محمد هاشم عبد السلام
فيلم “منزل الطائر الطنان”، الروائي الأول الطويل للمخرجة الكورية الجنوبية كيم بو را، والثاني بعد فيلم واحد قصير. المدهش أنه خلال سنوات وجيزة، وفيلم واحد قصير، جاءت انطلاقة كيم بو را لافتة حقًا. سواء كمخرجة، أو كاتبة سيناريو. ثمة الكثير من الرهافة، والعمق، والتأمل في فيلم “منزل الطائر الطنان”. مقارنة بغيره من الأفلام التي تناولت بداية سنوات المراهقة، هناك مناطق غير مطروقة من قبل كثيرًا، على الأقل، ليس بهذا القدر العمق، ولا التناول الحرفي المُتمكن.
ما سبق، بعض مميزات فيلم “منزل الطائر الطنان”، الذي يتوفر على جماليات كثيرة. منها الأداء الجيد، وحسن اختيار البطلة، ذات الوجه المُعبِّر. جمال الكثير من كادرات الفيلم. خاصة المقربة منها لوجبة البطلة في لحظات فارقة. الشخصيات الواضحة، العميقة، المُتورطة في سيناريو حياتي بالغ التشابك والتعقيد، رغم بساطته الظاهرة. إيقاع الفيلم، من أهم السمات البارزة، أيضًا. فقط، قد يبدو للبعض بالغ البطء، وغير متطور في لحظات كثيرة، وأن ثمة إطالة أدت إلى ملل بعض الشيء، وقد يكون في هذا بعض الصواب.
لذا، لم يكن غريبًا أنه منذ العرض العالمي الأول لفيلم “منزل الطائر الطنان”، في مهرجان بوسان السينمائي في دورته ال24 (3 – 12 أكتوبر/تشرين أول 2018)، فوزه بجائزتي الجمهور، وشبكة الترويج للأفلام الآسيوية. ثم حصوله من مهرجان برلين السينمائي في دورته ال69 (7 – 17 فبراير/شباط 2019)، على الجائزة الكبرى لأفضل فيلم روائي طويل في قسم “أجيال 14”. وأيضًا جائزة “التيوليب الذهبي” من مهرجان اسطنبول السينمائي الدولي في دورته الأخيرة ال38، (5 – 16 أبريل/نيسان 2019). وأخيرًا، من مهرجان بيجين السينمائي في دورته ال19 (13 – 20 أبريل/نيسان 2019)، حصل الفيلم على تنويه خاص. ومن المتوقع أن يلفت الانتباه، ويحصد المزيد من الجوائز مع عروضه القادمة.
بجانب حبكة الفيلم الرئيسية، تنسج المخرجة خيوط السيناريو على عدة خلفيات، اجتماعية واقتصادية وسياسية. حضور تلك الخلفيات جد عابر، لكنه ضروري، لتوضيح السياق، وتضفير الخيوط، وإبراز عمقها. تمامًا كتلك اللقطات العابرة للمجمع السكني الشاهق، حيث تعيش البطلة مع عائلتها، وسط مئات من الشقق ببنايات قبيحة المنظر. في ذات الوقت، وضع الفيلم في سياق تاريخي حديث نسبيًا، تسعينيات القرن الماضي، بدا رغبة من جانب المخرجة كيم بو را، في لفت الانتباه إلى أنه لم يطرأ جديدًا يُذكر على المجتمع الكوري الجنوبي. إذًا، السياق الاجتماعي للأحداث له أهميته. ولا ينفصل تأثيره عن السياق التاريخي، المُحدد في بداية الفيلم بعام 1994.
مع تطور أحداث الفيلم، نُعلم بموت الزعيم الكوري الجنوبي كيم إيل سونج. أمر فادح للمواطنين، إذ يتساءل البعض مأخوذين بهول ما حدث: “ماذا لو وقعت الحرب؟ أو كيف ستمضي بنا الحياة دونه، كيف سنعيش؟” إلى آخره. لقطات أرشيفية لثوان توضح فداحة الوقع. الغرض، أن الشخصية الرئيسية لا تلق بالا للحدث برمته. لا تتوقف حتى لمتابعته على شاشة التليفزيون بالمستشفى، حيث كانت تُعالج. كل همها، آنذاك، كان الخروج للقاء صديقتها الحبيبة، التي اهتمت بزيارتها، وكذلك معلمتها الجديدة.
في ذات العام، 1994، حدثا كارثة أخرى. إذ انهار جسر سيونجسو، وأدي هذا إلى مصرع العشرات. ومن بينهم تلاميذ إحدى المدارس، عندما سقطت بهم الحافلة. في سياق الأحداث، يصادف أن شقيقة البطلة طالبة في تلك المدرسة. كان من المفترض أن تستقل تلك الحافلة، لكن تغيبها الدائم عن المدرسة، وحياة التمرد التي تعيشها تُنجيها من موت مُحقق. للأمر وقعه المُختلف على البطلة، أون هي (جي هو بارك). وذلك، رغم علاقتها شبه المعدومة بشقيقها. ما من مشاعر هناك، تمامًا كالغريبتين. ورغم تبادلهما لكلمات مُقتضبة فحسب من حين إلى آخر بحجرتهما قبل النوم أو في الصباح، إلا أن أون هي، أصابها الذعر، عندما توقفت أمام التليفزيون. وعلمت عرضًا بالخبر. خشيت أن تكون شقيقتها من بين الضحايا. في حين أن شقيقتها، لم تبد اهتمامًا بحياتها، أو حتى عندما مرضت وأجرت جراحة خطيرة.
أون هي، مُراهقة في ال14 من العمر. هادئة، رقيقة، حالمة. وحيدة لأقصى حد. تعشق الرسم. خاصة الرسومات الكارتونية. تتمنى أن تتخصص فيها، عندما تنهي دراستها. مشكلة أون هي الرئيسية تتمثل افتقادها للحب، والوحدة. طوال الفيلم، تبحث الفتاة عن الحب، عن الأمان، العاطفة، مجرد شخص يتقبلها، ينصت لها، ويتفهمها. لذا، نراها منذ بداية الفيلم، كالطائر الطنان. تتنقل من شخص إلى آخر، بحثًا عما تبتغيه. لذلك، عندما خذلها صديقها أو من ظنته حبيبها، وظل يتأرجح في علاقته معها، إلى أن أجبرته والدته على التخلي عن تلك الفتاة الفقيرة، وجدت أون هي نفسها في إزاء مشاعر تجاه صديقتها. الأمر ليس له علاقة بالجنس.
موضوع الفيلم لا علاقة له باكتشاف الجنس، أو تلك الفترة الحرجة، التي يزداد فيها فضول الاكتشاف، والرغبة في التجربة. تحوّل أون هي تجاه صديقتها ليس إلا تحول باتجاه شخص أبدى بعض الحب، والتفهم والحنان، والاهتمام. خاصة عندما مرضت أون هي وأجرت جراحة. وكانت الصدمة لاحقًا عندما صدتها صديقتها، وأخبرتها أنها ستنتقل مع بداية العام المقبل لمدينة أخرى. ولذا، كانت المُعلمة، ذات الشخصية القوية والجذابة والحكيمة، يونج جي (كيم ساي بيوك)، الملاذ أو طوق النجاة الذي عثرت عليه أون هي، أخيرًا. فهي أول من تقبلتها كما هي. أحبتها، احتوتها بصدق ودون أي دوافع، بل وحتى نصحتها ودلتها على الطريق، وإن بطريقة غير مباشرة.
وسط كل ذلك التخبط، في المشاعر والأحاسيس والاتجاه وغيرها، ثمة بيئة جد معاكسة، وأقدار بائسة تحيط بحياة أون هي. فهي ليست متفوقة في دراستها، بل ثمة سخرية اجتماعية من مستوها الطبقي، وربطه بمستواها العلمي، من جانب الزملاء في الفصل. شقيق أون هي الأكبر تحت ضغط بالغ كي يحقق أعلى الدرجات، ليلتحق بأرقى الجامعات. ولذا، دائمًا ما يفرغ ضغطه بضربه المبرح لشقيقته الصغرى. الشقيقة الأخرى دائمًا خارج المنزل، لا أحد يعرف الكثير عنها أو عن عالمها. والديها، لديهما تجارة بسيطة لصناعة الحلوى، وفي انشغال دائم بجني المال اللازم لتغطية متطلبات الحياة. أحيانًا كثيرة يتشاجران لأتفه الأسباب، وفي أوقات أخرى يبدو عليهما الانسجام كحبيبين.
في هذا السياق، تعامل والدي أون هي معها غاية في العادية. فقط يُبديان الاهتمام بعد اكتشافهما إصابتها بورم حميد في رقبتها. خلاف ذلك، لا شيء. حتى عندما أخبرتهما بضرب شقيقها لها. لم يكترثا أو يطالبانه بالتوفيق. ما أدى، ذات مرة، قرب نهاية الفيلم، إلى خرق طبلة إذنها اليسرى وفقدانها السمع. لم يكترث أحد بذلك، حتى هي ذاتها. فما من اهتمام أو حب أسري من جانب الوالدين إلا بدافع واجب الآباء تجاه الأبناء. شقيقتها غاية في الانفصال عنها. لا صديق أو صديقة، دراسة أو غيرها. لا حبيب أو علاقة رومانسية أو حتى علاقة مراهقة من أي نوع. تفكك أسري وحياتي في أجلى صوره، رغم التماسك الهش على السطح. حتى الأمل الذي لاح مع ظهور المُدرسة يونج جي، سرعان ما خبا مع علم أون هي أنها ماتت ضمن حافلة المدرسة، عندما انهار الجسر، لتكتمل بذلك الحلقة السوداء المُفرغة التي تدور أون هي في فلكها.