محمد هاشم عبد السلام
في فيلمه الروائي الجيد “البحر الأبيض المتوسط” أو المتوسطي، يتناول المخرج الإيطالي الشاب كريس كريبينانو، على نحو مختلف بعض الشيء، واحدة من أهم القضايا الساخنة التي تفرض نفسها بشكل شبه يومي في تلك البقعة من العالم، ألا وهي قضية الهجرة غير الشرعية، التي تتم عبر المراكب انطلاقًا من الدول المطلة على البحر المتوسط، وبخاصة ليبيا، بغية الوصول إلى أقرب نقطة على أرض أوروبا، تلك الجنة المزعومة التي يحلم بها جميع من يخوضون تلك المهالك، التي لا ينجو منها إلا قلة قليلة.
منذ فترة طويلة بعض الشيء، التفتت السينما العالمية بشقيها الروائي والتسجيلي، إلى تلك الظاهرة الخطيرة التي باتت تقض مضجع أوروبا بصفة عامة والدول المطلة على المتوسط بصفة خاصة. وقد تزايدت في السنوات القليلة الماضية وتيرة تلك الأفلام، حتى لم يعد يمر العام دون أن ينتاولها على الأقل فيلمين أو ثلاثة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، راصدة تلك الظاهرة بعيون متباينة، ومحاولة سبر أسبابها وتبين تبعاتها وعواقبها ومن ثم إيجاد طريق أو حتى طرق للقضاء عليها مع مرور الوقت.
ومن بين أحدث الأفلام الروائية التي تتناول تلك القضية، التي باتت صور ضحاياها، وهم بالآلاف أحيانًا، تمزق قلوب وتثقل ضمائر كل من يقدرون آدمية البشر في هذا العالم، فيلم “المتوسطي”، الذي يمتد زمن عرضه لما يقترب من الساعتين. يتميز الفيلم بجدة التناول، كما أسلفنا، نظرًا لأنه، من ناحية، يتكئ في بنائه السردي على قصة أحداثها حقيقية إلى حد بعيد وقعت في إيطاليا، وأبطالها من ناحية أخرى ممثلين غير محترفين تتقاطع قصة الفيلم وتتماثل مع حكايتهما إلى حد كبير. إضافة إلى أن أحداث العنف التي يرصدها الفيلم قرب نهايته وقعت بالفعل في مدينة “روزارنو” بمقاطعة كالابريا الإيطالية، وكانت مثار تناول ضخم من جانب العديد من الصحف الإيطالية والأوروبية.
تنطلق أحداث الفيلم من تحصّل “إيفا” بصعوبة على المال اللازم للمهربين من أجل الانطلاق في رحلته من بوركينا فاسو إلى قلب الصحراء الجزائرية، ومنها إلى الصحراء الليبية سيرًا على الأقدام، ضمن مجموعة كبيرة من المهاجرين، ومن بينهم صديقه الحميم “عباس”. وفي الطريق تتعرض القافلة لهجوم مسلح، يسلب من الجميع أموالهم، ومن اعترض تعرض للقتل الفوري دون أدنى تردد أو شفقة. وبعد جهد جهيد ومشاق ومخاطر جمة، تصل تلك المجموعة في النهاية إلى حيث المحطة شبه الأخيرة على الشواطئ الليبية.
وذات مساء، يجبرون جميعًا على ركوب أحد المراكب الخربة بل ويؤمر أحدهم بقيادتها أيضًا. وفي البحر، تتعرض المركب بطبيعة الحال لأهوال أخرى، ويفقد الكثير ممن على متنها أرواحهم، وينجو القليل، ويصلون بالفعل إلى الأراضي الإيطالية. وهناك يبدأ المخرج في التركيز أكثر على الشخصيتين الرئيسيتين بالفيلم، ويأخذ في تتبع مسار حياتهما الشاق هناك. ويرصد، بداية، ظروف السكن غير الآدمية بالمرة في أماكن تخلو تمامًا من المياه والصرف والتدفئة وجميع مقومات الحياة، مرورًا برحلة البحث عن عمل، والرضا بالقليل جدًا مقابل العمل في حقول البرتقال لساعات طويلة. ثم نقترب أكثر من حياة بطلنا “إيفا” ونتبين، من خلال مكالمة مرئية عبر الاسكايب، أنه قد ترك زوجته وابنته ذات السبعة أعوام خلفه، بغية توفير بعض النقود لهما وربما حياة كريمة مستقبلا.
كذلك، يرصد المخرج تفاعل هؤلاء المهاجرين، وأيضًا بطلي الفيلم، مع المجتمع الإيطالي والحياة من حولهم. وكيف تتعرض الكثير من المهاجرات للتحرشات الجنسية والوقع أسرى، مع ضيق ذات اليد، للعمل في الدعارة وغيرها من الأعمال تحت مرأى ومسمع من أقرانهم. أيضًا، يستعرض المعاملة الإيطالية تجاه هؤلاء المهاجرين، حيث تنقسم إلى الاحتواء والرعاية والترحيب والرعاية، وبين الرفض والتحرش والاستهاجان والاستغلال. ومن خلال كل هذا، يبرز لنا المخرج شخصيتي بطليه المتناقضتين، وطريقة تفاعلهما وتصرفاتهما في جميع المواقف التي يتعرضان لها. وقد بدا هذا جليًا بعدما تبينا حقيقة ذلك الحلم الأوروبي الوهمي، إذ يحاول “عباس” رفض الاستعباد والاضطهاد ومحاولة التمرد أو التغيير أو العودة، في حين يحاول “إيفا” التعايش بأي طريقة والتكيف أملا في حياة كريمة مستقبلا بعد إقامة شرعية وعمل قانوني.
وعلى نحو يستدعي إلى الذاكرة مباشرة نفس التصرف الذي أقدم عليه “موكي” صاحب البشرة السمراء تجاه “سال” صاحب البشرة البيضاء في فيلم “افعل الشيء الصحيح” للمخرج الأمريكي الشهير سبايك لي، عندما وجد نفسه مضطرًا، رغم عدم عداوته تجاه البيض وكذلك حبهم وتعاملهم الجيد معه، للخروج عن طوره بعدما عجز عن كبح جماح مشاعره، الأمر الذي دفعه في النهاية لمشاركة رفقاه الزنوج في أحداث العنف التي وقعت بالحي. وهو نفس ما يقوم به “إيفا” بطل فيلم “المتوسطي” من إنخراط كامل، رغم رفضه في البداية، في أحداث الشغب التي اندلعت ضد سكان المدينة الإيطاليين، وذلك بعدما رأى صديقه “عباس” يتعرض للموت أمام عينيه.
وقد استطاع المخرج كريس كريبينانو في فيلمه أن يرصد، بتوازن كبير ودون أدنى تحيز أو ميل أو إدانة، قصة “إيفا” (قدوس سيون) و”عباس” (الحسن ساي)، وجعلنا نتفاعل مع بطليها، ونعيش معهما تلك الأجواء التي كابداها من أجل الوصول إلى إيطاليا، ورصد جميع تبعات التواجد شبه القانوني هناك، ومحاولة خلق ما يمكن أن يطلق عليه حياة أو شبه حياة تتسم بالآدمية بعض الشيء، ناهيك عن العثور على عمل يمكن أن يقيم الأود، ومغبة التواجد في مجتمع تجهل لغته، وتتحسس خطاك وأنت تتعامل مع غرباء كلية مُحمّلين ضدك بترسبات غير إيجايبة بالمرة.
يجنح أسلوب المخرج كريس كريبينانو إلى حد بعيد نحو الجميع بين الجنسين الروائي والتسجيلي. إذ ارتأى كريس لوجهة نظر إخراجية خاصة به أن تدور أحداث الفيلم الرئيسية بصفة عامة في قالب روائي، حيث يغلب على سرده الإيقاع الخطي المتطور زمنيًا عبر الفيلم حتى الوصول إلى ذروته الرئيسية قبل النهائية، مع تعمد ترك النهاية مفتوحة بعض الشيء. لكنه، من ناحية أخرى، آثر أن يحيد أسلوبه بعض الشيء باتجاه الشكل التسجيلي الصرف في العديد من الأحداث التي رصدها على امتداد الفيلم، ربما بغية إضفاء الكثير من الجدة والواقعية والمصداقية على تلك الأحداث.
ومن بين الأمور الأخرى اللافتة في الفيلم، إلى جانب التطور السريع للأحداث وانتفاء الترهل الزمني وبطء الإيقاء إلا فيما ندر، تلك المتعلقة بالتصوير، الذي قام به “وايت جارفيلد”، وهو في معظمه بكاميرا محمولة يدويًا، والذي جمع بين اللقطات الشديدة القرب أو تلك المتوسطة أو البعيدة، وإن كانت الغلبة للقطات الشديدة القرب. إلى جانب، بالطبع، اللجوء في بعض الأحيان إلى تلك اللقطات غير الثابتة أو المهتزة، التي عادة ما تمييز الأفلام التسجيلية، وذلك لإضافة الكثير من الواقعية والمصداقية وأيضًا الغموض والتشويق على الأحداث.
أيضًا من الأمور التي استرعت الانتباه بشدة في فيلم “المتوسطي”، ذلك الأداء المدهش إلى حد كبير من جانب الممثل قديس سيون، الذي يقوم بالتمثيل للمرة الأولى في حياته. صحيح أن قصة الفيلم تتقاطع، كما ذكرنا، إلى حد كبير مع قصة حياته، لكن حتى وإن كانت جميع الأحداث متطابقة تمام التطابق مع قصة الفيلم، فلم يكن لهذا أدنى أثر يذكر لو كان قديس سيون لا يجد فن التمثيل، سواء عبر نظراته المُعبرة طوال الفيلم أو نبرة صوته المتفاعلة مع الجمل المنطوقة أو عبر حركة الجسد المتناغمة مع متطلبات كل مشهد مؤدى. ونفس الأمر ينطبق، وإن على نحو أقل، على أداء بطل الفيلم الآخر، الممثل الحسن ساي.
منذ دخوله إلى عالم الإخراج السينمائي قبل خمسة عشر عامًا تقريبًا، وأعمال المخرج الإيطالي كريس كريبينانو، تتمحور حول حياة المهاجرين والصعوبات التي يواجهونها في رحلاتهم هربًا من كابوس القارة الأفريقية إلى حيث حلم القارة الأوروبية. وقد عرض فيلم “المتوسطي” بعدة مهرجانات دولية هذا العام وكان أهمها، مهرجان “كان” السينمائي ضمن “أسبوع النقاد” وترشح عنه لجائزتي الكاميرا الذهبية والنقاد، واشترك أخيرًا في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي، وفاز بالجائزة الرئيسية “الهرم الذهبية”، إلى جانب جائزة أحسن ممثل التي ذهبت لـ “قدوس سيون”.