أجرى المقابلة: ديفيد سيلفستر
ترجمها عن الفرنسية: بول أوستر
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
ولد ألبرتو جياكوميتي في أكتوبر عام 1901 في الجزء الناطق بالإيطالية من سويسرا، وانحدر من خلفية فنية، كان والده جيوفاني من رسامي ما بعد الانطباعية، وكان معروفًا جدًا. كان ألبرتو الأكبر بين أربعة أطفال وكان قريبًا دائمًا بصفة خاصة من شقيقه دييجو الأقرب إليه في السن. من البداية كان مهتمًا بالفن: “باعتباري طفلاً، كان أكثر شيء رغبت في عمله هو تزويد القصص بالرسوم. أول رسم أتذكره كان رسمًا مجسدًا لحكاية خيالية: سنووايت في النعش الصغير، والأقزام”.
يتذكر شبابه الذي كان سعيدًا جدًا. تذكر أيضًا ثقته بنفسه التي تصل حد التكبر: “اعتقدت أنني يمكنني أن أنسخ أي شيء على الإطلاق، وأنني أكون مستوعبًا لهذا الشيء بدرجة أفضل من أي شخص آخر”. لكن هذه الثقة الزائدة بدأت في التزعزع في عام 1919:”ذات مرة في استوديو والدي، عندما كنت في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة، كنت أرسم بعض ثمار الكمثرى التي كانت فوق الطاولة – في المسافة المعتادة للصور الساكنة. لكن ثمار الكمثرى أخذت تبدو أصغر وأصغر. بدأت ثانية، ودائمًا كانت ترجع إلى نفس الحجم بالضبط. غضب والدي وقال: الآن ابدأ في رسمها كما هي عليه، كما تراها”. وقام ألبرتو بعد ذلك بتصحيحها إلى الحجم الطبيعي.
يقول جياكوميتي: “حاولت رسمها بنفس الكيفية، بالحجم الطبيعي، لم أستطع أن أحول دون مسحها، لذلك مسحتها، بعد نصف ساعة كانت كمثراتي صغيرة في حجم المليمتر تمامًا كالثمرات التي رسمتها في البداية”.
سمح له والده بالانقطاع عن الدراسة كي يجد ذاته، لكن بدلاً من العودة إلى المدرسة فيما بعد، ذهب جياكوميتي إلى مدرسة الفنون والصنائع اليدوية في جينيف، حيث درس كعضو في حلقة “أرشيبينكو”. وفي مايو 1920 ذهب إلى فينيسيا لحضور بينالي حيث كان والده يعرض أعماله هناك، وهناك اكتشف تينتوريتو، الذي أثر فيه بنوع من الحيوية. لكن في طريق عودته زار”بادوا”، حيث اكتشف رسوم جيوتو في كنيسة أرينا الصغيرة: “أصابتني الرسوم الجصية لجيوتو بضربة ساحقة في الصدر، فجأة وجدت نفسي بلا هدف وضائعًا، شعرت بألم عميق وحزن عظيم”.
قام ألبرتو بعد ذلك بزيارة إيطاليا مرتين أخريين في تعاقب سريع. أثناء الزيارة الثانية، أصيب الرجل الهولندي العجوز الذي وافق على أن يصاحبه في الرحلة، والذي كان في الحقيقة لا يكاد يعرفه، أصيب فجأة بالمرض ومات. ترك موته انطباعًا كبيرًا في جياكوميتي الشاب – قال فيما بعد إن هذا كان السبب في أنه عاش دائمًا دونما استقرار، بأقل قدر من الممتلكات قدر الإمكان: “توطد نفسك، وتؤثث بيتًا، تنشئ حياة مريحة، وتجعل ذلك الخطر يشغل بالك طوال الوقت. كلا، أنا أفضل العيش في الفنادق، والمقاهي، مجرد عابر”.
في 1922 ذهب جياكوميتي إلى باريس، للدراسة على يد النحات بورديل في”جران شومير”، وفي 1925 أنشأ هو وأخيه دييجو مرسمًا معًا. في 1927 أقام أول معرض في جاليري للفنون التشكيلية في زيورخ، وفي نفس السنة انتقل الأخوان إلى استوديوهين ضيقين في شارع “هيبوليت مينديرون” حيث ظل ألبرتو يستخدمهما حتى نهاية حياته.
في 1928 قام بعرض تمثالين في جاليري “جين بوشر”. لم يتم بيع التمثالين على الفور فقط، لكنهما أيضًا جعلا جياكوميتي على اتصال بالطليعيين الباريسيين، بالتحديد، التقى بماسون والحلقة المحيطة به. في 1929 وقع عقدًا مع بيير لويب، التاجر الفني المفضل لدى السيرياليين آنذاك، وكان هذا العقد قد تبعه دعوة للانضمام إلى الجماعة السريالية.
أول معرض له بمفرده كان في 1932، استحدث طريقة في عرض الموضوعات السريالية باستخدام التلميحات الرمزية أو الشهوانية. كان الكثير من فن جياكوميتي في ذاك الوقت متأثرًا بالنحت البدائي الذي رآه في متحف “دي لا هوم” وكان لذلك التأثير استمراريته حتى بعد تغييره لمساره كفنان.
مثل الكثير من الفنانين الطليعيين وقتها، وجد جياكوميتي نفسه في مأزق. كان زبائنه من الشخصيات الأنيقة، وبالإضافة إلى ذلك دعّم دخله بعمل أشياء بغرض الديكور، بالاشتراك مع أخيه دييجو، لصالح مهندس الديكور البارز “جاك ميشيل فرانك”، لكنه كان مدركًا بشكل قوي للصراع الطبقي في فرنسا وتعاطف مع الجانب الخاسر.
لويس أراجون، عضو جماعة السيريالية الذي شعر نحوه برابطة قوية من التعاطف، استجاب لنفس التوترات والمشاعر بأن أصبح شيوعيًا ملتزم. تحرك جياكوميتي في اتجاهات مختلفة: فصل نفسه بشكل تدريجي عن السيرياليين وعاد، بردة كبيرة، إلى العمل باستخدام النموذج (الموديل) – بدأ بسلسلة من البورتريهات النصفية لدييجو. لم يحب بريتون هذا التطور وكان جياكوميتي قد استدرج إلى حضور ما اتضح أنه محكمة سريالية. قبل أن يبدأ جدول الأعمال بشكل تام، قال “لا تتضايقوا. أنا ذاهب”. واستدار خارجًا. لم يكن هناك عزل عام، لكن أصدقاءه في الحركة هجروه.
في أواخر سنوات الثلاثينات أعيق عن ممارسة عمله مرارًا وتكرارًا – أولاً عن طريق حادثة، عندما داست سيارة على قدمه، وبعد ذلك باندلاع الحرب. في 1941، في باريس زمن الحرب، قام بعمل صداقتين جديدتين غاية في الأهمية مع الفيلسوف جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. لكن عندما أحكم الاحتلال قبضته، انتقل إلى سويسرا، ليصل إلى جينيف في آخر يوم في عام 1941. عاش وعمل في حجرة صغيرة في فندق وأعان نفسه عن طريق عمل الأثاث وأعمال الديكور الداخلية التي كان يحصل عليها عن طريق أخيه برونو، الذي كان مهندسًا معماريًا. أثناء إقامته في جينيف، قابل “أنيت أرم”، التي تزوجها فيما بعد.
حدث تطور مهم في عمل جياكوميتي أثناء سنوات الحرب. في الفترة من 1935 – 1940 كان يعمل بالاعتماد على الموديل، وعمل أيضًا بعض اللوحات، ثم بدأ عندئذ في عمل الرؤوس والشخصيات الواقفة مستعينًا بالذاكرة، لكن كانت لديه التجربة التي تواكبت مع محاولته أثناء مراهقته المتأخرة لرسم الصور الساكنة للكمثرى في استوديو أبيه: “بسبب رعبي أصبحت المنحوتات أصغر وأصغر. فقط كلما كانت تبدو صغيرة، وكانت أبعادها في كل مرة تصيبني بنفس التأزم، كنت على الفور ودون كلل أقوم بالبدء في كل مرة من جديد، فقط للانتهاء، بعد بضعة أشهر، عند نفس النقطة”.
عندما حزم أمتعته ليغادر جينيف، كان إنتاجه الكلي أثناء وجوده هناك مناسبًا لملء نصف دستة علب كبريت. فقط عندما عاد إلى باريس بعد الحرب وجد نفسه قادرًا على عمل تماثيل بأبعاد أكثر طبيعية، لكنها كانت أطول وأنحف. أعاد شغل الاستديو الخاص به، الذي لم يكن قد أصيب بأذى، وبعد ذلك بفترة قصيرة انضمت إليه زوجته “أنيت”. في يناير 1948 تم عرض الأعمال الجديدة لألبرتو جياكوميتي في جاليري “بيير ماتيس” في نيويورك. فعلت مقدمة الكتالوج، المكتوبة بقلم سارتر، الكثير لنشر فكرة أن عمل جياكوميتي كان أحد حقائق الوجودية. من هذه اللحظة توهجت سمعته كنحات في فترة ما بعد الحرب، وكان هذا التوهج بوتيرة سريعة (أهملت لوحاته حتى أواخر سنوات الخمسينات).
أقام أول معرض أوروبي خاص بألبرتو جياكوميتي بمفرده، كُرِّسَ لأعماله الجديدة في “كنستال” في بازل في 1950، ومعرضه الأول بباريس منذ الحرب في جاليري “مايجت” في 1951. وقد شهد عام 1956 تطورًا إضافيًا في عمله – كان مأخوذًا بالرغبة في إنتاج اللوحات التي كانت تشابهاتها قوية ومميزة. تطلب كل بورتريه جلسات كثيرة، تصميم أوضاع الجلسات الخاصة بجياكوميتي تم وصفه في كتاب رصين مثير بقلم “جيمس لورد”، الذي ركّز على مشكلة الفنان نصف الهزلية في عجزه المتواصل عن الإمساك بدقة بما كان يريده. قال جياكوميتي نفسه ذات مرة: “إذا كان بوسعي القيام بعمل نحتي أو لوحة (لكنني غير متأكد أنني أريد ذلك) بالضبط بالطريقة التي أرغب فيها، فإن العمل سيتم الانتهاء منه سريعًا جدًا (لكنني غير قادر على قول أو ترجمة أو إبداع ما أرغب فيه). آه، أرى لوحات رائعة ومتألقة، لكنني لم أقم بعملها، لم يقم أحد بعملها. إنني غير قادر على رؤية تمثالي متجسدًا، أرى سوادًا”.
منح ألبرتو جياكوميتي الجائزة الكبرى للنحت في بينالي فينيسيا لعام 1962، والجائزة جلبت معها شهرة عالمية. كان صبورًا على عواقب الشهرة: “رفضت الإزعاج غير المطلوب المصاحب للنجاح بقدر ما وسعني. لكن ربما تكون أفضل طريقة لتحقيق النجاح هي الهروب منه. على أية حال، منذ هذا البينالي كان من الصعب جدًا أن استمر في المقاومة، رفضت الكثير من المعارض، لكن المرء لا يمكنه الاستمرار في الرفض إلى الأبد. لن يكون لذلك أي معنى”.
في سنوات الستينات أخذت صحة جياكوميتي في الضعف. في 1963 اجتاز عملية لاستئصال سرطان في المعدة. لم يتجدد السرطان مرة ثانية، لكن في 1965 تم تشخيص مرض القلب والالتهاب الشعبي المزمن. مات جياكوميتي في يونيو 1966 في كانتون سبيتال في “كور”، في سويسرا.
نص المقابلة
يتحدث النحات السويسري الإيطالي الأصل ألبرتو جياكوميتي في هذه المقابلة إلى الناقد الإنجليزي ديفيد سيلفستر عن معاناته مع النسب وصعوبات عمل العينين، في ترجمة للروائي الأمريكي الكبير بول أوستر.
ديفيد: أنت تقول دائمًا إن هذه النسب الدقيقة، والتي تجعلها أنت أكثر دقة، هي نسب لا دخل لك فيها. لكنك تصل إلى هذه النتائج في عملك. تقول إنك لا ترغب في هذه النتائج، لكنك تقوم باختزالها إلى هذه النسب.
جياكوميتي: أثناء فترة بعينها، أردت التعامل بالحجم، فيما أصبحت النسب صغيرة جدًا لدرجة أنها اختفت. ثم أردت التعامل مع ارتفاع معين، لكن النسب تقاربت. حدث كل هذا على غير رغبة مني، حتى عندما حاربت ضده. وعند محاربتي هذه، حاولت أن أجعلها متراوحة أكثر، وفي المرات التي أردت جعلها أكثر رحابة، أصبحت فيها أكثر ضآلة. لكنني لا أعرف ما هو التفسير الحقيقي. مازالت لا أعرف. فقط سأعرف بإنجازي للعمل الذي سأشرع في تنفيذه. لكن حتى الآن، كل ما يمكنني قوله هو أن الرأس ذات النسب المغايرة للنسب الحقيقية تبدو أكثر حيوية عن الرأس ذات النسب التي تبدو أكثر قربًا للحقيقة. وهذا يوقعني في الكثير من المتاعب…
ديفيد: سمعتك تقول، على سبيل المثال، عندما كنت تعمل على شكل منتصب: أن المزيد مما كنت تنحته، كان يزيد العمل بدانة. هل تعرف لماذا يحدث هذا؟
جياكوميتي: الذي أعرفه، أكثر من أي وقت مضى، أن المزيد مما أنحته، يؤدي إلى بدانة أكثر. لكن لماذا، أنا لا أعرف حتى الآن. فيما يتعلق بالتمثال النصفي الذي أنحته الآن، لم أقم إلاّ بالنحت، والتمثال بدين جدًا لدرجة أنني أشعر أنه لابد أنه كان أكثر امتلاء مرتين مما هو عليه في الواقع. لذا، كان عليّ أن أنحت، وأنحت، وأنحت… وهذا هو ما حطمني حقًا. كما لو أن المادة نفسها أصبحت وهمًا. لديك مقدار معين من الطين، وفي البداية ينتابك الشعور بأنك أعطيت أزيد أو أقل من المقدار الصحيح. ثم، لكي تجعل التمثال أكثر حقيقة، تنحت. ليس بوسعك سوى أن تنحت. إنه يصبح أبدن وأبدن. لكن عندئذ، إنه مثل المادة نفسها، بوسعك أن تمدده إلى ما لا نهاية. إذا عملت على كتلة صغيرة من الطين، ستبدو إنها قابلة لأن تصبح أكبر. المزيد من عملك عليها، سيؤدي إلى كبرها، وذلك الكبر الذي ستكون عليه ناتج ببساطة عن عملك عليها.
ديفيد: قد يكون التفسير المحتمل أنه عندما تكون التشغيلة أدق، وبناء عليه تكون أكثر تركيزًا كثافة، والتالي تمتلك محتوى أكبر من الطاقة، ثم، إذا هذه الطاقة، الدفينة الكامنة في هذا العنف الضمني، ازدادت، فإنها ستولد لدى المشاهد الانطباع بأن العمل النحتي يشغل حيزًا أو فراغًا أكبر. وإذا شغل حيزًا أكبر، فسوف يعطي الانطباع بكونه أكثر بدانة وامتلاء، ما رأيك؟
جياكوميتي: ربما يكون هذا جزءًا من الأمر، على أية حال، لكن أيضًا ثمة شيء آخر. إذا قمت بنسخ سطح الرأس بالضبط كما هي عليه في العمل المنحوت، فما الذي ستحتوي عليه في داخلها؟ لا شيء سوى كتلة كبيرة من الطين الميت الذي لا قيمة له. في الرأس البشرية، الداخل عضوي وله وظائفه تمامًا كالسطح، أليس كذلك؟ لذلك، فإن الرأس التي تبدو حقيقية، ولنقل رأس من عمل “هودون[1]“، مثل الجسر، جسر ذو سطح يمثل دماغًا، لكن سيتولد لديك إحساس بأن الداخل فارغ إذا كانت الرأس مصنوعة من الطين. وإذا كانت مصنوعة من الحجر، فستشعر أنها عبارة عن كتلة من حجر. وبالفعل، هناك شيء ما زائف، سواء كان فارغًا أو كتلة من الحجر، لأنه ليس هناك تماثل، ولأنه في جمجمتك ليس هناك مليمتر غير عضوي أو بلا وظائف.
لذا، بمعنى من المعاني، في الرؤوس الدقيقة نجد أن هناك فقط طينًا كافيًا لها كي تنتصب، ولا شيء أكثر من هذا. الداخل هو شيء ما ضروري إلى أقصى درجة. بالضرورة هناك تشابه كبير يكون مطلوبًا إلى حد بعيد مع الرأس البشرية وذلك بالمقارنة مع تلك الأعمال التي هي مجرد نسخة من الخارج، وأعتقد أن هذا هو السبب في أنه يكون ممكنًا القيام برسم مماثل لرأس، بينما هناك إمكانية أقل، أو عدم إمكانية لعمل نسخ لهذا الرأس في النحت.
اليوم في الظهيرة في المتحف البريطاني، كنت أشاهد الأعمال اليونانية، ولم أجد سوى صخور ضخمة، صخور ضخمة ميتة. عندما أنظر إلى شخص ينظر إليها، أجده لا يتمتع بأي امتلاء، إنه شفاف تقريبًا. خفيف جدًا. يمكن أن ترى أن وزن كل هذه الكتلة زائفًا. عندما يكون شخص ما حيًا، حتى إذا كان بدينًا جدًا، فإنه يعتبر نفسه خفيفًا جدًا. لذا، إذا قمت بعمل أشكال بالحجم الطبيعي وأصبحت نحيفة جدًا، فلابد أن ثمة دافع هناك: سبب واحد هو أنه، وهو ما ينطبق عليها جميعًا، يجب أن تكون خفيفة بدرجة كافية تسمح لي بحملها بيد واحدة ووضعها إلى جواري في التاكسي.
ديفيد: تزداد المشكلة صعوبة عندما يقوم المرء بطلاء نحت من الطبيعة مباشرة، ففيما يتعلق بالسطح يكون لديك وهم كاذب دقيق جدًا، وفيما يتعلق بالداخل، لا شيء سوى البرونز، أو الطين، أيًا كان هذا الداخل، إذن بهذا المعنى فإنه يعتبر أكثر زيفًا.
جياكوميتي: نعم ولا. على سبيل المثال، يبدو النحت نحيفًا عندما يكون غير مدهون، فالنحت المدهون، يبدو تقريبًا كما نراه. أنا لا أعرف ما الذي يحدث إذا جعلته أكثر امتلاء أولاً ثم أقوم بدهانه بعد ذلك. لكي تقوم بعملية الطلاء، من المحتمل أن يصير الحجم أكثر اختزالاً مما اعتقدت أنه سيكون عليه. لأن اللون الفاتح يمدده، إنها تزيد الحجم (هذا ما تراه على الكانفا، ألا تعتقد هذا؟). لذا ربما، لكي تقوم بالطلاء، فإنه يجب أن يكون التمثال نحيلاً عما اعتقدت في البداية.
ما أعرفه هو أنني لن أقدر فعلاً على نحت عين كما أراها. لم أنجح في ذلك لا في النحت ولا في الرسم أيضًا، لكن بدرجة أقل في النحت، لأنك إذا نظرت مباشرة في خط مستقيم إلى عين، فإنها لن تبدو شديدة الانتفاخ أو الجحوظ. إذا نظرت إليها من الجانب، ستبدو حادة البروز تقريبًا، أليس كذلك ؟ إذن، إنهما شيئان متناقضان: الحقيقة هي أن العين متسعة وبارزة إلى حد ما في نفس الوقت. كيف تنحت شيئًا مستديرًا وناتئًا معًا في نفس الوقت؟
ستعتقد أنك إذا نظرت إليها مباشرة في إضاءة ساطعة جيدة، فإنك ستقدر على نحت منحنى العين، على تجسيدها وإبرازها كما تراها، لكن بالنسبة لي يبدو ذلك أنه تقريبًا الشيء الأكثر استحالة في العالم. ليس مستحيلاً فقط بالنسبة لي، لكن بالنسبة للجميع، في كل مكان، وبشكل دائم. العيون الوحيدة التي تبهرني على الإطلاق ودائمًا هي التي للمنحوتات التي يطلق عليها “رفيعة المستوى”. وبخاصة النحت المصري، والبيزنطي، أيضًا.
ديفيد: في الواقع، لقد قمت برسم كثير من منحوتاتك على نحو جميل وملائم، لكن على نحو مغاير غير متناسق.
جياكوميتي: بعدما بدأت ممارسة النحت بقليل، قمت بدهان بعضها، ثم دمرتها كلها. بدأت ثانية عدة مرات. وفي 1951، قمت بدهان سلسلة كاملة من المنحوتات. لكن بدهانها، ستكتشف ما ينقص الشكل. إنه من غير المجدي دهان شيء أنت لا تؤمن به. حاولت ثانية منذ شهر. أثناء طلائي لها، ظهر النقص في الشكل.
لذلك لا يمكنني أن أخدع نفسي موهمًا إياها بأنني قد أنجزت شيئًا عن طريق دهان أعمالي، إذا لم يوجد طائل من وراء دهانها. لذلك يجب عليّ أن أضحي بالدهان وأحاول العمل على الشكل. بنفس الطريقة التي ينبغي عليّ فيها التضحية بالشخص بأكمله كي أعمل على الرأس، بنفس الطريقة التي ينبغي عليّ فيها التضحية بالمنظر الطبيعي بأكمله لأعمل على ورقة نبات، أو كافة الأشياء الأخرى للعمل على كوب.
كنت أعتقد حتى العام الماضي أنه من السهل جدًا أن ترسم مفرشًا فوق منضدة مستديرة، وأنه من المستحيل تمامًا أن ترسمه كما تراه. الشيء المهم هو أقصى التركيز مع ترك المفرش حتى يتسنى لك استيعابه قليلاً، بقدر استطاعتك، حتى وإن لم تستطع. ينبغي عليك التضحية بالطلاء وبالرسم، والنحت، والرؤوس وكل شيء آخر، وتجبر نفسك على البقاء في الحجرة، أمام نفس المنضدة، ونفس المفرش، ونفس الكرسي، وألاّ تفعل سوى هذا. وأنا أعرف مقدمًا أنه كلما كانت محاولاتي مضنية فإن الأمر يصير أكثر صعوبة. شيئًا فشيئًا تم اختزال حياتي إلى لا شيء تقريبًا. إنه لمن المحبط جدًا أن تفعل هذا لأنك لا ترغب في التضحية بكل شيء. لكن مع ذلك، إنه الشيء الوحيد الذي يجب عليك عمله. ربما، أنا لا أعرف.
لكن على أية حال، بمجرد أن أصبح أنا أكثر حساسية نحو مسافة القدم والنصف التي تفصل المنضدة عن الكرسي، فإن الحجرة، أية حجرة، تصبح وإلى ما لانهاية أكبر مما سبق. تصبح واسعة بدرجة تسمح لي بالعيش فيها. تدريجيًا، تتسع وتستوعب خطواتي كلها.
لهذا السبب لم أعد أمارس المشي. الخطوات التي أستغرقها الآن هي في الذهاب إلى المطعم القريب، والمقهى، في الذهاب إلى الأماكن التي ينبغي عليّ الذهاب إليها، وأفضل أن يكون ذلك بالسيارة عن أن يكون سيرًا: لم يعد السير باعثًا على المتعة. والمتعة التي كانت تتأتى من المشي في الغابة تلاشت بالنسبة لي، لأن أول شجرة أصادفها على الرصيف في باريس قد صارت كافية بالفعل. ذلك كاف بالنسبة لي فيما يتعلق بالأشجار، فرؤية اثنتين منها ستصيبني بالخوف. اعتدت القيام بجولات، لكن المشكلة الآن فيما يتعلق بالقيام بها أو عدمه تصيبني كلية بحالة من البرودة. الفضول لرؤية شيء ما تقلص، لأن كوبًا على المنضدة يذهلني كثيرًا عن ذي قبل.
إذا أذهلني الكوب الموجود هناك أمامي أكثر من كل الأكواب التي رأيتها في اللوحات، وإذا اعتقدت أنه حتى أعظم أعجوبة معمارية لا تقدر على إبهاري أكثر من هذا الكوب، فإنني لست بحاجة فعلاً للذهاب في الطريق الطويل إلى الهند لرؤية هذا المعبد أو ذاك، مادام لديّ العديد منها أمامي. لكن إذا أصبح هذا الكوب أعجوبة الأعاجيب، فإن كل الأكواب الموجودة على سطح الأرض ستصبح كذلك أعجوبة الأعاجيب. الشيء نفسه مع الأشياء الأخرى. إذن، بحصر نفسك في كوب واحد، فإنك ستمتلك مفهومًا أفضل كثيرًا لكل الأشياء الأخرى أكثر مما لو أردت عمل وفهم كل شيء. بامتلاكك ربع بوصة من شيء ما، تكون لديك فرصة أفضل في التعامل مع إحساس معين خاص بالعالم مما لو تظاهرت بامتلاكك للسماء بأسرها. في مقابل هذا، تبدو محاولة رسم كوب كما تراه ببساطة، تبدو كمحاولة متواضعة نوعًا ما. لكن لأنك تعرف أن حتى هذا مستحيل تقريبًا، فإنه لا يمكنك القول إن كانت هذه المحاولة متواضعة أو مثيرة للفخر. من هنا تجد أن كل شيء يدور في دوائر مفرغة.
[1] جان أنطوان (1741 – 1828) نحات فرنسي.