محمد هاشم عبد السلام
تتكون النصوص الواردة في هذا الكتاب من ثلاث مراحل مختلفة من مشروع الناقد الألماني الكبير فالتر بنيامين (1892 – 1940) غير المكتمل، والذي كان يحمل عنوان “بواكي باريس”، وكان عبارة عن دراسة لثقافة باريس خلال القرن التاسع عشر، وكان بنيامين قد عمل فيه بكثافة متزايدة في الفترة من أواخر العشرينات وحتى وفاته. وقد جاءت نصوص الكتاب في أجزاء رئيسية ثلاث حملت العناوين التالية: “باريس الإمبراطورية الثانية عند بودلير”، و”بعض الموتيفات عن بودلير”، و”باريس، عاصمة القرن التاسع عشر”.
إكتمل مقال “باريس الإمبراطورية الثانية عند بودلير” عام 1938، في وقت كان فيه بنيامين يخطط لعمل كتاب مستقل عن مادة المشروع التي جمعها عن بودلير، وكان يصوره بوصفه القسم المركزي من ثلاثة أقسام كانت ستكون كتاب بودلير. والقسمان الآخران لا يوجدان سوى كشذرات بالألمانية. والمشروع غير المكتمل كان يهدف في الأساس إلى إعادة قراءة شاعر قصيدة النثر العظيم، شارل بودلير، أحد أكثر الشعراء العظام تأثيرًا في حياتنا وفي القصيدة المعاصرة، وذلك من خلال رصد التغيرات العاصفة التي واكبت فترة صعود الرأسمالية بكل قسوتها، حيث أنماط العمل القاسية، حيث الاستغلال والفقر والسأم والقضاء على المباني القديمة وتهديمها، وأيضًا الزحام، بالإضافة إلى الكثير من التغييرات والتطورات التكنولوجية والاجتماعية التي أعادت تشكيل فضاء المدينة وفضاء المخيلة، والتي بموجبها أصبحت باريس العاصمة الكبري للقرن التاسع عشر.
كان بودلير في تلك الفترة، وحتى نهاية حياته، يعيش في فقر وبؤس شديدين، في 26 ديسمبر 1853، كتب بودلير لأمه قائلاً: “أنا معتاد على المعانة البدنية إلى درجة معينة. فأنا بارع في التصرف بقميصين تحت بنطلون ممزق وسترة تنفذ منها الريح، وأنا من الخبرة في استخدام القش أو حتى الورق لسد الثقوب في حذائي بحيث أن المعاناة المعنوية هي تقريبًا النوع الوحيد الذي أعتبره معاناة. إلا أنني لابد لي من الإعتراف بأنني قد بلغت النقطة التي لا أقوم عندها بأية حركات مفاجئة ولا أسير كثيرًا لأنني أخشى أن أمزق ملابسي أكثر من ذلك”.
وعن إحساسه العميق بالتغيرات التي استجدت على المجتمع في تلك الفترة كتب بودلير في عام 1851: “مهما كان الفريق الذي ينتمي إليه المرء، فمن المستحيل ألا يأخذ بخناقه مشهد هؤلاء السكان المرضى الذين يبتلعون تراب المصانع، ويستنشقون ذرات القطن، ويدعون أنسجتهم ليتخللها الرصاص الأبيض، والزئبق، وكل السموم الضرورية لإنتاج الروائع… هؤلاء السكان المهزولين الكادحين الذين تدين لهم الأرض بعجائبها؛ الذين يحسون بدم قان متهور يسري في عروقهم، والذين يلقون نظرة طويلة، مثقلة بالأسى على ضوء الشمس وظلال الحدائق الضخمة”.
ويشكل الكتاب، رغم قدمه وعدم اكتماله، مترجم عن طبعة ثالثة إنجليزية صادرة في عام 1989، يشكل قراءة جديدة شديدة التميز والمعاصرة أيضًا في تناولها وعمقها لشعر بودلير وحياته ويومياته والفترة التي عاش فيها. ويحتوي الكتاب على الكثير من النماذج الشعرية الرائعة، وعلى مقتطفات كثيرة من يوميات بودلير استند إليها فالتر بنيامين في تحليله للتدليل على عمق الرصد الشعري المرهف من جانب بودلير، ومن النماذج الشعرية التي اختارها بنيامين النموذج الشعري التالي:
“في هذه العربة الفاخرة أتفحص
الرجل الذي يقودني، الذي ليس أكثر من آلة،
كريه الرائحة، بلحية كثة، وشعر طويل لزج،
الرذيلة، والنبيذ، والنعاس تثقل عينيه المخمورتين.
فكرت، كيف يمكن للإنسان أن ينحدر هكذا؟
وتراجعت إلى الركن الآخر للمقعد”.
(شاعر غنائي في حقبة الرأسمالية العليا)
تأليف: فالتر بنيامين
ترجمة: أحمد حسان
الناشر: دار ميريت للنشر والتوزيع – مصر
الطبعة: الأولى 2004
الصفحات: 194 قطع كبير