محمد هاشم عبد السلام

 

لا يزال فيلم “مسافر منتصف الليل” (2019)، للمخرج الأفغاني حسن فاضلي، يحصد المزيد من الجوائز والتنويهات، مع كل مشاركة له في مهرجان سينمائي. انطلاقًا من مهرجان صندانس (24 يناير – 3 فبراير)، حصل الفيلم على جائزة خاصة من لجنة التحكيم في قسم “أفلام تسجيلية من العالم”. وبعد عرضه في قسم “البانوراما” بمهرجان برلين السينمائي (7 – 17 فبراير)، حصل الفيلم على تنويه خاص. ومن مهرجان ثيسالونيكي للأفلام التسجيلية (1 – 10 مارس) نال الفيلم جائزة خاصة من لجنة التحكيم. وفي الدورة ال50 من مهرجان “رؤى الواقع” السويسري (5 – 13 أبريل)، حصل على جائزة الجمهور لأفضل فيلم.

رحلة الفيلم مع المهرجانات والجوائز ليست مجرد استعراض في حد ذاته لأرقام وإحصائيات. الفيلم في صميمه، ومن البداية إلى النهاية، محض رحلة طويلة، وشاقة، وعصبية. امتدت ل 3سنوات، منذ أن شرع حسن فاضلي في تصوير الفيلم، مستخدمًا كاميرا 3 هواتف محمولة. إلى جانب القليل جدًا من المواد الأرشيفية الضرورية. واللجوء لعمليات مونتاج بسيطة، بواسطة إيميلي مهدفيان، لتوليف المادة الضخمة التي صُوِّرت على امتداد سنوات. إضافة إلى بعض التحسينات التي أدخلها المخرج على الصورة والصوت.

“رحلة منتصف الليل”، في النهاية، ما هو إلا رحلة أوديسية لحسن فاضلي وأسرته، فرارًا من طالبان. بقدر التصاق الفيلم الشديد بمخرجه والسنوات الأخيرة من حياته وحياة أسرته، لكنه ليس سيريًا بالمرة. المخرج فيه مجرد نموذج مثالي لكلمة لاجئ. رحلة حسن فاضلي الطويلة لم تكن سوى رحلة نزوح حقيقة للاجئ باتجاه أوروبا. ومن هنا، اكتسب الفيلم الكثير من القوة والمصداقية. إذ أن “رحلة منتصف الليل”، يرصد بطريقة مغايرة مأساة اللاجئين، ومحطات نزوحهم باتجاه أوروبا. عادة، معظم الأفلام تروي أو ترصد من الخارج، أحيانًا تتورط لبعض الوقت في جانب من المأساة. لكن أي من تلك الأفلام لم يقترب على هذا النحو من عمق المأساة مثل فيلم “مسافر منتصف الليل”.

بعد إذاعة فيلمه قبل الأخير، “السلام في أفغانستان” (2014) على التليفزيون، والذي التقى فيه أحد قادة طالبان آنذاك، المُلا تور جان، وعبّر فيه المُلا عن انفتاحه وترحيبه بإقامة حياة مدنية سلمية متحضرة، اغتيل تور جان. الأمر لم يثر خوف وذعر المخرج كثيرًا. لنك بدأ التضييق عليه، وإغلاق ومهاجمة المقهى أو المنتدى الثقافي الذي كان يديره، ومعه زوجته المخرجة فاطمة الحسيني. لم يدفعه كل هذا لترك البلاد أو التوقف عن صناعة الأفلام. فقط، بعدما تلقى نصيحة ثمينة من أحد الأصدقاء داخل التنظيم، تفيد رصدهم مكافأة لقتله، قرر حسن فاضلي مغادرة البلاد، عبر الجبال باتجاه طاجاكستان. كان هذا في مارس 2015.

ربما بدافع الملل أو اللهو، أو ممارسة مهنته المحببة، أمسك حسن فاضلي بهاتفه وبدأ يصوّر حياته مع أسرته. ممارسة من شأنها القضاء على الملل ومعاناة الانتظار، اللتين بات تحت رحمتهما منذ إقامته بطاجاكستان. بعد تباطؤ شديد في إجراءات إقامته كلاجئ هناك، قرر حسن وزوجته تقدم طلب هجرة لأستراليا. تطلعنا زوجته على مئات الأوراق التي تم إرفاقها بالطلب، وأخبار التهديدات، والهجوم على المقهى الثقافي، وتدميره إلخ. ذات صباح، بعد 14 شهرًا، قررت السلطات ترحيل الأسرة إلى أفغانستان، غير مبالية بحياة حسن وزوجته وطفلتيهما، نرجس 11 سنة، وزهرة 6 سنوات.

ربما، لو لم يحدث ذلك الترحيل القسري، لما فكر حسن، سريعًا، في القيام برحلته الأوديسية تلك. فوق الخريطة، تشير زوجته لابنتيها بإصبعها في خط مستقيم، شارحة أنه سيتوجب عليهم السفر باتجاه إيران، ثم تركيا، فاليونان، ومن اليونان إلى ألمانيا، مرورًا ببلدان أخرى. “لا أعرف اسمها”، كما تقول فاطمة، التي يحتفي زوجها بأن مهرجانًا في تركيا اختار آخر أفلامها ليعرض به. إشارة الإصبع السريعة تلك على الخريطة، استغرقت أكثر من 2500 ميلا. الأمر ليس محصورًا في رقم الأميال، بل في كيفية قطعها. ذلك ما لم تأخذه تلك العائلة في حساباتها. ربما، لو أمعنوا التفكير فيه، وتصورًا ما سيشاهدونه لاحقًا في الفيلم، لتغير مصيرهم كثيرًا.

من هنا، تجيء مصداقية فيلم “رحلة منتصف الليل”، فمخرجه وأسرته، هم أبطال الفيلم. نرصد رحلتهم قبل أن يتخذوا قرارهم، وحتى وصولهم إلى ما قبل النهاية. شهادة تسجيلية غاية في الأهمية. تطلعنا من الداخل، خطوة بخطوة، على ما يحدث للمهاجرين. سواء فيما يتعلق بالتعامل مع المهربين، وعمليات التهريب، والسير بالساعات، وقطع الجبال والأنهار، واجتياز الحدود، والتعرض لإطلاق النار، أو الموت أو الاغتصاب، أو ضياع الأطفال، أو قسة الطقس، مرورًا بالأمراض وغيرها. بالطبع، ثمة الكثير من النصب والاحتيال. كمية هائلة من الغش والاحتيال. مقدار لا يتصور من الكراهية ضد الآخر، نراه بأعيننا منذ أن وطأت أقدام تلك الأسرة، وغيرها من اللاجئين، إلى الأراضي التركية. يزداد الأمر فداحة عند الدخول إلى الأراضي البلغارية، بعد 30 يومًا تقريبًا. ثمة عناوين فرعية توضح باستمرار مرور الأيام، وأسماء البلاد والأماكن.

بعد شجار مع أحد المهربين هناك، وتهديده بخطف إحدى بناته، يتركهم المُهرب في العراء بمكان مجهول. ترتب على ذلك، إلقاء القبض عليهم من جانب الشرطة البلغارية، واعتقالهم ل12 يومًا. ربما تلك الخطوة كانت أيضًا في صالح الأسرة. إذ أودعتهم الشرطة في معسكر للاجئين. صحيح أنه من هذا المعسكر ستبدأ رحلة أخرى للمخرج وأسرته مع المعسكرات، لكنها أفضل من التعامل مع المهربين واللصوص، والنوم في الغابات، والركض في الحقول والأحراش. بعد 114 يومًا من انطلاق رحلتهم، وحصولهم على حجرة كبيرة للمعيشة، بعدما كانوا في العراء. وبعد التعبير عن الحب والامتنان لبلغاريا والمعاملة الحسنة، حتى من جانب الطفلتين، تنقلب الأمور. إذ يتصدى أعضاء الأحزاب القومية من المتعصبين للاجئين، ويعتدون عليهم بالضرب. يُضرب المخرج، وتُصاب زوجته، وغيرهما، قرب أحد مراكز التسوق.

المتعصبون لم يكتفوا بما حدث. ذهبوا في تجمعات إلى معسكر اللاجئين، وتحرشوا بالجميع تحت سمع وبصر الشرطة، التي يقول أحد أفرادها إنهم جميعًا ينتمون إلى طالبان وداعش، ولا يريدونهم بينهم. عندئذ، يتخذ حسن وفاطمة قرارهما بمغادرة بلغاريا باتجاه صربيا. هناك، لا يعثرون لفترة طويلة على مكان للنوم، فينامون بالعراء أو بالبنايات قيد الإنشاء. الحال أكثر صعوبة في صربيا، نظرًا لامتلاء المعسكرات عن آخرها. أخيرًا، يقيمون بأحد المعسكرات هناك. إنه اليوم 560 بالمعسكر دون حل أو أمل قريب. يفكر في الاستعانة بطرق التهريب مجددًا، والدفع للمهربين، بعدما قتلهم الملل والانتظار. وبعد تردد وخوف من مصير مجهول، وسماع قصص مرعبة، وفي اليوم 594، يتم إبلاغهم أنه يتوجب عليهم التوجه إلى المجر من أجل الاستماع إلى قضيتهم، للبت فيها قضائيًا.

لذا، تتوجه العائلة إلى المجر، تقيم بمعسكر آخر للاجئين. وبعد انتظار دام 3 شهور من تقديم طلبهم، تنتهي الأحداث. يتحدث المخرج عن سراب ركضوا خلفه، وكيف أنه لم تكن لديهم خيارات أخرى. قبل العناوين الختامية، يُكتب أنه بعد 3 سنوات من مغادرة أفغانستان، تم البت في طلب اللجوء. سُمح لهم بدخول الاتحاد الأوروبي، بنفس الأوراق التي قدَّموها من أجل اللجوء إلى استراليا. وذلك في نبرة عبثية تفيد بأن اللجوء إلى التلاعب أو التحايل وخرق القانون، أي التهريب، يكون الوسيلة الوحيدة أحيانًا لإيصال الصوت، والدفاع عن الحق. وأنه لولا إقدامهم على تلك الخطوة، لربما كانوا أسرى أو قتلوا على يد طالبان.