محمد هاشم عبد السلام
قدّم المخرج البريطاني المتألق توم هوبر أحدث أفلامه، وقد حمل عنوان “الفتاة الدانمركية” (The Danish Girl)، وهو آخر ما أنجزه “توم هوبر” بعد توقف عن الأخراج لثلاث سنوات تقريبًا، وذلك بعد فيلميه المتميزين “خطبة الملك” (2010)، والفيلم الغنائي “البؤساء” (2012). يتميز المخرج “توماس جورج هوبر” بتأنيه الشديد في العمل، وتحضيره الدقيق لأفلامه، الأمر الذي يدفعه أحيانًا لقضاء السنوات من أجل إنجاز أحد الأعمال، كما تتميز أفلامه، بجانب حصدها العديد من الجوائز الهامة، وجودتها ورقيها وعمقها، بكونها تتحمور دائمًا حول الذات البشرية ومكنوناتها والمحاولات الدؤوبة التي تبذلها الشخصية للتغلب على العقبات أو الصعوبات البدنية أو النفسية.
وقد بدا هذا التمحور جليًا مع إحدى الروائع التي قدمها لنا “هوبر” وهو فيلمه “خطبة الملك”، والذي أبرز لنا فيه مدى مكابدة الشخصية الرئيسية من أجل التغلب على إعاقتها وتجاوزها. وقد عاد “هوبر” بعد تلك السنوات إلى موضوع لا يقل أهمية عن موضوعه السابق في فيلم “خطبة الملك” ومحاولة الملك العثور على صوته ونبرته الخاصة وتجاوز مشكلته العضوية، ليتناول في فيلمه الأخير “الفتاة الدانمركية” موضوعًا أكثر تعقيدًا وعمقًا وتركيبًا أيضًا، حيث التعرف على المشكلة الجسدية أو العضوية، ثم اكتشاف أسرارها، ومحاولة التعامل معها وتقبلها، ثم معالجتها، والتعايش معها على نحو طبيعي، وذلك كله بصرف النظر عن أية آلام جسدية أو نفسية، وغيرها أيضًا من العقبات التي تواجهها الشخصية في سبيل الوصول إلى هدفها الرئيسي، وقد كان الهدف في فيلم “هوبر” الجديد هو بالأساس، الهوية الجنسية الضائعة.
والمقصود بالضياع هنا ليس المعنى الحرفي للكلمة بل المجازي، وربما التوصيف الأدق هو الحيرة، حيث عدم التقين من كون المرء قد ولد ذكرًا أم أنثى، لا سيما وأن الفيلم هنا يتناول قصة أحد أشهر كبار الرسامين في الدانمرك، وزوجته لأكثر من خمس سنوات، والتي لا تقل شهرة عنه في نفس المجال، إضافة إلى هذا كله طبيعة الأحداث ذاتها، التي تدور في سنوات العشرينات من القرن الماضي، حيث إثارة قضية مثل هذه لم يكن أمرًا مطروقًا ولا مفهومًا، وبالتأكيد غير مُتقبل بالمرة ليس فقط من جانب المجتمع، بل حتى على المستوى الطبي أو التشخيصي، ومن ثم العلاجي.
يستند فيلم “الفتاة الدانمركية”، الذي كتبت له السيناريو والحوار، كاتبة السيناريو البريطانية “لوسيندا كوكسون”، والذي يمتد زمن عرضه لما يقترب من الساعتين، إلى رواية تحمل نفس العنوان بقلم الكاتب والأديب الأمريكي “ديفيد إيبرشوف”. وقد صدرت تلك الرواية في عام 2000، وهي ترتكز بالأساس على أحداث حقيقية وقعت بالفعل في كوبنهاجن بالدانمرك، وبالتحديد في عام 1926، وكان بطلها الرئيسي الفنان التشكيلي المعروف آنذاك كأحد أساتذة المناظر الطبيعية “إينار فاجنر” أو لاحقًا “ليلي إيلبي” (إيدي ريدماين)، وزوجته الفنانة التشكيلية “جيردا فاجنر” (أليسيا فيكاندير)، التي كانت تحاول جاهدة أن تصنع اسمًا لنفسها وتشق طريقها في عالم الفن.
بمحض الصدفة، يكتشف “إينار” وزوجته “جيردا”، أن ثمة ما هو غير طبيعي بدأ يطرأ على تصرفات وميول “إينار”، لم يكن معهودًا ولا ظاهرًا من قبل، لكأنه قد استيقظ فجأة، ودبت فيه الروح مع بروز اسم شخصية “ليلي” إلى السطح، والتي بدأت في الأصل كنوع من الدعابة ثم المساعدة من جانب “إينار” لزوجته كي تُكمل اللوحة التي ترسمها، ولاحقًا تُحقق بعد الشهرة والمال من رسمها لشخصية “ليلي”، التي اكتسبها زوجتها بعد إضافة بعد المكياج وارتداء ملابس النساء إلى آخره، لكن سرعان ما يثور البركان داخل “إينار” ليطيح بتلك شخصيته الزائفة، ويرسخ مكانها شخصية “ليلي” التي صارت تطالب وبقوة بحقها في الوجود الجسدي والنفسي، بعد سنوات طويلة من الكبت والتجاهل.
بالرغم من سيرية الفيلم، وكونه يدور حول الرائدة “ليلي إيلبي” أو أول رجل في التاريخ يخضع لعملية تحول جنسي كي يصير امرأة في بدايات القرن الماضي، لكن المخرج “توم هوبر” لم يشغل نفسه كثيرًا بالغوص في التفاصيل الاجتماعية أو السياسية أو الصحفية أو حتى الأسرية والطبية المُحيطة بذلك الزوج، “إينار” و”جيردا”، وما تعرضا له أو لاقاه جراء مثل هذا القرار الجريء والصادم للمجتمع وحتى للأطباء أنفسهم آنذاك، الذين نعتوا “إينار” بالمختل عقليًا، والمريض النفسي، وهناك حتى من طالب بوضعه في السجن، وعلى أقل تقدير، شخصت حالته بانفصام في الشخصية، إلى أن التقى بالطبيب “فارنيكروس” (سيباستيان كوخ)، الذي أقتنع بالحالة وأقدم على إجراء مثل تلك الجراحة الرائدة، التحول الجنسي، رغم أن نهايتها كانت مأساوية.
كان “توم هوبر” معنيًا أكثر بالتفاصيل، بالأحرى، برصد أدق التفاصيل الداخلية، سواء على المستوى النفسي للشخصيات أو الممثلين أو على مستوى الشكل العام للفيلم، فلم يلجأ “هوبر”، على سبيل المثال، إلا فيما ندر، ولضرورات فنية بحتة، للتصوير الخارجي لنقل أجواء العشرينيات من القرن الماضي، مع أن الفيلم تنقلت أحداثه بين عدة مدن أوروبية، الدانمرك وباريس ودريسدن. ولهذا السبب على وجه التحديد لم يكن غريبًا تلك العناية الكبيرة التي أولاها “هوبر” للتفاصيل الدقيقة للديكورات الداخلية، رغم بساطة بعضها، أو للملابس وغيرها من الاكسسوارات اللافت بالفعل على امتداد الفيلم.
وقبل كل هذا، كان اهتمامه الأساسي منصبًا بكل تأكيد، نظرًا لكون الفيلم سيُحمل على كتفيه، على الممثل صاحب الشخصية الرئيسية بالفيلم، ومدى ملائمته من الناحية الجسدية لأداء دور الأنثى، النحافة والطول وقسمات الوجه وطبيعة الحركات والإيماءات، ناهيك عما هو أصعب من ذلك كله، وهو التجسيد الصادق لأدق خلجات الشخصية، ليس فقط لدرجة تقمصها، وإنما بالأساس التوحد معها قلبًا وقالبًا. ولهذا، استعان “هوبر”، بالممثل الفذ، الذي سبق له التعامل معه في فيلمه “البؤساء”، والحائز عن جدارة بأوسكار أحسن ممثل عن تجسيده لدور العالم الشهير “ستيفين هاوكنج” في فيلم “نظرية كل شيء”، الممثل الإنجليزي “إيدي ريدماين”، الذي بذل، عن حق، قصارى جهده من أجل إقناعنا بشخصية “ليلي”، وقبلها شخصية “إينار” ذاتها، التي أبرزت شخصية “ليلي”.
بالقطع لم تكن شخصية “ليلي إيلبي” ستولد ويكتب لها التحقق الفعلي في الحياة، لولا مساعدة بعض الأصدقاء، وبخاصة “جيردا” الزوجة، التي ساعدت “إينار” ودعمته بشتى السبل وبمنتهى الصدق والأمانة، حتى وإن كان هذا على حساب زواجهما وحبهما وخروجه النهائي من حياتها، وبرغم أيضًا الخطر الذي يُهدد حياته. وقد أدت “أليسيا فيكاندير” دور “جيردا” على نحو مُتميز ومُقنع. وبرغم بعض المشاهد البديعة التي أداها “إيدي ريدماين”، والتي ترقى بالفعل لمستوى التحف الفنية، واستطاع من خلالها بذل أقصى طاقته في إقناعنا بشخصية “ليلي إلبي”، لكن ثمة فترات كانت الأداء يخونه بعض الشيء، ولا يفلح في الحفاظ على وهج وتألق الشخصية التي تحار فعلا في جنسها. بالطبع، ليس ثمة تقليل هنا من الجهد المبذول، فالدور بالفعل بالغ الصعوبة والتركيب، وباعتقادنا أنه لم يكن من السهل فعلا على أي ممثل أو ممثلة أن يصل بأدائه لدرجة الإقناع كما فعل “إيدي” في الفتاة الدانمركية، رغم أنه كان أكثر تألقًا في “نظرية كل شيء“، ومقنعًا بالفعل في دور “ستيفين هاوكينج”.
في الآونة الأخيرة، باتت كثيرة تلك الأفلام التي تتناول موضوع التحول الجنسي وأوائل من قاموا بها، وتجسيد شخصياتهم وحيواتهم في أفلام تحمل بالقطع الطابع السيري. وقد تراوح دون شك مستوى تلك الأفلام من مخرج لآخر ومن أداء مقنع لآخر، وفيما يتعلق بفيلم “الفتاة الدانمركية”، يتساءل المرء، بخلاف تلك الحالة الانفعالية الجميلة، والشحنة العاطفية، والتفاعل الراقي مع قصة الفيلم والأبطال، أو بالأحرى بطليه، ما الذي يتبقى من الفيلم لو انتزعنا منه العنصر التمثيلي وبعض تلك الأجواء التي حاول الإيهام بها لفترة العشرينات من القرن الماضي؟ وماذا، خاصة في حالة الأفلام التي تقوم بالأساس على عاتق التمثيل أو الأداء، لو حدث اختلال ما أو بات الأداء غير مقتنع في لحظات بعينها؟ تلك، بالطبع، مشكلة واجهت فيلم “الفتاة الدانمركية” وإن على نحو هين بكل تأكيد.