محمد هاشم عبد السلام
منذ مطلع هذا العام، والعالم السينمائي يحتفل بمرور مئة عام على مولد المخرج والمبدع القدير أورسون ويلز، الذي في ولد في السادس من مايو عام 1915. وقد احتفلت العديد من المهرجانات، ولا تزال، بتلك الذكرى المهمة، وذلك بعرض أفلامه الكبيرة المكتملة بعد ترميمها أو بعرض أحدث الأفلام التسجيلية التي قدمت عن حياة وأعمال أورسون ويلز. ومن بين الكثير من الأفلام التسجيلية التي ظهرت مؤخرًا عن ويلز، يبرز فيلم “الساحر: الحياة والأعمال المدهشة لأورسون ويلز”، الذي قم بإخراجه المخرج التسجيلي الأمريكي المتميز تشاك وركمان.
من المؤكد أن شخصية فنية بحجم وقامة أورسون ويلز تعتبر مادة ثرية مغرية لإخراج الكثير من الأفلام عن حياتها الشائكة وأعمالها المثيرة، في مختلف الأجناس الفنية، التي قدمتها على مدار مسيرتها المهنية. وقد كان من الطبيعي أن يترواح مستوى تلك الأعمال بين الرديء والمتوسط والجيد، بين السطحي والعميق. ومن بين العديد من الأفلام التسجيلية التي ظهرت مؤخرًا عن أورسون ويلز، خاصة تلك التي تم إنتاجها نهاية العام الماضي أو مطلع هذا العام بمناسبة ذكرى مئوية مولده، يعتبر فيلم “الساحر: الحياة والأعمال المدهشة لأورسون ويلز” من أهم وأقوى الأفلام، بل والأكثر تميزًا واكتمالا وإضافة لما هو جديد وشائق عن حياة ويلز. وقد عرض الفيلم في العديد من المهرجانات الدولية، ومن أهمها تورنتو وميونخ.
يتناول تشاك وركمان، الحائز على العديد من الجوائز، أهمها الأوسكار عام 1987 عن فيلمه البديع “صور ثمينة” الذي يرصد فيه أهم أفلام السينما الأمريكية في مائة عام، يتناول في فيلمه الجديد، الذي يمتد زمن عرضه لساعة ونصف الساعة تقريبًا، حياة الممثل والكاتب والمخرج الأمريكي الكبير جورج أورسون ويلز، الذي ولد في مايو عام 1915، ورحل في أكتوبر عام 1985، وهو في السبعين من عمره. وذلك بعد مسيرة فنية حافلة مليئة بالكثير من الإبداعات المتألقة، والعديد من النجاحات والكثير من الإخفاقات أيضًا. وذلك منذ أن كان صغيرًا في سن العاشرة، حيث كان عازفًا موسيقيًا بارعًا، ثم مخرجًا مسرحيًا متألقًا بين أقرانه في إخراج أعمال شكسبير وهو في الرابعة عشر، ثم كرسام في السادسة عشر، وبعد ذلك كنجم تمثيل مسرحي وإذاعي وهو في العشرين من عمره.
يستعرض الفيلم، فيما يتعلق بحياة ويلز المهنية، الجوانب العديدة التي برع فيها ويلز، وكان يمارسها إلى جانب التمثيل والكتابة والإخراج. فنكتشف، على سبيل المثال، أنه قد صمم المناظر والديكورات وكذلك الملابس وغيرها، بل وأبدع أيضًا وابتكر وأدخل الجديد في كل مجال منها، ولم يكن ذلك فقط في مجال السينما. حيث كان ويلز، المتفجر بالطاقة والنشاط الإبداعي، بارعًا في مجال المسرح والراديو أيضًا، وحتى الشاشة الفضية أو التليفزيون. إلى جانب كونه، بالطبع، من أهم المخرجين المستقلين في تلك الفترة، وأيضًا أحد نجوم هوليوود في وقت من الأوقات، وفي فترة لاحقة أحد أسباب المشاكل والمعارك معها.
كذلك يتطرق الفيلم إلى حياة ويلز العاطفية ومغامراته الكثيرة سواء داخل الحقل السينمائي مع العديد من النجمات أو خارجه. وكذلك زواجه لثلاث مرات في مراحل مختلفة من حياته، وكانت من أشهر زوجاته النجمة والممثلة ريتا هيوارث. وإنجابه لأربعة من الأبناء من زيجاته الثلاثة. وفي هذا السياق يتحدث ويلز عن تلك الفترات المهمة في حياته كزوج وأب، مر بمراحل نجاح وسعادة ثم إخفاق وفشل، وأيضًا محاولاته قدر المستطاع أن يكون أبًا مثاليًا لولديه وابنتيه، ميشيل وكريستوفر وبياتريس وريبيكا. وتظهر في الفيلم كل من بياتريس وريبيكا، وتتحدثان عن والدهما وأعماله.
يستعين مخرج الفيلم في استعراض حياة وأعمال ويلز بالعديد من اللقطات الأرشيفية النادرة فعلا من أعمال وحياة أورسون ويلز. وكذلك بعض المقابلات والحوارات والمقاطع الفيلمية القديمة المصورة معه في مراحل مختلفة من حياته. إضافة إلى الكثير الصور الفوتوغرافية، والعديد من اللوحات بريشة أورسون ويلز نفسه أو الاسكتشات الخاصة به التي رسمها لبعض الشخصيات، خاصة المسرحية.
يظهر في الفيلم الكثير من أصدقاء ويلز والزملاء الذين عملوا معه، سواء في مقاطع حوارية حديثة أو قديمة، كما يستضيف المخرج أيضًا بعض النقاد والمخرجين للتحدث عنه، ومنهم على سبيل المثال، من المخرجين السينمائيين بيتر بوجدانوفيتش وكوستا جافراس وريتشارد لينكليتر وستيفن سبيلبيرج وويليام فريدكين ومارتن سكورسيزي وجورج لوكاس وسيدني بولاك، ومن المخرجين المسرحيين بيتر بروك، ومن بين النقاد السينمائيين إلفيس ميتشيل، وكذلك المونتير روبيرت وايز.
تميل بنية فيلم “الساحر” لتشاك واركمان إلى اعتماد منهجية قديمة بعض الشيء تعمل على تقسيم الفيلم إلى عدة أجزاء متفاوتة زمنيًا ترصد حياة أورسون ويلز على نحو يتقاطع مع سيرته. يحمل الجزء الأول عنوان “الفتى المعجزة” ويغطي الفترة من عام 1915 إلى 1941، والثاني بعنوان “الغريب” ويمتد من عام 1942 إلى 1949، و”الغجري” الذي يرصد الفترة من عام 1950 إلى 1958، ثم “طريق العودة” وهو عن الفترة من عام 1958 إلى 1966، وأخيرًا “الأستاذ” الذي يمتد من عام 1966 وحتى وفاة ويلز عام 1985.
لم يُظهر تشاك وركمان ضيوفه على النحو العادي والمنتشر في الغالبية العظمى من الأفلام التسجيلية، حيث يجلس الضيوف يتحدثون طويلا أمام الكاميرا، بل استخدم تقنية المونتاج كي يجعل من مقابلة وحديث كل ضيف موزعة على امتداد الفيلم. إضافة إلى استخدامه لصوت المتحدث فقط، وتلك التقنية لجأ إليها كثيرًا طوال الفيلم حتى مع صوت ويلز نفسه، للتعليق على الصور أو المشاهد المعروضة أو جعل الصور والمشاهد تضيف إلى أو تُكمل أو ما يتحدث عنه الضيف وتوضحه وتؤكده.
كما يرصد الفيلم على ألسن الضيوف وعبر العديد من اللقطات الأرشيفية شخصية ويلز على أفضل ما يكون، بكل سلبياتها وإيجابياتها، شطحها وتكاسلها، حزنها وفرحها، انكساراتها وانتصاراتها. وكيف كان ويلز ساخرًا عظيمًا حتى من نفسه أو مهنته وإخفاقاته ونجاحاته أو مرهف الحس والمشاعر. وفي أحيان كثيرة نكتشف كم هو متحدث جيد ولبق لأكثر من لغة، وفنان من عيار ثقيل لا سيما عندما يتحدث عن الفنون بصفة عامة والسينما بصفة خاصة.
وقد رصد الفيلم بطبيعة الحال كل ما يتعلق تقريبًا بفيلم “المواطن كين” ونجاحه وقضية فيلم “آل أمبرسون الرائعون”، إلى جانب التركيز على العديد من الأعمال غير المكتملة مثل، “دون كيخوته، وتاجر البندقية، والملك لير، والجانب الآخر للريح، والحالمون”، وغيرها من الأعمال. وذلك على نحو يذكرنا دون شك بالأعمال غير المكتملة للأديب التشيكي العظيم فرانز كافكا. الأمر الذي يمكننا معه الإشارة إلى ويلز باعتباره كافكا السينما، إن جاز التعبير، فيما يتعلق بتلك النقطة تحديدًا. والمعروف أن أورسون كان قد أخرج، على طريقته الخاصة، واحدة من أهم وأعظم أعمال كافكا، وهي رواية “المحاكمة” وذلك في عام 1962.
بالرغم من أن الفيلم تعرض لبعض الجوانب السلبية في حياة ويلز، وطريقة عمله التي جلبت له الكثير من المتاعب المادية على المستوى الشخصي أو المشاكل فيما يتعلق بتمويل أعماله واستكمال وإنهاء العالق منها أو إنجاز المشاريع التي لم تر النور، إلا إنه لم يوضح لنا على نحو جلي أسباب كل مشكلة منها على حدة، وهل كان الأمر مرده لويلز نفسه ولطبيعة شخصيته، أم لشبح “المواطن كين” ونجاحه الذي ظل يطارده طوال حياته، أم لظروف الإنتاج والمنتجين والسوق، أم لكل تلك الأسباب وغيرها أيضًا؟ كذلك أسرف تشاك واركمان، بعض الشيء، في استخدام الكثير من اللقطات الفيلمية غير المؤثرة، لدرجة إدراجه بعض اللقطات التي لا لزوم لها من أفلام استهلمت أعمال ويلز أو ورد اسمه أو اسم أعماله فيها.