محمد هاشم عبد السلام

يعد قسم “كلاسيكيات فينيسيا” من الفعاليات المهمة للغاية، التي يحرص المهرجان على برمجتها وانتقاء أفلامها منذ انطلاقتها في عام 2012. ينقسم “كلاسيكيات فينيسيا” إلى قسمين؛ أحدهما يختص بعرض الأفلام القديمة المرمّمة حديثا للروائع الكلاسيكية في تاريخ السينما، التي كانت في حاجة ماسة للترميم أو الحفظ أو التصحيح أو الإنقاذ وتحويلها إلى نسخ بدقة (4K). ويمنح القسم جائزة خاصة لأفضل فيلم مُرمّم. القسم الثاني تعرض فيه مجموعة من الأفلام الجديدة أو الحديثة المتمحورة حول فن السينما وصناعتها، أو أعمال عن كبار المخرجين أو رواد السينما عموما من مختلف أنحاء العالم. وعادة ما تتنافس في مسابقة القسم 9 وثائقيات.

يترأس المخرج وكاتب السيناريو الإيطالي “ريناتو دي ماريا” القسم، وتمنح لجنة التحكيم جوائز كلاسيكيات البندقية لمسابقتي أفضل فيلم مرمّم، وأفضل وثائقي عن السينما. ويقوم على برمجة أفلام القسم الناقدُ الإيطالي “فيديريكو جيروني”. لم يشارك أي فيلم عربي قط في مسابقة أفلام حديثة عن السينما، ولا في قسم الأفلام الكلاسيكية التي عادة ما تحظى بالترميم من جانب الجهات الثقافية الإيطالية، وذلك بالتعاون مع أهم وأكبر مؤسسات الأرشفة والترميم في أوروبا، وعلى رأسها “سينماتيك بولونيا” الشهير عالميًا في مجال الترميم والأرشفة، ومهرجان “الأفلام المستعادة”، ودار المحفوظات السينمائية الإيطالية، و”شينيشيتا” أو مدينة السينما في روما، وغيرها من المؤسسات الثقافية، وشركات الإنتاج في مختلف أنحاء العالم.

مارون بغدادي.. عودة إلى فينيسيا بعد 3 عقود

يشارك هذا العام في قسم أفلام وثائقية عن السينما فيلم “وعاد مارون إلى بيروت”، للمخرجة اللبنانية فيروز سرحال، وهو أول وثائقي عربي في هذه المسابقة منذ إطلاقها، وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية، بمشاركة المنتجة اللبنانية سينتيا شقير، وجهات إنتاجية أخرى. يستعرض الفيلم حياة المخرج اللبناني الشهير مارون بغدادي وأعماله، ويتزامن إطلاقه مع ذكرى وفاته الثلاثين عام 1993. يعود مارون بعد مرور 3 عقود على وفاته إلى “مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“، وكان قد شارك فيه ضمن “المسابقة الرئيسية”، ونافس على جائزة “الأسد الذهبي” في الدورة الـ44 المقامة عام 1987، بفيلمه الروائي الطويل “الرجل المحجب”.

موجز الفيلم

حاولت المخرجة فيروز سرحال تقديم صورة شاملة عن المخرج مارون بغدادي، سياسيا وإنسانيا وفنيا، وعن إسهاماته الكبيرة في توثيق أحداث الحرب الأهلية اللبنانية، وغيرها من الموضوعات التي عمل عليها في أفلامه. وقد تتبعت ذلك من خلال لقطات أرشيفية نادرة، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية، ومقابلات مع شخصيات عاصرته، وشخصيات أخرى من الأجيال الحديثة. كما يحضر الجانب الشخصي أيضا في الفيلم، فنرى التحديات والعقبات التي واجهته في عمله، والمهرجانات الدولية التي شارك فيها، والجوائز التي فاز بها، ونتطرق أيضا إلى الطريقة التي انتهت بها حياته، وهي طريقة مأساوية غير معقولة.

المخرجة منطلقة في شوارع بيروت بسيارة شبيهة لسيارة مارون

حسن داود.. صديق مقرب وشريك كتابة

يفتتح الفيلم بلقطات قريبة جدا، فنرى أقداما تصعد درج إحدى البنايات، ثم نكتشف بعد لحظات أن تلك هي درجات سلم بيت والدته التي سقط منها، وكانت السبب في فقده لحياته، بعدما مكث ساعات لم ينتبه له أحد. ثم تنطلق المخرجة في شوارع بيروت بسيارة حمراء عتيقة، نتبين لاحقا أنها كانت تشبه سيارة مارون بغدادي المميزة جدا، وقد كانت تلفت انتباه الجميع، نظرا لذوق صاحبها الرفيع والغريب والفريد، حتى في انتقاء سيارته.

تتوقف المخرجة بالسيارة، وتصطحب الروائي والقاص والكاتب الصحفي حسن داود، وكان قد شارك مارون كتابة أكثر من سيناريو، وكان من أصدقائه المقربين، وقد فارقه قبل ليلة من وفاته، وفوجئ في المذياع بخبر وفاته. بعد الطواف في شوارع بيروت وهي شبه فارغة، يجلسان بأحد المقاهي، ويتحدث حسن عن العلاقة التي جمعتهما معا، وعن خصال مارون، وأبرزها الكرم واللطف البالغين وولعه بالسينما، وأيضا طريقة اشتغاله ومقاربته لفن السينما، ويتطرق إلى السيناريو الأخير اللذين كانا بصدد كتابته قبيل وفاة مارون.

فواز طرابلسي.. مناخات بيروت الذهبية

يتكرر السياق نفسه مع الأستاذ الجامعي والمؤرخ والكاتب فواز طرابلسي، فتصطحبه المخرجة في جولة مماثلة، ثم تجلس وتتحدث معه عن الجوانب الثقافية والفنية والفكرية تحديدا، والمناخ العام في بيروت في حقبتها الذهبية؛ الحقبة المواكبة لبدايات مارون بغدادي. ثم نلقي بعض الضوء على فكره ومقاربته وتنفيذه لأفلامه انطلاقا من هذه الزاوية، زاوية الالتزام والهم السياسي والثقافي والفني، والإحالة إلى بعض الأفلام الوثيقة الصلة بهذه الموضوعات، لا سيما تلك المرتبطة أكثر بالجنوب اللبناني، والحرب الأهلية، والصراع مع إسرائيل.

لقطة من الفيلم – المخرجة في جلسة حوارية مع فواز طرابلسي

ثريا بغدادي.. نظرة عائلية وفنية

لإلقاء بعض الضوء على الجوانب الشخصية في حياة مارون، تلتقي المخرجة زوجته وأم أولاده ثريا بغدادي، وهي فنانة استعراضية ومصممة ومدربة رقص إيقاعي وممثلة. تحكي ثريا عن الجانب الأسري، بدءا من تعرفه عليها، ثم إقناعه لها بالدخول إلى عالم السينما أول مرة، والعمل تحت إدارته.

كما تتحدث قليلا عن طريقة إدارته للممثلين، لا سيما القادمين من عالم المسرح، ثم تعود لذكر بعض التفاصيل المتعلقة بتطور علاقتهما، ثم قرار الارتباط والزواج، ورغبته الملحة في إنجاب أطفال منها.

جوانا حاجي توما.. ظلال سينمائية مارونية

تلتقي المخرجة فيروز سرحال بواحدة من المخرجات العاملات حاليا في السينما اللبنانية، وهي جوانا حاجي توما، وتتحدث معها عن أهمية أفلام مارون بغدادي، وارتباطها بالحاضر، وكيفية قراءته للأحداث والواقع اللبناني، وأيضا الاشتغال السينمائي بصفة عامة. كما تتطرق معها للأوضاع الراهنة، وكيف كان مارون سيراها الآن، ويرى الأجيال الجديدة في السينما اللبنانية والعربية وما يكابدونه على مختلف المستويات.

إيلي أضباشي.. مخرج عمل وتعلم من مارون

ربما يكون مخرج المسلسلات اللبنانية إيلي أضباشي من أهم من التقت بهم المخرجة فيروز سرحال، وكان قد عمل عن قرب مع مارون بغدادي، وتعلم الكثير منه، وكان حديثه منصبّا بالأساس حول الفنيات وطريقة الاشتغال السينمائي وتنفيذ اللقطات وغيرها. يسترسل إيلي في ذكر الكثير عن خلفيات التصوير وكواليسه، حين كان مارون يجبرهم على صعود البنايات لتصوير لقطات عامة للمدينة من أعلى.

كما يتحدث عن حركة الكاميرا واستخدامه لأكثر من كاميرا، وسرعة التنفيذ والإنجاز في العمل، وكذلك تحرير السيناريو والإيجاز فيه، وغيرها من الأمور غير المسبوقة في السينما اللبنانية.

لقاء عن قضايا السينما العربية

تلتقي المخرج أخيرا بمجموعة من العاملين في السينما اللبنانية، وبعض طلاب السينما، في إحدى القاعات السينمائية الصغيرة، لنقاش أحد الحوارات المهمة التي تحدث فيها مارون عن قضايا ملحة، سياسية واجتماعية وسينمائية راهنة آنذاك. ولا تزال تلك القضايا مطروحة للنقاش حتى الآن بقوة، وكأن لم يحدث أي جديد في الواقع السينمائي اللبناني والعربي.

لقطة من الفيلم للمخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي 

ثم يمتد الحديث إلى تمويل وصناعة الأفلام الآن، والتطرق إلى ما يحدث في غزة، وصعوبة الاتساق مع النفس بأخذ تمويل من الغرب، وفي نفس الوقت رفض سياساته وشروطه. وعن المشكلة الكبرى التي طرحها مارون، وهي مشكلتنا -نحن العرب- مع الصورة السينمائية، وفهمنا لها ولدورها وأهميتها ووظيفتها.

بنية الفيلم.. تقريرية الطابع

يتسم الفيلم ببناء سردي خطي تقليدي الطابع، وتتمحور بنيته حول وجود شخصيات تتحدث، والربط بين الحوارات والموضوعات ولقطات فيلمية أرشيفية، أو حوارات مسجلة مع المخرج، أو مأخوذة من أفلامه، ومجموعة من الصور الفوتوغرافية. وكذلك بعض المقتطفات من كلمات خطها مارون بغدادي، وهي أقرب إلى البنية التقريرية الطابع، منها إلى الفيلم الوثائقي الحديث البناء والطرح والاشتباك مع مادته.

فوق هذا، تحضر المخرجة والتعليق الصوتي طوال الوقت، وكذلك بعض الأغنيات، وتتكرر مشاهد اصطحاب الشخصيات بالسيارة والطواف في شوارع بيروت.

ربما -من منطلق كون الفيلم احتفاء بذكرى مارون- لم تشأ المخرجة إلا تقديم تعريف سريع وعام وإجمالي بشخصية المخرج الراحل، بحيث يصبح الفيلم مدخلا للتعريف بالمخرج وأفلامه وعوالمه وشخصيته، مما يشجع على تعريف الأجيال الجديدة به في لبنان وخارجها، للبحث عن أفلامه ومشاهدتها.

أسئلة البناء الفني والشخصيات.. أشياء مفقودة

لم تحاول المخرجة فيروز سرحال في فيلمها الاستعانة بأحد نقاد السينما المتخصصين، للتحدث عن الجوانب الفكرية والفنية والجمالية البحتة في أعمال بغدادي. كما أنها لم تتعمق في تركيبة أفلامه وشخصياته وبنيتها، ومدى أهميتها وفنيتها وصدقها ورصدها للواقع آنذاك، ومدى معاصرتها وأهميتها الآن، ولا المدة التي قضاها في فرنسا والأفلام التي أنجزها هناك، ومن عمل معهم من المخرجين والفنيين، وأثر ذلك عليه وعلى تفكيره وعمله.

وتلك أمور يفتقر إليها الفيلم بشدة، كي تكتمل جوانبه المرصودة عن فكر المخرج وشخصيته، لا سيما أن في رصيده السينمائي 8 أفلام روائية طويلة، و13 فيلما وثائقيا، وعشرات الأفلام القصيرة، وعددا من تسجيلات الفيديو والأفلام المنجزة لجهات حكومية وغيرها.

خاتمة الفيلم.. تكرار زائد بلا فائدة

من الغريب أن المخرجة ألمت في فيلمها بأغلب النقاط الأساسية أو المحورية الراغبة في طرحها أو مناقشتها، سواء بالتعليق الصوتي أو من خلال الضيوف، أو حتى كلمات مارون المكتوبة، أو عبر صوته في الحوارات. ومع ذلك فقد آثرت إضافة ربع ساعة أخير، للتعليق على نفس النقاط التي طُرحت، من غير أي ضرورة فنية تذكر، أو إضافة جديد إلى الفيلم، أو إثراء وتعميق لمادته، مما أثقل كاهل الفيلم إجمالا دون فائدة، ولم تكن أفضل خاتمة له.

فتشعبت الموضوعات بعيدا عن صلب الفيلم ومخرجه وعالمه إلى مناقشة الراهن وقضاياه، ولم نعرف وجهة نظر الأجيال الجديدة الحاضرة في أعمال المخرج، ورؤيتهم الفنية لها الآن، وكيفية تفاعلهم معها وأهميتها لديهم، بعد مرور أكثر من 3 عقود على إنجازها.

المنتجة سنتيا شقير، والمخرجة فيروز سرحال، والمنتج المشارك ومدير الجزيرة الوثائقية أحمد محفوظ.

وثيقة تمهيدية لمن يجهل مارون بغدادي

في النهاية، يعد الفيلم وثيقة تمهيدية مهمة ومفيدة إلى حد كبير، لا سيما لدى المتفرج العادي، أو من لم يسمع من قبل باسم المخرج مارون بغدادي ولم يشاهد أفلامه ويود التعرف عليه وعلى أعماله، وأما المتخصصون أو المطلعون على عوالم المخرج، فليس ثمة جديد يضيفه.

لا اشتباك نقدي مع فنيات الأفلام وجمالياتها وإيجابياتها وسلبياتها، أو حتى الجوانب الفنية والفكرية والإنسانية التي شكلت شخصية مارون وحياته وعمله، مع أنه كان من أهم المخرجين الذين أثروا السينما اللبنانية والعربية حقا. فهو يستحق وقوفا مطولا وعميقا أمام رحلته العمرية القصيرة جدا، التي لم تتجاوز 43 عاما، فقد وُلد عام 1950 وتوفي عام 1993، وامتدت تجربته الفنية الثرية على مدى 20 عاما تقريبا، ما بين 1993–1974.