محمد هاشم عبد السلام
16/4/2019
كانت نقطة الانطلاق لصناعة الفيلم التسجيلي “أبولو غزة” للمخرج السويسري نيكولاس فاديموف هي تقديم مدينة غزة بطريقة مختلفة، هذا ما صرَّح به المخرج في سياق حديثه الشخصي لأحد ضيوف الفيلم. صحيح أن الفيلم بُني من البداية وحتى النهاية على البحث والتحقيق والتنقيب عن تمثال أبولو المفقود، لكن غاية المخرج كانت بالأساس مدينة غزة.
السويسري نيكولاس فاديموف من مواليد جنيف عام 1964، وله أكثر من 10 أفلام تسجيلية وروائية قصيرة، وغيرها تلفزيونية وروائية طويلة. وعلى حد قوله “ارتبط اسم المدينة دائما بالدماء والقتل والحروب والقصف، لكن عبر هذا الفيلم أرغب بربط اسم المدينة بالجمال، وبما كانت عليه من تاريخ عريق”.
يتناول فيلم “أبولو غزة” قصة تمثال أبولو إله الفنون والجمال والنبوؤة عند الإغريق، والذي ظهر إلى الوجود ثم اختفى سريعا، ففي أغسطس/آب 2013 عُثر على تمثال أبولو في البحر الأبيض المتوسط أمام سواحل غزة، فهذا التمثال البرونزي يرجع تاريخيه إلى 2000 أو 2500 سنة، وبعد أسابيع قليلة فحسب على اكتشافه اختفى التمثال، وحتى يومنا هذا لا يعرف أحد كيف اختفى أو في حيازة من.
في المدرسة الفرنسية الأركيولوجية الإنجيلية في القدس نستمع إلى عجوز فرنسي -ربما هو راهب أو عالم آثار- يحكي أنه استقبل عشرات المكالمات تخبره عن التمثال، وأنه لم يصدقها في البداية نظرا لكثرة المكالمات الزائفة.
يستعرض العجوز صور التمثال على جهازه اللوحي والحزن يعتصره، وذلك لعجزه عن الذهاب إلى غزة بسبب الحواجز الإسرائيلية لرؤية التمثال بعينيه، ثم يستطرد عن التمثال وأصالته ومن عثر عليه وكيف، ويؤكد أن التمثال البرونزي يعود إلى الفترة اليونانية عام 332 قبل الميلاد تقريبا، وأن وزنه 750 كيلوغراما، حيث وُجد عند شاطئ دير البلح أو النصيرات في المنطقة الوسطى من قطاع غزة، وفي البداية ظنّ السبّاح أن تمثال أبولو هذا مجرد رجل غريق يطلب النجاة.
“سمعت بالقصة، لكنني لا أعرف الحقيقة، ربما يظهر إلى الوجود من تحت الأرض أو البحر مرة ثانية، من يعرف، اذهب إلى غزة”.. هذا ما يقوله أحد المتحدثين للمخرج.
في غزة نلتقي بأحد الصيادين، وهو من عثر عليه فعلا، يحكي أنه يوم الجمعة 16 أغسطس/آب 2013 بعدما طرح شباكه في البحر عثر عليه. يصف الصياد الخوف الذي انتابه عندما رأى التمثال، فقد كان بمفرده، والتمثال يُشبه الإنسان، لكنه غاص ولمسه وتأكد منه، وخرج وأخبر شقيقه ونفرا من الأصدقاء ثم ذهبوا لإخراجه. لكن الخيوط تقطعت، والمركب الصغير انقلب بعدما استطاعوا فحسب إنهاض التمثال من بين الرمال، لذا لم يكن أمامهم سوى ربطه من خصره وجره لما يزيد عن 100 متر تقريبا حتى الشاطئ، ثم تحميله على عربة والتوجه به إلى المنزل.
أحد الرجال حِرَفي ماهر في مشغله، ويقوم بترميم وتنظيف بعض القطع الفخارية التي تشبه الآثار، يقول إنه هو من قام بتقدير وتثمين التمثال والتعرف عليه، ويؤكد بأن قصة البحر هذه مجرد زعم كاذب ومحض اختلاق، وأن القصة الحقيقية كالتالي: “كانت هناك حفريات، وكان البدو يقومون بحفريات فعثروا على أبولو، وهو مُهَرَّب من سيناء من مصر، وقد رغبوا في إدخاله تهريبا إلى غزة، ثم قاموا برميه في المياه كي لا يتم القبض عليهم”.
ويُضيف الحرفيّ “بمجرد رؤيتي له قلت على الفور إن هذا التمثال لم يكن في البحر بل كان خارجه، وإنه لم يمكث تحت المياه سوى أيام قليلة فحسب، ربما يوم أو يومين”.
يُبرهن الرجل ويُدلل على كلامه قائلا “البرونز عندما يكون في البحر ثمّة خواص تميزه، وصدأ خاص به وطبقات تكسوه، إضافة إلى القواقع والأصداف التي تعلق به. حيث يعرض بعض القطع المُستخرجة من البحر للبرهنة على كلامه، ثم يلعن التمثال ويوم العثور عليه، لأنه تعرض من جانب الحكومة لمضايقات وتحقيقات بسببه.
أبولو.. كنز ثمين في أيد تجهل قيمته
نعود إلى المدرسة في القدس والفرنسي الذي ظهر في بداية الفيلم، حيث يُطلعنا على تمثال مُشابه لأبولو عُثِرَ عليه في التسعينيات في كرواتيا وتحت المياه أيضًا، لكن الصور تبين مدى التآكل الرهيب الذي طال جسد التمثال، فيقول “لا لا لا، قصة أنه عثر عليه في البحر لا تبدو مقبولة لنا وغير جديرة بالتصديق، على الأرجح جُلب حديثًا لإدخاله إلى غزة، ربما تم تهريبه من مصر عبر الأنفاق، لا أحد يعرف”.
امرأة مُحجبة تصعد فوق سطح وتشرح كيف أنه من فوق هذا السطح في الماضي كان بمقدور المرء رؤية غزة بالكامل. تُشير “هناك كانت التلال، ويُقال إنه كان هناك معبد للإله أبولو وتمثاله، إضافة إلى غيره من المعابد، وكلها دُفنت تحت الرمال”.
تحكي المرأة عن ذهولها عندما شاهدت التمثال مرة واحدة لربع ساعة فقط، وتصف جسده تشريحيًا؛ عضلاته وقبضة يده ووقفته الشهيرة وارتفاعه.
يُكمل الصياد حديثه قائلا إن الأمر انتشر بين الأهل والأصدقاء وظهر الطامعون، ورغم جهلهم بقيمته المادية، فإنهم كانوا على علم بأنه كنز ثمين، وقد ظنوا في البداية أنه من الذهب، لأن قدمه اليسرى وأصابعه كانت تلمع كالذهب، لذا كسروا أحد أصابعه للتأكد. ويضيف أن خاله أخذه ليُخفيه عنده، حتى لا تعرف عنه الحكومة وتأخذه أو تصادره.
ثم تواصل مع ابن شقيقه الذي يعمل في مجال الذهب، يتحدث ذلك الجواهري عن أنه فور لمسه أدرك أنه ليس ذهبًا بل من البرونز، لم يعرف هوية التمثال، لكنه أدرك أنه من الفترة اليونانية. ظل التمثال بحوزته مدة شهر تقريبًا في منزله دون أن يدري عنه أحد أي شيء، حتى أهل بيته. وما جعله يحتفظ به شعوره بالحزن والخوف لوجود هذا التمثال الثمين بين يدي من يجهلون قيمته ولا يعرفونه، والدليل كسرهم لأحد أصابعه كي يتأكدوا إن كان من الذهب أم لا.
يتحدث الجواهري أيضا عن مدى الحرفية والمهارة اللتين صنع بهما التمثال، فكل جزء غاية في الإتقان، لدرجة أنك لو نظرت إلى يده ستجدها أكثر كمالا وجمالا وروعة من يد إنسان حقيقي، كذلك الشَّعر المجعد والعيون.
أبولو غزة.. هل صُنع حديثا؟
نعود إلى القدس ونلتقي برجل في مقهى يتحدث الفرنسية، يقول مُستعرضًا الصور إن الخامات وغيرها لا تدل على أنه حقيقي بالمرة، ويتحدث عن أكسدة البرونز خاصة عند القدم، بينما أنف التمثال وغيره لم تتأكسد وتتحول للأسود بل تلمع، وهذا دليل على أن التمثال مصنوع حديثًا.
يستفيض في الشرح كيف أن هذه الجنزرة أو الصدأ الأخضر غير حقيقي، وأن البرونز لا يكتسب الصدأ إلا بعد آلاف السنين، وتتكون طبقة أو طبقات رقيقة مع تعرض المعدن للأكسدة، ويقول “ربما قاموا في غزة بوضعه في المجارير (الصرف الصحي) لسنوات، فمياه المجارير القذرة تُساهم في حدوث الصدأ سريعا، تلك الطبقة يمكن بالطبع إزالتها بسرعة وسهولة لأنها ليست حقيقية، وليست نابعة من المعدن نفسه، بل مجرد طبقة خارجية تكونت من مياه المجارير التي علقت به، وهذا التزوير تم خلال 30 سنة تقريبًا”.
نعود إلى غزة، حيث الرجل الحِرَفي في مشغله يجزم بشكل قاطع وحاسم “أتحدى أن يكون التمثال مزيفًا، ما هو البرونز؟ خليط من النحاس والقصدير، إنه نحاس بشكل أو بآخر في النهاية، ولذلك فليس ثمة إمكانية في غزة للقيام بهذا، أو توفير النحاس والقيام بالسبك والخروج بخليط البرونز. من لديه أفران ذات درجة حرارة عالية كي يصهر تلك الكمية الهائلة (300 كيلو) من البرونز؟ ليس ثمة أفران متطورة هكذا في غزة برمتها”.
ويؤكد أنه لو توفرت لديه المادة الخام لقام بصناعته بالكامل، ويقوم فعلا بسبك رأس برونزية صغيرة تشبه رأس أبولو، ثم يقوم بالطرق عليها من أجل إكسابها بعض القدم والعتاقة، ثم يضعها في مادة لمدة ثماني ساعات، بعد ذلك في الطين لمدة ساعتين ليحدث التعتيق أو يكسبه القِدَم، ثم يُلقي على الرأس مادة ما ترابية فيحدث ما يشبه الفوران نتيجة التفاعل الكيميائي مع الرأس، وتتكون درجة لونية رمادية داكنة ومُحببة على الرأس، كأنها من فعل الزمن والبحر والأكسدة.
نستمع إلى الكثير من القيل والقال والقصص التي يرويها نفر ممن شاهدوا التمثال أو التقطوا صورًا سريعة له، ثم نرجع إلى الفرنسي من المدرسة الأركيولوجية بالقدس والذي يتحسر قائلا “هذه النسخة كانت قطعة استثنائية وفريدة”، وذلك لخصوصية التمثال وفرادته وكذلك حجمه البالغ 180 سم تقريبًا، وبخلاف ما يحمله من معلومات وتاريخ فإن “التمثال فتن الجميع بمن فيهم أنا”.
عندما نُشر الموضوع في الصحف، اهتم كثير من الناس والعلماء والمتاحف -وخاصة الإيطاليين- اهتماما كبيرا وأبدوا حماسا بالغا، لدرجة أن متحف اللوفر عرض المشاركة أو القيام كليا بعملية الترميم.
نعود إلى الصياد والجواهري اللذين يتحدثان عن فشلهما في بيع التمثال، وكيف أن الأهل بعدما اختلفوا على ثمن البيع أبلغوا الشرطة، والتي بدورها أبلغت الآثار، فجاءت وأخذته من منزله، وبعد ذلك لم يسمع عنه بالمرة.
في المتحف الإسرائيلي بالقدس تتحدث امرأة أنها علمت بمفاوضات لبيعه والقيام بترميمه بمعرفة المتحف، لكن تلك المفاوضات تعثرت، ثم توقفت بسبب الحرب.
نفس الشيء نسمعه من مسؤول في متحف العقاد بخان يونس، وأنه فعلا كان يتمنى أن يتوفر لديه المبلغ المطلوب كي لا يقع في يد الاحتلال، أو من لا يُقدرون أو يعرفون قيمته، لكن لم يحدث وتعثرت المفاوضات.
يقول فرنسي إن بيعه وامتلاكه غير قانونيين بالطبع، وسواء أكان مع حكومة حماس أو غيرها، ففي النهاية هو ملك الدولة الفلسطينية، لأنه تراث وطني وتاريخي وليس ملكًا لأفراد، ومن ثم لا يمكن بيعه قانونيًا، حتى اليونسكو يمكنها التدخل في الأمر، فالكل يعرف هذا.
ومع استحالة بيعه أو التصرف فيه اختفى التمثال بعدما تبينوا أن جميع الطرق مسدودة أمامهم. ولأنهم لن يحصلوا على مرادهم قرروا دفنه أو تخبئته مرة ثانية.
يتحدث المُخرج عن أن التمثال الذي كانت قصته على كل لسان صار الآن طيّ النسيان، ولم يعد هناك من يذكره، ولذلك يقول إن هذا هو الوقت المناسب للبحث عنه وإخراجه من مكمنه، وأن الاهتمام بالتمثال هو جزء من الاهتمام بتاريخ المدينة وغزة المعاصرة ذاتها.
نراه يتوجه إلى وزارة السياحة والآثار، ويتحدث عن أنه ممثل لمتحف جنيف، حيث يعرض مساهمته على الوزارة، وحتى التواصل مع اليونسكو لترميم التمثال، ورغبة متحف جنيف في تنظيم معرض مشترك، فيوافق المسؤول طالما أن الأمر سيكون تحت إشراف الحكومة.
يُخبره المخرج أن العرض لا بد أن يتضمن تمثال أبولو أيضا، يقول “بالطبع، هناك أكتر من عشرة آلاف قطعة ومنها أبولو”. يسأله هل يمكننا رؤيته للوقوف على حالته وطبيعته؟ فيخبره أنه لو توفر مكان عرض آمن وكل اشتراطات السلامة (خاصة بعد ثلاث حروب مع إسرائيل)، إضافة إلى إشراف من اليونسكو. بالطبع يسعدهم عرض التمثال، والتعاون معه أو غيره من المنظمات والمتاحف للحفاظ على التمثال وترميمه.
يقول الفرنسي العجوز من مدرسة القدس الأركيولوجية إن القوة والقانون في يد السلطة بالطبع، ويجب أن نعرف وندرك أن ثمة حكومة في غزة، لكن بطريقة ما فإن يديها مكبلتان، فلا أحد يعلم من بحوزته التمثال أو من المسئول عنه، هل هي العائلة التي استخرجته أم المافيا، أم رجال في السلطة أو الحكومة الشرعية أو غيرها أو المقاومة؟ كلها مُجرد تخمينات.
ويختتم أحد الصحفيين الفلسطينيين الفيلم بقوله “أنا أصدّق أنه ليس بحوزة الحكومة، لأنه لو كان كذلك لكشفت عنه، ولعرضته أو بينته، لذلك فالأرجح أنه في يد المقاومة التي أخذته وأخفته، ومن ثم بات من الاستحالة المطالبة به أو السؤال عنه، لأنه حتى الوزارة لم تعد تحكي أو تهتم أو تذكر التمثال، وحتى لو تعلق الأمر بالفصائل، فلا أحد يدري لدى من تحديدًا، وأين يوجد التمثال”.
ينتمي الفيلم التسجيلي الأخير “أبولو غزة” (2018) للمخرج نيكوس فاديموف لنوعية أفلام الريبورتاج الصحفي الاستقصائي الممزوج بعمليات بحث وتحقيق. ثمة الكثير من لحظات الصمت في الفيلم والأشعار الإغريقية واللقطات العامة التي تستعرض جمال المدينة أو ما تبقى من هذا الجمال.
ورغم صعوبة التنقل والتصوير والخروج والدخول من المدينة وإليها والخوف منه كأجنبي والكاميرا التي يحملها، والأسئلة الشائكة عن ذلك الموضوع الحسّاس.. استطاع المخرج أن ينقل لنا موضوعه ببراعة، وجعلنا نتفاعل معه لأقصى درجة، وندرك مدى أهمية وخطورة ما حدث، وقبل كل شيء أثار رغبة جارفة لدى المشاهد لمعرفة الحقيقة.
وعلى الرغم من كثرة الشخصيات التي ظهرت في الفيلم، وتنوع وتعدد أماكن التصوير داخل غزة أو في القدس، إلا أن ظهورها أثرى الفيلم، حيث أمدّه بوجهات نظر مُتعددة منها المتعارض ومنها المتطابق، منها القابل للتصديق ومنها ما يدعو للتشكك.
وقد أسهم المونتاج الجيد في خلق الترابط بين جميع الشخصيات والحكايات التي تُروى أو تُتداول عبر ألسنة الجميع، وربما المشكلة الوحيدة البارزة بالفيلم تتمثل في عدم ذكر أسماء الشخصيات والمهن الخاصة بهم.
صحيح أن ثمة عناوين فرعية كانت توضِّح أن هذه غزة وتلك القدس وذاك المتحف، لكن ليس فيما يتعلق بالأشخاص، وهذا أمر غريب بعض الشيء، خاصة وأن هناك قائمة بالأسماء تظهر في ختام الفيلم، لكن تلك القائمة لا تفيد في معرفة الكثير عنهم.