محمد هاشم عبد السلام

 

ينحدر ليوبولد بلوشكا من عائلة عريقة في صناعة الزجاج. منذ القرن الخامس عشر عُرفت عائلة بلوشكا، وبصفة خاصة الجد في مدينة براغ بالمهارة في صناعة الزجاج المزخرف. عاشت العائلة لفترة من الوقت في شمال النمسا ثم بعد ذلك في بوهيميا، الآن في جمهورية التشيك، حيث امتلك جد ليوبولد ورشة لأعمال النجارة وفرنًا للزجاج. انتقل الابن الثاني لبلوشكا وهو جوزيف والد ليوبولد، للعيش في أيشة (Aicha) في شمالي بوهيميا، بالقرب من ليبيريك وترتوف. هناك في تلك المنطقة التي اشتهرت بمعالجة الزجاج والمعادن والجواهر، ولد ليوبولد في السابع والعشرين من مايو عام 1822. وكان الابن الأصغر بين ثلاثة من الأبناء.

أظهر ليوبولد موهبة مبكرة في فن الرسم كانت تقتضي أن يقوم بدراسة الرسم في فيينا أو إيطاليا، إلاّ أن والده أراد له أن يصقل موهبته بمزيد من الممارسة العملية، ولذلك ألحقه لمدة عام بمخزن ومتجر لصناعة وبيع المجوهرات قبل الانضمام إلى أخيه ليتعلم ويتدرب على التعامل مع المعادن النفيسة وقطع الأحجار الكريمة. بدأ بعد عدة سنوات في العمل مع والده ليتعلم منه التقاليد العائلية المتوارثة الخاصة بمهارات التعامل مع الزجاج والمعدن، وبالإضافة إلى ذلك أتقن ليوبولد تقنية نفخ الزجاج وصار بارعًا فيها، وهو يعتبر من أوائل من عملوا في صناعة العيون الزجاجية في العالم.

تزوج ليوبولد في عام 1846 من ابنة مالك لمصنع محلي بنفس المنطقة، لكن زوجته توفيت أثناء وباء الكوليرا بعد أربع سنوات من زواجهما، وفي تلك الفترة عاني ليوبولد معاناة شديدة واعتلت صحته بدرجة كبيرة، أهمل ليوبولد في تلك الفترة حرفته وترك نفسه للأقدار تسوقه وفقما تشاء إلى أن شجعه طبيب محلي كان يمتلك مكتبة عامرة بكتب التاريخ الطبيعي على القراءة والولع بهذا الفرع من العلم. بدأ ليوبولد في رسم ودراسة الحياة النباتية، وبالتدريج أخذ يسترد صحته وازداد إقبالاً على الحياة، لكن بعد وفاة والده في عام 1852 شعر بالحاجة إلى  الذهاب بعيدًا، وفي أوائل عام 1853 سافر ليوبولد إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وأثناء توقف الرحلة الذي دام أسبوعين بسبب قلة الرياح، أتيح له الوقت لممارسة الصيد والقيام برسم لوحات عن الكائنات البحرية ومنها على سبيل المثال، قناديل البحر. كانت هذه هي الفرصة الأولى التي أتيحت له لدراسة المخلوقات البحرية والحياة الخاصة بها عن قرب، والتي كانت معرفته السابقة بها قاصرة فقط على الكتب والصور أو الرسوم التوضيحية المصاحبة لها، الأمر الذي لعب دورًا هامًا في حياة ليوبولد المهنية فيما بعد.

بعد وصوله إلى الولايات المتحدة الأمريكية مكث ليوبولد عدة أشهر بها حيث مارس التجارة لبعض الوقت وكانت متعلقة بإمداد عدد من بيوت المجوهرات الكبيرة هناك بما يلزمها من أعمال بالجملة. عاد ليوبولد إلى وطنه في العام نفسه 1853، وفي 1854 تزوج من “كارولينا ريجل”، وأنشأ ورشة للزجاج خاصة به في منزل والد زوجته، كما أتاحت له وظيفته كمشرف على العديد من العمال في ورشته الكثير من الوقت لمتابعة دراسته في علم النبات.

في السابع عشر من يونيو عام 1857 ولد رودولف بلوشكا، وفي ذلك الوقت تقريبًا كان ليوبولد قد بدأ في إجراء تجاربه الأولى لعمل مجموعة من الأزهار الصناعية مستخدمًا في ذلك مادة الزجاج، وكان من المستبعد بالنسبة له أن تمثل هذه النماذج شيئًا ذا قيمة في المستقبل، كما أنه لم يخطر بباله قط أن تؤرخ هذه النماذج في تلك الفترة للتاريخ الطبيعي.

كانت إبداعاته النباتية الأولى مبنية على أساس نباتات الأوركيد الموجودة في صوبات الأمير “كميل دي روهان”، ذلك الخبير المولع بالنباتات والذي كان يحرص على اقتنائها/ جمعها.

أبدع ليوبولد بلوشكا بين عامي 1860 و 1862 حوالي مائة موديل أو نموذج تقريبًا وكان نصف هذه المجموعة لأجناس وأنواع غريبة من النباتات.

قام الأمير روهان بتقديم ليوبولد إلى البروفيسور “لودفيج ريتشينباخ”، مدير المتحف الملكي للتاريخ الطبيعي والحديقة النباتية في دريسدن في ذلك الوقت، وأثمر هذا التعارف عن قيام البروفيسور لودفيج بتقديم اقتراح بعرض هذه النماذج الخاصة بنبات الأوركيد في الرواق الخاص بالحديقة النباتية في صيف 1863، لكن الأمر في ذلك الوقت لم يلق اهتمامًا وعناية حتى على المستوى التجاري، وجدير بالذكر أن تلك النماذج كانت بمثابة تجارب أولية لليوبولد الذي لم تكن مهارته قد صُقلت بعد في هذه النوع من الأعمال الزجاجية الحديث والغريب في نفس الوقت آنذاك. لكن كان من تبعات هذا المعرض أن اقترح رجل إنجليزي مقيم في دريسدن على ليوبولد القيام بعمل مجموعة من النماذج الجديدة عن قناديل البحر وذلك نظرًا للصعوبة الشديدة النابعة من استحالة الاحتفاظ بها كما هي لفترة طويلة من الوقت، وكذلك صعوبة تحنيطها. وقام هذا الإنجليزي بتزويده بالمراجع الخاصة بالكائنات البحرية وكان من بينها “أكتينولوجيا بريتانيكا: تاريخ قناديل البحر والمراجين في بريطانيا”، وكانت هذه الموسوعة قد نشرت حديثًا في ذلك الوقت.

اشترى البروفيسور ريتشينباخ على الفور مجموعة شقائق النعمان لصالح متحف دريسدن، وقام بعرضها في مجموعة من الأحواض الخاصة بأسماك الزينة مما جعلها تحظى بالاهتمام وتجذب انتباه الكثير من المتخصصين وأمناء متاحف التاريخ الطبيعي في جميع أنحاء أوروبا. وفي تلك الفترة بدأ ليوبولد في تزويد عدد من المتاحف وأيضًا عدد من المقتنين بمجموعة من شقائق النعمان.

عرضت هذه النماذج في المتاحف واستخدمت كوسائل بصرية تعليمية في الجامعات، والمدارس الثانوية والمؤسسات التعليمية الأخرى. جدير بالذكر أن النماذج الأولى هذه التي قام ليوبولد بصناعتها لصالح المتحف الملكي بدريسدن قد تم تدميرها في الحرب العالمية الثانية فلم يبق منها شيئًا.

اشتملت المجموعة الأولى من النماذج على حوالي ثمانية وستين “شقيق بحر” منتصبة فوق قواعد جبسية مطلية بالألوان لتعطي انطباعًا يماثل ما تعطيه الألوان الصخرية. بعد ذلك، وسع ليوبولد من قائمته وأضاف إليها مجموعة كبيرة من النماذج المجسدة للحيوانات، وقد أبدع في صناعة هذه المجموعة من النماذج وجعلها ذات ثلاثة أبعاد بدلاً من اقتصارها على بعدين فقط. لكن بالرغم من هذا كان لنقص الاهتمام التجاري والافتقار للخبرة العلمية والتشريحية والاعتماد على الرسوم التوضيحية المصاحبة للكتب العلمية ثنائية الأبعاد، كل هذا جعل النماذج غير دقيقة بعض الشيء وتفتقر إلى الأمانة التشريحية العلمية، وكانت تلك المثالب كثيرة، بالإضافة إلى بعض عيوب الصنعة.

في عام 1876، في سن التاسعة عشرة انضم رودولف إلى أبيه في ورشته الخاصة بصناعة النماذج الزجاجية. بدا هذا الدم الجديد في الورشة في إنعاش وإضافة لمسات فنية جديدة للأعمال، التي بدأ يتم توظيفها لأغراض الدراسة العلمية والعرض في المتاحف والمعارض المتخصصة بدلاً من اقتصارها على أغراض الاقتناء الشخصي والديكوري، وبالتدريج أخذت هذه النماذج تزداد دقة وتطورًا وتنوعًا.

كما كان للرحلة الاستكشافية التي قام بها رودولف في عام 1879، والدراسات التي أجراها على الكائنات البحرية في بحر الشمال والأدرياتيك، وبحر البلطيق والبحر الأبيض المتوسط، والعلاقات التي كونها مع علماء الأحياء النباتية والبحرية والمستكشفين، واطلاعه على الرحلات الاستكشافية العلمية في ذلك الوقت أثر كبير في إضفاء لمسات فنية جديدة على الأعمال، التي رغم أنها كانت تزداد صعوبة لجدة ودقة وتنوع الكائنات المكتشفة حديثة، إلاّ أنها صارت أيضًا أكثر دقة ومقاربة للأصول الحية، ونفس الشيء فيما يتعلق بالمهارة والصنعة.

كانت أجزاء النماذج يتم تشكيلها من الزجاج الصافي والملون معًا وذلك عن طريق المزج بين التقنيتين المستخدمتين في النفخ الزجاجي وصناعة المصابيح. كما كانت هذه الأجزاء تصهر صهرًا مباشرًا وأيضًا يتم لحامها عن طريق الإذابة أو التجميع باستخدام مواد سريعة اللصق – ربما كانت أصماغًا حيوانية. ومن المؤكد أنه كانت تستخدم مواد أخرى لكي تتم عملية بناء النماذج بالصورة التي نراها عليها الآن، لكن للأسف فإن القليل فقط من أسرار صناعتهما هو الذي وصلنا، وتمكن المتخصصون من تخمين بعضها، على سبيل المثال، تبين أن أسلاك التليفون الدقيقة كانت من المواد المستخدمة لأغراض التقوية أو تثبيت قرون الاستشعار والخياشيم الرقيقة الهشة، كما كان الورق الملون مستخدمًا وبمهارة فائقة في إبراز الهياكل الداخلية.

وكانت تضاف طبقة من البقع الصبغية الصغيرة والدقيقة، لتحاكي المادة الملونة الموجودة في أنسجة أو خلايا الحيوانات والنباتات، وغالبًا ما كانت تضاف في الطبقة على السطح الداخلي للزجاج، وكانت تطلى بعد ذلك بمادة أخرى تكسبها قدرًا من الشفافية أو نصف الشفافية، شبيهة بالجيلي. في حين تطلب الجلد السميك أو ذو الملمس الخشن، على سبيل المثال، طلاء معينًا ومادة المينا لإعطاء قدر من الكثافة المطلوبة، أو كان يتم يخلط الطلاء أو مادة المينا بمادة حبيبية – ربما كانت زجاجًا مصهورًا.

بعبقرية شديدة، استفاد ليوبولد ورودولف بلوشكا من عملهما وقاما بتوظيف المحارات (الأصداف) الحقيقة الخاصة بالكائنات الأرضية التي تعيش في المياه العذبة والبحار (البطنيات وهي رتبة من الرخويات تشمل الحلازين) وذلك بعد معالجتها، وقدما سلسلة من النماذج الزجاجية التي ثبتت هياكلها أو أجسامها على محار الرخويات من ذوات الصدفتين. كما أبدعا أيضًا سلسلة من النماذج التي اعتمدا فيها على تشريحهما الخاص للحيوانات البحرية التي كانا يحتفظان بها في أحواض ورشتهما، كأسماك الحبار والأخطبوط، ولم يكتفيا فقط بالاعتماد على الكتب والأوصاف التشريحية والرسومات التوضيحية الموجودة بها.

وجدت العديد من نماذج بلوشكا طريقها إلى متحف علم الحيوان المقارن، في هارفارد. وبحلول عام 1890، قررا عدم تقسيم وقتهما بين العمل على النماذج البحرية والنماذج النباتية، وذلك بعد أن قاما بالتعاقد مع جامعة هارفارد على إنتاج النماذج الخاصة بالنباتات فقط، وكان هذا العقد لمدة عشر سنوات ويتجدد بعد انقضاء المدة، وسرعان ما توقف عملهما فيما يتعلق بصناعة النماذج البحرية.

توفي ليوبولد في عام 1895 عن ثلاثة وسبعين عامًا. وفي الفترة التي مات فيها كانت المجموعة النباتية تتكون من قرابة 847 نموذجًا بالحجم الطبيعي، وما يزيد عن 3000 من الأزهار والنباتات المتنوعة. واصل رودولف العمل مع جامهة هارفارد بنفسه دون مساعدة من أحد حتى عام 1936، مع جامعة هارفارد. ومات رودولف في الثانية والثمانين من عمره بعد ثلاث سنوات من توقفه نهائيًا عن صناعة الأزهار الزجاجية.

ومازالت هذه المجموعة الفريدة حتى يومنا هذا العلماء والمهتمين من جميع أنحاء العالم إلى الولايات المتحدة لمشاهدتها. إنه لمن المدهش أن النماذج الزجاجية من النباتات والحيوانات لا يشوبها أي خطأ مورفولوجي، حيث استندت كل التفصيلات بها  لاختبار علمي، ولازالت حتى الآن مستخدمة كأهداف تعليمية وتوضيحية.

عندما مات رودولف 39، لم يترك أطفالاً. لم يتمهن أحد لا على الوالد ولا الابن وبذلك ظل سر صنعتهما حكرًا عليهما فقط ومات بموتهما. الورشة في “هوستير فيتز” أصيبت بقنبلة في نهاية الحرب العالمية الثانية. وبوفاة زوجة رودولف 1947 أقدمت مديرة المنزل على بيع المجموعة التي آلت إلى ملكيتها ربما دون أن تعرف القيمة الفنية والفكرية والعلمية للثروة. حلت النماذج البلاستيكية للأسف محل هذه النماذج الفنية. للأسف ليست هناك لا نباتات ولا حيوانات زجاجية تركت في دريسدن. النماذج النباتية الزجاجية لا تزال  في كلية هارفارد كامبريدج بأمريكا، أما النماذج الحيوانية فقد بيعت إلى بلدان كثيرة منها بريطانيا، اليابان، الهند، نيوزيلاند، روسيا، النمسا. ويوجد العديد من الأعمال الأخرى مفقودًا وضائعًا حتى الآن.

وعن بيت بلوشكا في هوستير فيتز والذي كان خاليًا من السكان وتعرض للتخريب والدمار، تمت مؤخرًا إعادة بناء الأجزاء الخارجية والورشة، ويجري حاليًا استكمال باقي العمل فيه.

في سبتمبر 2000 تم إنشاء جمعية في دريسدن بهدف إقامة متحف تذكاري لتخليد ذكرى أعمال رودولوف وليوبولد بلوشكا، بحيث يؤدي المتحف، إلى جانب كونه مؤسسة تثقيفية، أداء وظيفة علمية تخصصية.

 

معلومات سريعة

 

– صنعت النماذج الزجاجية في الفترة من عام 1887 وحتى عام 1936، وكانت هذه النماذج تصنع من قبل باستخدام الشمع أو الورق.

– كان حب الفن والتاريخ الطبيعي هو الدافع والحافز الأول في نجاح إبداعات رودولف وليوبولد بلوشكا.

– بعض النماذج الخاصة بالنباتات تُجسد بدقة شديدة الأوراق والسوق والألياف والجذور وكذلك تدرجاتها اللونية وحتى الأمراض التي كانت تصيبها.

– قامت المدام إليزابيت سي. وير وابنتها ماري لي وير بتمويل المجموعة الخاصة بكلية هارفارد 1834.

– ثمة موقع على الشبكة الدولية يوجه نداء إلى المهتمين أو من لديهم معلومات أكثر سواء عن رودولف وليوبولد بلوشكا، أو عن نماذجهما، حتى يتسنى للقائمين عليه التعريف بالمزيد عن هذين العالمين  الفنانين.