محمد هاشم عبد السلام
16/6/2015
صور متنوعة لبدايات الكاميرا
تحتفل العاصمة الفرنسية باريس منذ نهاية مارس الماضي وحتى ما بعد منتصف يونيو هذا العام بذكرى مرور مائة وعشرين عامًا على تقديم أول عرض سينمائي للجمهور في عام 1895. وبهذه المناسبة الفريدة، يقام معرضًا احتفاليًا في قصر المعارض والاحتفالات التاريخي المهيب في شارع الشانزلزيه، والذي يحمل اسم “القصر الكبير”، مكرسًا بأكمله للسينماتوجراف وتسليط الضوء على الأخوين لوميير وإنجازهما الفارق، ويحمل عنوان “لوميير! اختراع السينما”.
تزامنًا مع مرور مائة وعشرين عامًا على تقديم أول عرض سينمائي مدفوع الأجر للجمهور في باريس، لا تزال فرنسا تحتفل بهذه الذكرى، والتي كانت بمثابة أول تدشين حقيقي لما بات يعرف الآن باسم دور العرض أو السينمات التجارية. ومن المعروف تاريخيًا أن أول فيلم للأخوين لوميير، والذي تم تصويره في ليون، كان قد عُرض في باريس لأول مرة في الثاني والعشرين من مارس عام 1895. وقد أعقب هذا العرض، آخر منظم ومفتوح للجمهور مقابل رسم دخول مدفوع، وكانت تلك بداية أو نشأة ما بات يُعرف بدور العرض أو السينمات على يديهما.
ولأن تلك المباني الخاصة أو السينمات لم تكن قد عرفت بعد في تلك الفترة قبل مائة وعشرين عامًا، فقد تم العرض التجاري الأول، في مكان يحمل اسم “الصالون الهندي”، وذلك في “الكازينو الكبير”، الذي كان يقع في شارع “بوليفار كابوشين”. وصار محله الآن أحد أهم وأشهر الفنادق الباريسية، والذي يوضع في مدخله لوحة رخامية بالفرنسية والإنجليزية تشير إلى أن أول عرض سينمائي مدفوع الأجر كان بهذا المكان. وكان ذلك في الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1895.
محاكاة للصالون الهندي
في ذلك العرض، تم تقديم أحد أشهر أفلام لوميير وهو بعنوان “رش البستاني بالماء”، إلى جانب العديد من الأفلام الأخرى القصيرة، وكان الفيلم من إخراج لويس لوميير، وهو لم يكن فيلمًا بالمعنى المتعارف عليه الآن، فقط دقيقة وبضع ثوان. لكنه في النهاية كان أول فيلم خيالي أو روائي وليس تسجيليًا. وكانت قصته تدور حول بستاني يروي حوض زرع بخرطوم ثم يطأ صبيًا الخرطوم بقدمه، فينقطع تدفق المياه فيتعجب البستاني وينظر في فوهة الخرطوم، وعندئذ يُحرِّر الصبي الخرطوم، فينطلق الماء مُبللا وجه البستاني، فيضرب البستاني الصبي على مؤخرته.
والجدير بالذكر أن الأخوين أوجست ولويس لوميير، كانا أول من فكر في استغلال اختراع كاميرا السينما كأداة تجارية ناجحة مستقبليًا على المدى البعيد، تنطوي على إمكانيات هائلة قد تجعلها تدرّ أرباحًا وتجذب الجماهير الغفيرة وتنشئ صناعة كبيرة بحق. وقد تحقق لهما هذا بالفعل على المدى البعيد، وربما لهذا السبب رفضا بيع اختراع السينماتوجراف إلى جورج ميليس الذي عرض عليهما 30 ألفًا من الفرانكات مقابل الحصول عليه، ونفس الأمر تكرر مع توماس إديسون الذي حاول شراء الاختراع واستغلاله تجاريًا.
بعد ذلك العرض الأول المدفوع بفترة قصيرة، انتشرت بالفعل عروض السينما في الكازينوهات والمسارح والأماكن الخاصة، وصارت تسمى عروض “النيكولوديون”، نظرًا لأن رسم الدخول لها كان عملة نقدية مقدارها “نيكل” واحد. وكانت تعرض في تلك الأماكن عدة أفلام، عشرة على الأكثر، واحدًا تلو الآخر، نظرًا لأن الأفلام كانت قصيرة لا يتجاوز زمن عرضها الدقيقة أو أكثر قليلا.
جهاز الفانوس السحري القديم
من خلال معرض “لوميير! اختراع السينما”، يمكن للزوار، عبر العديد من أجنحته، الاطلّاع على الكثير من الأفلام التي قام معهد لوميير في ليون بترميمها وصيانتها، إلى جانب مشاهدة العديد من الأجهزة القديمة التي سبقت اختراع آلة السينماتوغراف، على النحو الذي نعرفه الآن، مثل المصباح أو الفانوس السحري، والكينتوسكوب، والزيوتروب وغيرها من الآلات التي كانت بمثابة تجارب وإرهاصات تمخضّت في النهاية عن اختراع السينماتوجراف.
ومن اللافت في المعرض أنه قد تم بناء نموذج تجسيدي يحاكي الصالون الهندي تمامًا، تعرض به نفس الأفلام القصيرة التي كانت قد عُرضت به أول مرة. ومن خلال المعرض نعرف أن صاحب الكازينو لم يكن مقتنعًا ولا مؤمنًا بفكرة السينما وجدواها التجارية، وأنه رفض أن يشارك بنسبة في الإيرادات، وفرض إيجارًا قدره 30 فرانكًا يوميًا. وأنه قد وضع بالقاعة ما يقرب من مائة كرسي للجمهور، لكن لم يحضر في اليوم الأول سوى 33 شخصًا فقط، من بينهم الرائد العظيم جورج ميليس، لكن بعد أسابيع قليلة فحسب بدأت الوفود تتدافع لرؤية السينماتوجراف حتى وصل العدد إلى 2500 متفرج يوميًا.
كذلك أيضًا يمكن الاطلّاع على الكثير من اللقطات والأشرطة القديمة التي صُوِّرَت بمعرفة مراسلين لوميير في العديد من بلدان العالم، والتي كان من بينها فلسطين ومصر. أيضًا، بالإمكان رؤية بثّ حي للقطات من شوارع وميادين العديد من عواصم وبلدان العالم مثل نيودلهي وباريس ونيويورك ودبي والقاهرة وبيروت وأثينا وغيرها، وذلك عبر شاشات تليفزيونية صغيرة مثبتة بأحد الجدران الضخمة في ربط بين الماضي وما صار إليه الحاضر من تطور بفضل اختراع الكاميرات، وذلك تحت عنوان “إتاحة العالم لكل العالم”.
وفي أحد الأقسام يطالع الزائر لوحات زيتية ومجسمات نصفية وشجرة عائلة ضخمة تبين وتوضح تاريخ عائلة لوميير ومولد أوجست ولويس والأبناء وغيرهم حتى تاريخ الوفاة. بعد ذلك يطالع الزائر ركنًا خاصًا مكرسًا لعرض نموذج مبسط من فكرة الديوراما والفوتوراما واللتين سبقتا البانوراما، والتي كانت جميعها من بين ما ألهم وأسهم في اختراع السينما.
في إحدى الحجرات المخصصة للعرض السينمائي، وتحمل عنوان “إلقاء المزيد من الضوء على الأخوين لوميير”، نشاهد فيها فيلمًا تسجيليًا يتحدث فيه عظماء المخرجين من جميع أنحاء العالم، شابرول وسكورسيزي وكوبولا وأنجلوبولوس عن تجاربهم السينمائية الأولى، وذلك في ضوء تعرُّفهم على السينما لأول مرة، وبفضل لويس وأوجست لوميير وتأثيرهما على السينما، ودورهما في تطور هذا الوسيط إلى جانب غيرهما من الرواد الأوائل.
وبجوار تلك الحجرة أو القاعة الصغيرة نجد أخرى تعرض فيلمًا تسجيليًا مميزًا، وذلك تحت عنوان “من التقليدي إلى الديجيتال”. أيضًا يتحدث فيه مجموعة من كبار المخرجين المعاصرين والمصورين والمونتيرين عن السينما منذ بداياتها التقليدية وحتى وصولها إلى العصر الرقمي وتقنيات الديجيتال وأحدث ماكينات التصوير، والفرق بين الماضي والحاضر، وأيهما سيصمد أكثر، ومن بين من ظهروا في الفيلم سكورسيزي، وويس أندرسون، وجميس كاميرون، وسبيلبيرج، وأليخاندروا جونزاليس، وفيتوريو ستورارو وغيرهم.
يفصل بين هاتين الحجرتين جدارية ضخمة بارتفاع أكثر من عشرين مترًا تعرض على نحو أيقوني مصغر، جميع الأفلام التي قام بتصويرها وإخراجها أوجست ولويس لوميير وذلك في الفترة من عام 1895 وحتى عام 1905، والتي بلغ عددها على وجه التحديد 1422 فيلمًا، متفاوتة من حيث الطول وأماكن التصوير وطبيعة الموضوعات.
قبل أن يُنهي الزائر جولته للمعرض يتوقف أمام أحد الأفلام الرائدة للأخوين لوميير والتي تعتبر بمثابة إرهاصات لما يعرف اليوم باسم سينما الأبعاد الثلاثية، حيث تكتشف بالفعل عند مشاهدة الفيلم، الذي تم تصويره بإحدى محطات القطارات، من زاوية ومسافة معينة ومن دون نظارات أنه يقترب إلى حد كبير جدًا من تقنية الأبعاد الثلاثية المعروفة اليوم. والفيلم تم إعداده من جانب إحدى الشركات خصيصًا كي يعرض بالمعرض من دون الحاجة لوضع النظارات لمشاهدته. في حين أنه بعد تصوير هذا الفيلم بواسطة الأخوين في عام 1935، وعند عرضه على مجموعة من العلماء لاختباره، كان بحاجة وقتها لارتداء نظارات مشاهدة ذات عدسات زرقاء وصفراء.
وفي النهاية يجد الزائر نفسه أمام نموذج شديد الضخامة لمنزل الأخوين لوميير بليون والذي تحول الآن إلى معهد ومختبر الأخوين لوميير. ثم كابينة زجاجية بها بكرات أو فصول فيلم “الحياة الحلوة” لفيدريكو فيلليني، وبجوارها نسخة صغيرة الحجم جدًا من الفيلم موضوعة على شريط “دي سي بي”. ثم أخيرًا، يطالع الزائر لوحة شرفية مكتوب عليها أسماء من حصلوا على جائزة “لوميير السينمائية”، وكان أولهم كلينت إيستوود عام 2009، ثم ميلوش فورمان، وجيرار ديبارديو، وكين لوش، وتارانتينو، وأخيرًا بيدرو ألمودوفار العام الماضي 2014.