محمد هاشم عبد السلام
24/5/2016
يُعتبر المخرج البولندي الشاب “توماش فاسيليفسكي”، من الأجيال الجديد الواعدة حقًا في السينما البولندية العريقة التاريخ. وقد حاز فيلم توماش الأخير، الذي حمل عنوان “ولايات الحب المتحدة”، على جائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو في مهرجان برلين السادس والستين، وقد استحق تلك الجائزة عن جدارة دون شك. والفيلم هو الروائي الثالث، بالإضافة إلى فيلم آخر تسجيلي، في رصيد مخرجه السينمائي، الذي ولد في عام 1980، وفي مسيرته التي بدأت عام 2008.
رغم ابتعاد توماش عن مناقشة كل ما هو سياسي أو اجتماعي في فيلمه التي يتمحور حول النساء والحب، لكن الفيلم يلمس على نحو عميق دون شك بوادر الأزمات السياسية والاجتماعية وأيضًا النفسية في المجتمع البولندي، التي راحت تتجمع وتتشكل هنا وهناك وتبرز إلى السطح تدريجيًا مع سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار جدار برلين، وما صاحب ذلك من سقوط تام للعديد من المفاهيم والعادات، والرغبة الجارفة لدى المجتمع في الانطلاق نحو الحرية والتحرر، وما صاحب هذا من مظاهر مرعبة لأفراد ذلك المجتمع المنغلق الذي راح ينشد الحرية، وقبلها بالطبع الاستقرار، وما لحق بهذا من تغيير لأنماط الحياة والسلوكيات والدوافع والرغبات. إلى جانب هذا بالطبع، زحف الرأسمالية بكل ما تحمله من قبح على جميع المستويات. وبالفيلم نلاحظ بعض السمات التي واكبت تلك الفترة وكانت دخيلة على هذه المجتمعات، مثل انتشار أندية بيع وتأجير شرائط الفيديو، ألبومات الأغاني الأمريكية، وصالات الآيروبيكس وغيرها.
بمنتهي الدقة والرهافة، والصرامة الأسلوبية أيضًا، يلمس توماش كل هذا عبر رصده لأربع نساء يجتزن تجارب حب مختلفة. بالطبع، ليست المشكلة هنا متعلقة بالحب أو قصصه في حد ذاتها، وإنما طبيعة هذا الحب الذي يكاد يشبه الحب من طرف واحد أو الحب المستحيل تحقّقه وتطوره على نحو طبيعي. نسج توماش السيناريو بحيث تنتمي كل شخصية لفئة اجتماعية أو طبقة مختلفة، كذلك لشريحة عمرية وجيلية مغايرة. إنه بالفعل بمثابة دراسة حميمة قوية وكاشفة لأربع نساء ذوات أرواح معذبة وممزقة، كل واحدة منهن تعاني ألمًا عاطفيًا مختلفًا، فليس ثمة واحدة منهن تعيش حياتها على النحو الذي ترجوه وتتمناه.
واحدة غارقة في حب رجل لا تستطيع إكمال عيشها معه، والأخرى، شقيقتها، على النقيض منها، تحب رجلا لا تستطيع أن تعيش حياتها معه نظرًا لسفره، وأخرى تعيش حياتها مع زوج لا تحبه ولا تطيقه ولا تستطيع المجاهرة بحبها لمن تحب، الأمر الذي يزيد من كبت المشاعر والضغوط العصبية ومن مساحة العدوانية والانفعال في تصرفات الشخصيات، ويولد في النهاية خيبة تنتج مجموعة من المشاعر المكبوتة المستعصية على السيطرة.
يفتتح الفيلم بلقطة طويلة كمقدمة تأسيسية، تُظهر لنا العديد من الشخصيات وهي جالسة إلى مائدة الطعام تتناول العشاء. لاحقًا، مع اكتمال تفتُّح القصص الخاصة بكل امرأة، ندرك أنهن جميعًا مرتبطات بشكل أو آخر ببعضهن البعض عن طريق إما العمل أو الجيرة أو القرابة. وبذلك استطاع توماش على نحو ما أن يربط مجموعة من القصص المنفصلة بحيث تبدو متصلّة دونما الحاجة لأي نوع من أنواع الافتعال أو الإقحام أو الاضطرار للفصل بينها مونتاجيًا أو بلوحات أو عناوين فاصلة، وبالتالي تقديم كل واحدة منهن كنموذج بمفرده وإن كن جميعًا متداخلات زمنيًا ومكانيًا في نفس المساحة. والأجمل من هذا فنيًا، إشراك المُشاهد في تجربة تفاعلية حقيقية مع ما يشاهده على الشاشة عبر تفكيك وإماطة اللثام عن كل شخصية من الشخصيات وصلاتها وروابطها وملء الفجوات والفراغات المتروكة لحظيًا عن عمد في السيناريو.
على نحو فني، سواء على مستوى السيناريو أو حتى الصورة، يستدعي المخرج إلى الذهن تقاليد المدرسة البولندية العريقة في السينما وأساتذتها الكبار، على وجه التحديد العملاق “كشيشتوف كيشلوفسكي”، وبصفة خاصة في “الديكولاج” و”فيلم قصير عن الحب” و”فيلم قصير عن القتل”، حيث تعيش الشخصيات في نفس المدينة المجهولة، في نفس البناية ذات المعمار البالغ الكآبة والموروث عن الطراز السوفيتي القديم، وعدم تفاعل الشخصيات مع بعضها البعض إلا فيما ندر أو على درجات السلالم أو الكنيسة أو المدرسة وغيرها. وعلى نحو يُذكِّر أيضًا بالطريقة التي ربط بها كيشلوفسكي فنيًا بين أجزاء ثلاثيته الشهيرة، كذلك فعل توماش في فيلمه “الولايات المتحدة للحب”، لكنه على النقيض من كيشلوفسكي، يبدو هنا غاية في القسوة والقتامة ودفع بشخصياته إلى حافة الانفجار الجنوني.
هذا بالإضافة أيضًا إلى احتواء الفيلم على الكثير من السوداوية والسخرية المريرة، سواء من الواقع المحيط بالشخصيات أو من الشخصيات ذاتها أو من الشخصيات تجاه ذاتها.
على مستوى الصورة، لجأ توماش أيضًا لنفس تقاليد تلك المدرسة العريقة، التي كثيرًا ما استعانت بالفلاتر أو المرشحات اللونية بدرجاتها المتنوعة والمختلفة، والتي أكسبت الفيلم مظهرًا مميزًا. يتسم فيلم توماش بصريًا بسمة يصعب على العين العادية أن تغفلها، فالفيلم مُصور على نحو جميل ومختلف دون شك، بواسطة المصور الروماني المعروف صاحب “أربعة شهور، وثلاثة أسابيع، ويوم”، “أوليج موتو”، بحيث يغلب على الصورة اللون الأبيض، لدرجة تصل بها في بعض أجزاء من الفيلم للاقتراب من الدرجات الرمادية أو حتى اللونين الأسود والأبيض. وقد مال المخرج لتتبُّع الأحداث عبر التركيز بالأساس على اللقطات البعيدة، والمتوسطة. في حين أن لقطات الذروة أو ردود الأفعال لم يقم بتسليط الضوء عليها أو بروزتها على نحو تفصيلي. لقد تعامل المخرج ببرود، وثبات ووضوح تام، مع شخصياته القوية الصادقة المرسومة ببراعة فائقة، وفي الوقت نفسه اتسّم الأداء من جانبهن بالقوة البالغة التي اقتربت من درجة الكمال.
محصورة في زواج ممل كئيب تدرك تدريجيًا مدى عبثيته وسخافته، تحب “أجاتا” (جوليا كيوفسكا) وتتوق على نحو شهواني مشبوب إلى قسّ كاثوليكي محلي، “أندريه” (ليخ لوتوتشيكي). وكأنها تعاني من انعدام نضج مكبوت، فنجدها ذات مرة تتبعه سرًا وتختلس النظر إليه بينما يتحمم، فتشتهي من بعده زوجها على نحو محموم كأنه هو، بعدما كانت تشمئز منه وترفض حتى في بعض الأحيان أن يلمسها. “أنت فظيع ومرعب”، تنفجر أجاتا ذات مرة في وجه القسّ، الذي كان يعظ عن الحب وعن أنه يقوي الإنسان، خاصة عندما ينصح قائلا: “اتبع صوتك الداخلي، وافعل ما تراه في صالحك، ولا تأبه للآخرين”.
“إيزا” (ماجدالينا تيشليكا) مديرة أنيقة، تتسم بالصرامة وقوة الشخصية من الخارج، كانت على علاقة سرية لستّ سنوات مع الطبيب، “كارول” (أندريه تشيرا)، الذي صار وحيدًا بعدما توفيت زوجته مؤخرًا. وقد كانت تشعر بالقلق وعدم الاستقرار طوال تلك السنوات جراء تلك العلاقة التي تحصرها فقط في دور العشيقة، الأمر الذي يدفعها بحماس وتهور لبذل كل قوتها من أجل استعادته والاستحواذ عليه كلية. وبعدما ينبذها على نحو مهين لا تتورع حتى عن ترك ابنته تموت غرقًا بعدما هوى بها سطح البحيرة المتجمد.
تعاني من إحساس مؤلم بالوحدة، فهي بمفردها إلا من العصافير، تعيش مدرسة اللغة الروسية “ريناتا” (دوروتا كلك) ذات الستين عامًا في شقتها. وبعدما تقوم إيزا ببرود بإجبارها على التقاعد عن العمل لبلوغها السن القانوني، يزداد تعقيد الأمر عليها بدرجة بالغة، لا سيما وقد باتت تقترب من الطفولية وعدم النضج كثيرًا في تصرفاتها، فتبدي احتياجها الشديد لجارتها الشابة وشقيقة إيزا، “مارزينا”، (مارتا نيرادكيفيتش)، وتمارس التلصص والخداع، وكل ما هو غريب من أجل التقرب من تلك الفتاة، الأمر الذي يصل بها في النهاية لدرجة هوسية غير مفهومة، لكنها في الآن ذاته مثيرة للشفقة دون شك.
مارزينا، ملكة جمال محلية سابقة ومدربة رقص وتمارين رياضية ويوجا حاليًا، تتشبث على نحو غامض وحالم بمحاولة القبض على حلمها بأن تصبح عارضة دولية مشهورة، وذلك في تنازل وهبوط رخيص، وهذا من ضمن ما جلبته الرأسمالية، كما أنها تعمل أيضًا في محل لبيع وتأجير شرائط الفيديو كاسيت مع أجاتا. تتطلع مارزينا لقدوم أحد المصورين الفوتوغرافيين المحترفين المشهورين من وارسو من أجل تصويرها ومساعدتها في تحقيق الحلم. ورغم ما تبديه من ابتسامات وحيوية ولطف هنا وهناك، لكنها تخفي حزنها البالغ لابتعادها عن زوجها وحبيبها الذي يكدّ من أجل المال في ألمانيا الغربية. إن حبها غير متحقق، فزوجها بعيد، وليس لها علاقات في ظل مجتمع مغلق، وجارتها ريناتا تطاردها، فتقوم نحوها بدور أمومي ثقيل على قلبها، في حين أن طموحها المهووسة به متعذر البلوغ.
رغم التصوير الهادئ والفهم الرقيق لمعاناة المرأة والحب دون مقابل، والشعور بالوحدة والانفصال الزوجي أو التصدع، ورصد السياسة والاجتماع، عبر التاريخ البولندي الحديث، ومع قتامة فيلم “ولايات الحب المتحدة” لكنه يستحوذ عليك، ويجعلك تتورط فيه وتغرق في تفاصيله الممتزجة معًا على نحو رائع وجاد ورصين. وبرغم أحداثه المؤلمة والمزعجة بالفعل، والشعور بالحزن، لكن كل هذا سرعان ما يزول مع نهاية الفيلم أو بالأحرى كل قصة بالفيلم، إذ ثمة بصيص ولو ضئيل من التفاؤل مع مواصلة هؤلاء النساء للحياة، وعدم استسلامهن للدمار.
إنها تجربة سينمائية مؤثرة حقًا بأقل قدر من الجهد في حبك السيناريو، وإدارة التمثيل والتصوير، ومع لمسات رائعة ملموسة في الديكورات والملابس، أرجعتنا بالفعل لتلك الفترة من القرن الماضي. ما من شك في توماش فاسيليفسكي مخرج له صوته الخاص، ورؤيته الفنية المميزة، وقبل كل شيء وجهة نظر حياتية مرهفة لعوالم المرأة.