محمد هاشم عبد السلام
6/4/2016
في أول فيلم روائي طويل له، استطاع المخرج المصري المتميز تامر السعيد أن يصنع لنفسه اسمًا ويترك بصمته الخاصة عبر فيلمه اللافت، الذي طال انتظاره، “آخر أيام المدينة”، والذي عُرض مؤخرًا في قسم “المنتدى” ضمن فعاليات الدورة السادسة والستين من “مهرجان برلين السينمائي الدولي“.
في فيلم تامر السعيد “آخر أيام المدينة” يبدو جليًا، وإن كان على نحو غير مُزعج كما في غيره من أفلام السينما العربية، ذلك التفاوت بين الشكل والمضمون أو لنقل، عدم التوازن فيما بينهما. إن التكامل بين الشكل والمضمون هو ما يجعل الفيلم، أي فيلم، يرتقي بالفعل إلى مستوى الروائع أو التحف السينمائية أو حتى الأفلام الكبيرة التي لا تُنسى في تاريخ السينما، مهما طال الزمن، وتظل مرجعًا لعشاق السينما ودرسًا لهواة التعلُّم على مر الأجيال. هذا التوازن بين الشكل والمضمون في فيلم “آخر أيام المدينة”، كان مُفتقدًا إلى حد ما، وذلك بالرغم من أن الطموح الشكلي تفوق بكل تأكيد، وإلى حد بعيد، على الطموح السردي أو المضمون بصفة عامة.
أراد تامر السعيد في فيلمه أن يقترب من تلك المدينة المُستعصية دائمًا على الإمساك، “القاهرة”، بكل سحرها وجمالها المتعدِّد الهوية، بعبقها التاريخي الرابض تحت ركام عشوائيتها وتلوثها وصخبها وضجيجها، القاهرة بحزنها المقيم وكآبتها الأزلية وفرحها العابر وبهجتها التائهة، وأخيرًا القاهرة القاهِرةُ لزوارها وأهلها، والخانقة حتى للهواء بها.
أراد تامر أن يرصد كل هذا وما هو أكثر منه، وبخاصة انهيار تلك المدينة الوشيك وتحولّاتها ورغبتها في أن تلقي عن كاهلها أثر السنين وتتمرد على فترة أخرى حالكة من فتراتها الكثيرة الحُلكة. أيضًا أراد رصد ذلك الأثر، الذي لا يُمحي أحيانًا، الذي تتركه تلك العاصمة على الكثير من الأفراد بها، ومنهم خالد بطل الفيلم، وغيره من الشخصيات التي عادة إمّا أن تُقهر وتستسلم للمكوث بها وتقبلها كما هي كأغلب من يُصوِّرهم خالد في فيلمه أو ترفضها فتهاجر أو ترحل كخطيبته وأمه أو تظل تقاوم ولا تستسلم وتتذرع بأنها على قيد الحياة، في حين أن محاولاتها ومقاومتها عبثية، ولا تسفر في النهاية عن أي شيء له قيمة، تمامًا كشخصية خالد.
إن تلك المادة الثرية التي تتيحها القاهرة وتركيبتها الفريدة، والتي كان من الممكن أن تصنع ملحمة لا تنتهي لكثرة المادة الفيلمية السخية التي توفرها، خانها السعيد وآثر أن يرصد فترة زمنية قصيرة منها مرتبطة بحدث سياسي.
وذلك بالرغم من أن تامر لم يقع في فخ المباشرة، والنبرة السياسة الفجة أو الانحياز الأيديولوجي، وغيرها الكثير من الأفخاخ التي وقعت فيها الأفلام التي تناولت أو حاولت الاقتراب من الثورة المصرية، سواء قبل وقوعها أو بعد حدوثها. وقد حاول تامر على نحو فني تقديم رؤية مغايرة للموضوع، فقط تلامسه من قريب وتسجله بصريًا، ترصده وتتبنأ به فحسب دون التورط فيه أو في رصد تبعاته.
هذا الارتباط لا شك أنه قد أضرّ الفيلم، ورؤيته الإجمالية، وتضافره مع الشخصيات، وبقية عناصر الفيلم. فبالرغم من أنه لم يأتِ خارج السياق كلية، لكنه أفقد الفيلم الكثير، وجعله أثير الارتباط إلى حد بعيد بالأحداث السياسة والاجتماعية التي سبقت تفجُّر الثورة المصرية وما كان يحدث آنذاك، وقد اختلف هذا إلى حد كبير عمّا بات عليه الأمر الآن.
ولذا، انتاب المرء لحظات استشعر فيها أنه يشاهد فيلمًا من الماضي، وليس فيلمًا مُعاصرًا يُقدم جديدًا سواء على مستوى المضمون أو التفسير أو التنبؤ أو حتى المستوى الشخصي، وهذا ليس عيبًا في حد ذاته فقط لو كان الفيلم روائيًا من الألف إلى الياء، لكن جمع الفيلم بين الروائي والتسجيلي، بل وغلبة التسجيلي على الروائي، هو ما كرّس لهذا الشعور. فلو لم يتم التوقف عند هذا الحدث ورصده كثيرًا، وفقط مرّ عليه المخرج مرور الكرام ضمن الكثير من العناصر الأخرى التي لمسها، فلا شك أن تذوق الفيلم فنيًا كان سيختلف ويقوى ويتعمّق كثيرًا.
بتجريدنا لخيوط الفيلم الرئيسية، نجد أننا تقريبًا لسنا أمام سيناريو بالمعنى المتعارف عليه، فقط مجموعة من الخيوط الواهية غير المترابطة التي تحاول التماسك معًا لتنسج في النهاية مجموعة من الحكايات التي تؤدي إلى دراما تدفع الفيلم إلى التحرك على نحو طبيعي وليس بفعل القصور الذاتي. وبالرغم من أن هذا مقصود من جانب المخرج، أن يبدو الفيلم وخيوطه ظاهريًا على هذا النحو، كانعكاس للمدينة والفيلم غير المكتمل داخل الفيلم، لكن هل نجح المخرج في تلك اللعبة وبدا مُقنعًا، ولأي مدى؟
بداية، نحن إزاء شخصية خالد (خالد عبد الله) المخرج السينمائي الذي يحاول صناعة فيلم عمّا لا يدرك كنهه على وجه التحديد، ولذا ينطلق يُصوّر كل وأي شيء يرى أنه يستحق التصوير، ومنها قصة عمل والده بالإذاعة مع المذيعة القديرة “أبلة فضيلة” في برنامجها الشهير والتي لا يعود إليها مجددًا كأنها لم تكن، ووالدته التي تحتضر في المستشفى، دون أن نستشعر قوة المرض أو مدى حرج الحالة وعمقها وتأثيرها آنيًا على حياة خالد وتصرفاته أو ظلالها مستقبلا، فقط لحظات ظهوره مع والدته بالمستشفى وبقائه معها وطمأنتها على صحتها، ومن قبل رفضها الظهور بفيلمه وانتهى الأمر.
كذلك ينطبق الأمر على شخصية السمسار الذي يبحث معه طوال الفيلم عن سكن مناسب له دون جدوى، وما توصلا إليه في النهاية مع قرب انتقال خالد ولملمة أغراضه في نهاية الفيلم. أيضًا حبيبة خالد، هل انفصلا قبل فترة طويلة أم مؤخرًا أم لا يزالا على علاقتهما وإن فترت العلاقة بسبب تركها للمدينة بدافع السفر أو الهجرة! هذا إلى جانب، شخصيتي المغنية مريم صالح التي توفي والدها في حريق مسرح بني سويف وتَحَدُثها عن الموضوع وحشر قصة الحريق التي سبقت زمن الفيلم بكثير، والممثلة حنان يوسف وذكرياتها عن الإسكندرية، واللتين لم يتم تعميقهما ولا تبرير وجودهما على نحو مُقنع ولا تتبُّع خيوطهما حتى النهاية.
نفس الأمر ينطبق، من ناحية أخرى، على ثلاث شخصيات واقعية، لها وجود حاضر وبقوة في مساحة كبيرة من الفيلم وكلها يجمعها حب السينما، المصور اللبناني “باسم فياض” المقيم ببيروت، والمخرج العراقي “حسن” (حيدر الحلو) المقيم ببغداد، والمخرج العراقي “طارق” (باسم حجر) المقيم ببرلين، والذين يحدوهم نفس الطموح الهاجسي لدى خالد، الإمساك بصريًا بجوهر وروح عواصمهم. حلم آخر مُجهض، كحلم خالد، دمرته تلك العواصم، التي يرون أنها باتت مُتشابهة في نفس المصير الذي تُعاني منه القاهرة بالضبط. وتلك الشخصيات بدورها لو لم تكن موجودة بالفيلم لما نقص منه أي شيء، فابالإضافة إلى أن واقع البلدان الأخرى أو العواصم العربية ليس خفيًا علينا، فكلنا في الهم شرق، إلا إنها لم تضف للفيلم وجاءت بالكثير من السرد المجاني، وأثقل ارتجالها الفيلم وإطاله دون معنى، لا سيما وأننا لم نستشعر مع كل فرد منهم على حدة، عمق مشكلته الخاصة مع مدينته، وعلى نفس النحو الذي نرصده مع خالد ومدينته.
تلك هي الخيوط التي حاول الفيلم أن ينسجها لنا على نحو صادق عبر الكثير من اللقطات التسجيلية والمشاهد التي باتت شبه مُعتادة للقاهرة وشوارع وسط البلد، والتي لم تضف أيضًا أي جديد إلى الفيلم، لا سيما بعدما باتت تتكرر وتُعاد على نحو أفقدها قوتها على امتداد الفيلم. وعلى نفس الشاكلة، تلك هي الشخصيات التي بدت عابرة، غير مُعمقة، أحادية البُعد، عشوائية، فاقدة للبوصلة أو الهدف، مُحبطة تُعاني من الاغتراب. إنها في النهاية حقيقية وصادقة ونقلت الحالة المطلوبة، لكن هذا كله، وتلك الحالة، وأيضًا تلك العلاقات العابرة التي تجمع بينها، وصلتنا منذ اللحظات الأولى بالفيلم، وظل الفيلم حتى بقيته مُجرد استنزاف لتلك الحالة، وتكرار لنفس الشيء، دون تطويره لآفاق أبعد وأرحب وأعمق مدى.
إن هذا الخليط الذي يبدو غير متجانس، ومن بينه الكثير من اللقطات والمقاطع المُلتقطة بالكاميرا المحمولة على فترات زمنية متباعدة، استطاع تامر بمهارة فنية أن يُجمّعه ويخلق منه وحدة بدت نوعًا ما مقنعة بدرجة كبيرة، وأيضًا مُتجانسة بعض الشيء وتبدو مُبررة، وذلك عبر تقديمه كمُعادل لشخصيات الفيلم عامة، وشخصية خالد المتشظية غير المُدركة لهدفها أو طبيعة ما تفعله بصفة خاصة، وأيضًا طبيعة المدينة ذاتها بكل أحوالها المتضاربة والمتناقضة وضياعها وانهيارها. وقد كانت كلمة السر في جعل المُشاهد يبتلع هذا كله، ذلك الحوار الذي دار بين خالد والمونتير قرب نهاية الفيلم عن كل هذا الخليط غير المفهوم والمتنافر، والذي لا يدرك هو ذاته كنهه أو ماهيته وما يريد أن يخرج به منه، والذي عن طريقه حاول أيضًا تامر السعيد أن يتفادى المُحاسبة الفنية إزاء أي نقد أو تشوش قد يستشعره المُشاهد على امتداد الفيلم، لكن هل بمثله هذه الجملة الحوارية يُفلت المخرج من المحاسبة فنيًا؟
ليس ثمة شك في أن تامر السعيد تلافى الكثير من مشكلات أصحاب الأفلام الأولى، وإن اشترك معهم في الرغبة في قول وتصوير كل شيء. وبالرغم من أن التصوير، الذي امتد لسنوات، كان كفيلا بخلخلة وفقدان الفيلم لإيقاعه وتماسكه، لكنه تجاوز هذا بمُساعدة لافتة دون شك من جانب الممثل خالد عبد الله، الذي أجاد في أن ينقل لنا شخصية خالد عبر الأداء المتزن الهادئ ونبرات الصوت والنظرات غير المفتعلة النابعة بالأساس من شخصيته بصفة عامة. كما يُحسب للسعيد تلك الرؤية البصرية الرائعة خلف الكاميرا، والتي أبدعت لنا بعض الجماليات الفنية المُبتكرة، والتي أسهم التصوير المتميز في نقلها بلا جدال. كذلك كان الديكور الداخلي من أقوى العوامل اللافتة بالفعل في الفيلم في كل تفاصيله الصغيرة، وأيضًا كان للموسيقا دورها الجمالي الملحوظ، ونفس الشيء ينطبق إلى حد ما، وإن بدرجة أقل بروزًا، على شريط الصوت. إن كل تلك الجوانب الفنية المتعلقة بشكل أو تكوين “آخر أيام المدينة” بصريًا، ارتقت دون جدال بالفيلم، وجعلته مُفعمًا بالحيوية وزاخرًا بالجِدة، وتلافت الكثير من عيوب المضمون، وأتاحت لجسد الفيلم السير بقوة على ساق واحدة سليمة، لولاها لسقط جراء الساق الأخرى الثقيلة التي يجرها خلفه.