتخصص.

“لا أقدر أن أمنع نفسي عن ملامسة التماثيل: أحول عيني ويدي تواصل وحدها اكتشافها: العنق، الرأس، القفا، الكتفان… تتدفق الإحساسات على حافة أصابعي. وما من إحساس ليس مختلف بحيث أن يدي تجوس منظرًا في منتهى التنوع والحيوية”، “تصنع أصابعي، إذن، من جديد، ما صنعته أصابع جياكوميتي، لكن بينما كانت أصابعه تبحث عن مرتكز في الجبس المبلول أو الطين، فإن أصابعي تخطو بوثوق فوق خطواته. ثم – أخيرًا! – يدي تنظر، يدي تعيش”، إنه كما يصفه جينيه بتخليص واقتدار شديدين “جياكوميتي، أو نحات العميان”.

وأصابع جينيه التي خطت بوثوق ورهافة فوق أصابع جياكوميتي النحتية فعلت نفس الشيء مع جرحه السري المتفرد، وأبرزت لنا أجمل ما فيه، يقول جينيه “ليس للجمال أصل آخر سوى الجرح المتفرد،المختلف بالنسبة لكل واحد،المختبئ أو المرئي،الذي يكنه كل إنسان في نفسه ويحفظه في داخله، ويرتد إليه حينما يريد مغادرة العالم إلى عزلة مؤقتة إلا أنها عميقة. هناك، إذن، فرق كبير بين هذا الفن وبين ما يسمى البؤسوية. ويبدو لي أن جياكوميتي، يريد اكتشاف هذا الجرح السري عند كل الكائنات وحتى في كل الأشياء، لكي يضيئها”. وحديث جينيه عبر الكتاب عن منحوتات ولوحات جياكوميتي يدخل بنا بمهارة وحب إلى تلك المنطقة السرية الغامضة، والتي ما كان ليكشف عنها غير فنان أصيل يلامسها ويستشعرها بعمق وحب كجينيه.

من أكثر الأشياء التي تحدث عنها جينيه أكثر من مرة و قام بالتركز عليها في هذا الكتاب، كيفية قراءة اللوحة أو التفاعل مع العمل النحتي، الأمر الذي لا يتسنى إلا بقدرة فريدة تتطلب جهدًا وتعقيدًا من أجل تجريد الفضاء الخاص بهما وإيقاف استمراريته والإمساك بأي منهما، اللوحة أو العمل النحتي، في عزلته الخاصة أو بحسب جينيه “في فضاءه اللامنتهي”.

كما تحدث جينيه أكثر من مرة عن الظاهرة الفردية التي تصادفه مع منحوتات ولوحات جياكوميتي “إنها لا تكف عن الاقتراب والتقهقر في ثبات”، “وإذا ما حاول بصري أن يروضها وأن يقترب منها، فإنها تبعد على مدى النظر ذلك أن هذه المسافة بينها وبيني قد امتدت فجأة”، ويقول في موضع آخر عن وجه إحدى اللوحات”… يظهر أمامي، يفرض نفسه ويأتي لملاقاتي منقضًا عليَّ ثم يسرع داخل القماشة التي كان يغادرها”. وجينيه لا يستغرب هذه الظاهرة وذلك بقوله “ما من رأس أو حد يقطع الفضاء ويمزقه، بميت”. وهذا ما ينطبق وبشدة على الكثير من أعمال ألبرتو جياكوميتي، إنها الحياة التي تكاد تدب فيها، والرهافة العميقة المتفردة، والصدق الذي يجسد به جياكوميتي أعماله “إنه لا يحلم بها، بل يعانيها”، بالإضافة القوة المميزة لمنحوتاته بصفة خاصة والتي هي قوامها، “إذا كان التمثال قويًا حقًا، فإنه سيكشف عن نفسه حتى إذا ما خبأته”، كان هذا هو در جياكوميتي على جينيه عندما انحنى الأخير الالتقاط عقب سيجارته وأكتشف مصادفة واحدًا من أجمل تماثيل جياكوميتي تحت منضدة مرسمه، يغطيه الغبار.

وأخيرًا يقول مترجم الكتاب الناقد والمبدع القدير محمد برادة “سيجد القارئ تحليلاً عميقًا لمفهوم الإبداع، سواء كان في الرسم أو الأدب، حيث إن جينيه يربطه بذلك الجرح السري، اللامرئي الذي يميز بين الكائنات، ويجعل اكتشاف ذلك الجرح من لدن المبدع هو المنطلق لبناء رؤيته وعالمه. من هنا، لا يكون المبدع ظرفيًا، ولكنه يتولد من الأشياء وعلائقها ليذهب إلى ما هو أبعد، ولا يكون الالتزام مقتصرًا على قضية، بل متصلاً بما هو إنساني”.

 

عنوان الكتاب: الجرح السري (مرسم ألبرتو جياكوميتي)

المؤلف: جان جينيه

ترجمة: محمد برادة

الناشر: المجلس الأعلى للثقافة – مصر

الطبعة: الأولى 2004

الصفحات: 78 قطع متوسط