حوار وتقديم: دانيل بورن وستيفن كاب
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
خورخي لويس بورخس هو رجل العوالم المتعددة والأساليب المتنوعة. شخصية ذات شأن كبير وعظيم في الأدب الإسباني الحديث. استمد الكثير من قوته الإبداعية من العالم الجرماني[1]: الشعر الإنجليزي، فرانز كافكا، أساطير المحاربين الخاصة بالإنجليز والجرمانيين الاسكندنافيين القدامى. يعادي بقوة كل ما هو سياسي وأخلاقي، أعمال هذا الأرجنتيني كثيرًا ما تدور حول تاريخ أمريكا الجنوبية وخلجات القلب البشري. إنه الراوي الذي يدّعي تقديم عمله بطريقة بسيطة، ربما يجعل بورخس حكاياته تدور في المعابد الأجنبية أو في البارات المجاورة، قد يصف النمور أو السكاكين التي تلمع نصالها في ضوء القمر، أو صبر عالم يقلِّب مخطوطة قديمة. تنبع كتابات بورخس من الأحلام ومن الخبرة. لا شيء يمكن أخذه كمسلمة أو كيقين، الحياة قوية، لكن الجميع يرمقونها على نحو فقير أو هزيل قبل أن تغمرهم.
تجسدت نتائج جولات بورخس المتواصلة التي تخطت الحدود اللغوية والأسطورية والروابط الاجتماعية وفي مجموعة الأعمال – مقالات، وحكايات، وأشعار – أكسبته الاعتراف في جميع أنحاء العالم. في عام 1960 تقاسم جائزة الناشر العالمي مع الكاتب المسرحي الفرنسي صمويل بيكيت، وغالبًا ما كان محل النبؤات بأنه سيتسلم في المستقبل جائزة نوبل للآداب. وعلى الرغم من أن بورخس بدأ النشر في بوينس أيرس في سنوات العشرينات من القرن الماضي، ومجموعته النثرية الهامة، “قصص”، صدرت عام 1944، لم تكن حتى ظهور “المتاهات” في 1961 (عن دار الاتجاهات الجديدة)، سوى مقتطفات أدبية من قصصه ومقالاته وأشعاره المبكرة، قد ذاعت أو انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية والبلاد الأخرى الناطقة بالإنجليزية.
ظهرت ترجمة مجموعته “قصص” في 1962، والترجمات اللاحقة تضمنت مقتطفات أدبية شخصية (1967)، “الألف وقصص أخرى” (1972)، و”في مديح العتمة” (1974)، والترجمات الأربعة الأخيرة تُرجِمت بواسطة أو تحت إشراف “نورمان توماس دي جيوفني”، الذي عمل معه بورخس بصورة لصيقة.
التحدث عن قرب مع خورخي لويس بورخس هو أن تتعقبه خلال متاهة من تجارب عوالمه ومواقفه الماضية، واتجاهاته منذ نشأت الحوائط التي يواجهها الفرد في البحث في هذه المتاهات ربما تم بناؤها أو طلاؤها بطرق غير تقليدية وغير متوقعة. ربما تمدنا بالأدلة ومفاتيح الألغاز أو هي تمثل مجرد تضليلات في السعي والتتبع، لكن لفهم بورخس على الأقل جزئيًا يتعين أدراك أن هذه المفاتيح والتضليلات هي بورخس نفسه. علينا ألا نتوقع أن نجد بورخس هو نفسه في كل مرة نقرأ له. ليس هناك بورخس واحد، لكن هناك العديدون.
بورخس: بادئ ذي بدء دعني أقول: علينا بالأسئلة الواضحة. وليس بأسئلة مثل، “ما الذي تعتقده بخصوص المستقبل؟” خاصة عندما يكون هناك أنواع كثيرة جدًا من المستقبل وكل منها مختلف تمامًا عن الآخر فيما أعتقد.
دانيل بورن: إذن دعني أسألك عن ماضيك، التأثيرات والتأثرات وما إلى ذلك.
بورخس: حسنًا، يمكن أن أخبرك عن المؤثرات التي تلقيتها وتعرضت لها، لكن ليس عن التأثيرات التي ربما أكون قد تركتها على الآخرين، فتلك مجهولة تمامًا بالنسبة لي وأنا لا أهتم بها. لكنني أرى نفسي قبل أي شيء باعتباري قارئًا، ثم أيضًا وبعد ذلك ككاتب، لكن هذا غير جوهري تقريبًا. أعتقد أنني قارئ جيد بعدة لغات، خاصة اللغة الإنجليزية، الشعر جاء إليَّ عبر اللغة الإنجليزية، بداية عن طريق حب والدي لتينيسون، وأيضًا لكيتس، و شيلي وغيرهم – ليس عن طريق لغتي المحلية. ليس عن طريق اللغة الإسبانية. جاء إليَّ كنوع من الطلسم أو التعويذة. لم أفهمه، لكنني شعرت به. منحني أبي حرية تامة للإطلاع في مكتبته. عندما أفكر في فترة صباي، أفكر باعتبارها هي مجموعات الكتب التي قرأتها فيها.
دانيل بورن: أنت بالطبع كاتب نهم للقراءة. هل يمكن أن تعطينا فكرة عامة عن كيف أن عملك كأمين مكتبة وتذوقك المتخصص في الكتب القديمة أو النادرة قد ساعداك في كتاباتك فيما يخص حداثتها؟
بورخس: أتعجب إن كانت كتاباتي تحمل أية حداثة. أعتبر نفسي منتميًا بالأساس إلى القرن التاسع عشر. أنا ولدت في نهايته، فقط في السنة الأخيرة من القرن 1899. وأيضًا انحصرت قراءاتي في نطاق ضيق – حسنًا، قرأت أيضًا للكتاب المعاصرين – لكنني نشأت على ديكنز والإنجيل، ومارك توين. بالطبع أنا مهتم بالماضي. ربما كان أحد أسباب ذلك أننا لا يمكن أن نغيِّر الماضي أو نعيد صياغته. أعني أنك بمقدورك بالكاد تغيير الحاضر. لكن الماضي برغم كل شيء هو مجرد شريط الذكريات، أو الأحلام. أظنك تعرف أن الماضي الخاص بي يبدو متغيرًا باستمرار عندما أتذكره، أو عندما أقرأ الأشياء الممتعة بالنسبة لي. أعتقد أنني مدين بالفضل لعديد من الكتّاب، ربما الكتّاب الذين قرأت لهم أو الذين كانوا بالفعل جزءًا لا يتجزأ من لغتهم، جزءًا من تقاليدهم. اللغة هي في حد ذاتها تقليد.
ستيفن كاب: لو أمكن لنا، دعنا نتحول إلى شعرك.
بورخس: يقول لي أصدقائي أنني متطفل، ذلك لأنني لا أكتب فعلاً عندما أشرع في قرض الشعر. لكن من أصدقائي هؤلاء من يكتبون النثر، ويقولون أنني لست كاتب نثر حتى عندما أبدأ في كتابة النثر. لذلك أنا لا أعرف بالفعل ماذا أفعل، أنا في حيرة.
ستيفن كاب: أحد الشعراء المحدثين، جاري شنايدر، يصف نظريته الشعرية في قصيدة قصيرة، تدعى “الحروف المتكسرة” أفكاره تبدو متشابهة في بعض الأشياء مع شعرك، وأود الاستشهاد بمقطع صغير منها، ذلك الذي يصف مواقفه نحو الكلمات في القصائد.
بورخس: موافق لكن لماذا مقطع قصير، مقطع كبير سيكون أفضل، أليس كذلك؟ أريد الاستمتاع بهذا الصباح.
(قرأ ستيفن كاب قصيدة شنايدر، من ديوان بنفس العنوان، منشورات أوريجين برس – سان فرانسيسكو – 1950).
ستيفن كاب: يشير العنوان “حروف متكسرة” إلى إقامة بناء درب من الحجارة على صخور ملساء، لتتمكن الخيول من الصعود إلى أعلى الجبل، مجرد وصلة طريق صغيرة.
بورخس: بالطبع، يكتب استعارات متنوعة، على العكس مني، أنا أكتب بطريقة بسيطة. لكنه يمتلك اللغة الإنجليزية التي يلعب بها، وأنا لست كذلك.
ستيفن كاب: تبدو فكرته عبارة عن مقارنة وضع الكلمات في القصيدة ببناء الطريق الحجري المتصل حيث تكون كل قطعة من القطع المتكسرة فيه معتمدة على القطعة السابقة أو التالية لها. هل توافق على هذا النهج في بناء القصيدة كطريقة وحيدة، أم أنه مجرد طريقة من طرق أخرى عديدة؟
بورخس: حسنًا، أعتقد كما قال كيبلينج، “هناك ستة وتسعين طريقة لبناء أناشيد القبائل، وجميعها صحيحة”. وقد تكون هذه إحدى الطرق الصحيحة. لكن طريقتي ليست مثل هذه على الإطلاق. إنني أتبع – إنه نوع ما من العلاقة، أتبع نهجًا أقل وضوحًا بعض الشيء. تأتيني الفكرة، حسنًا، هذه الفكرة تصبح حكاية أو قصيدة. لكنني أعطيت فقط نقطة البداية والهدف. ثم عليًّ أن أخترع أو ألفق بطريقة ما ما يحدث في الوسط، وعندئذ أبذل قصارى جهدي. لكن بصفة عامة، عندما أحصل على هذا النوع من الإلهام، أبذل كل ما في وسعي لمقاومته، لكن إذا استمر في إزعاجي، آنئذ يكون عليَّ كتابة الفكرة بشكل أو بآخر. لكنني لا أبحث أبدًا عن الموضوعات. إنها تأتيني في سلة أو باقة واحدة، ربما تأتي عندما أحاول النوم، أو عندما أستيقظ. تأتي إليَّ في شوارع بوينس أيرس، أو في أي مكان آخر وفي أي وقت. على سبيل المثال، منذ أسبوع مضى جاءني حلم. عندما استيقظت – كان كابوسًا – قلت، حسنًا، إن هذا الكابوس لا يستحق أن يحكى، لكنني أعتقد أن هناك قصصًا مختبئة هنا. أريد العثور عليها. ومنذ اللحظة التي اعتقد فيها أنني حصلت عليها، أكتبها في غضون خمسة أو ستة أشهر. أتمهل في كتابتها. لذا لدي، دعنا نقول، طريقة مختلفة. لدى كل حرفي طريقته الخاصة به، بالطبع، وينبغي عليَّ احترام هذا.
ستيفن كاب: يحاول شنايدر تحقيق انتقال مباشر لحالته المزاجية إلى القارئ مع تدخل هامشي ضئيل بقدر ما هو ممكن من التبرير. إنه يعمد مباشرة إلى النقل الأمين للإحساس. هل يبدو في هذا تطرف قليل من وجهة نظرك؟
بورخس: لا، لكن يبدو أنه شاعر حذر جدًا. في حين أنني عجوز فعلاً، وبسيط. أنني أثرثر فقط، محاولاً العثور على طريقي. الناس يقدمون لي، على سبيل المثال، أية رسالة يخدمها شعري. أخشى ألا يكون عندي شيء منها أصلاً. حسنًا، تلك قصة رمزية، ما هو المغزى الأخلاقي لها؟ أخشى أنني لا أعرف. أنا مجرد حالم، ثم بعد ذلك كاتب، وأكثر لحظاتي سعادة هي عندما أكون قارئًا.
ستيفن كاب: هل تعتقد أن الكلمات تمتلك التأثير الفطري في الكلمة أم في الصور التي تحملها المسميات؟
بورخس: نعم حسنًا، كمثال، إذا حاولت كتابة قصيدة في قالب السونيتة[2]، إذن على الأقل في الإسبانية، عليك استخدام كلمات محددة. هناك قواف أو إيقاعات قليلة فحسب. وبالطبع هذه القواف ربما تستخدم كاستعارات، استعارات فريدة أو مميزة، نظرًا لأنه عليك أن تلتزم بها. بل أنني سأتجاسر بأن أقول – هذا بالطبع كلام سطحي في تعميمه – لكن ربما كلمة “القمر” في اللغة الإنجليزية اشتقت من جذر مختلف عن كلمة القمر أو “لونا” في اللغة اللاتينية أو الإسبانية. “القمر” كلمة “موون” هي رنة صوت بقيت على قيد الحياة إلى الآن. القمر كلمة جميلة. المرادفة الفرنسية أيضًا جميلة: “لون”. لكن في اللغة الإنجليزية القديمة كانت الكلمة هي “مونا”. الكلمة ليست جميلة على الإطلاق، من مقطعين. وأيضًا في اليونانية أسوأ. سنجد “سيلينا”، ثلاثة مقاطع. لكن كلمة القمر”موون” كلمة جميلة. هذا الجرس غير موجود، دعنا نقول في الإسبانية. “القمر”. يمكنني أن أبقى وأتمهل مع الكلمات. الكلمات تلهمك. الكلمات تمتلك حياة في ذاتها.
ستيفن كاب: الحياة الخاصة التي تمتلكها الكلمات، هل تبدو أكثر أهمية من المعنى الذي تعطيه داخل سياق معين؟
بورخس: أعتقد أن المعاني لا أهمية لها تقريبًا. المهم، الحقيقتين الأكثر أهمية اللتين ينبغي عليًّ قولهما هما، الإحساس، ثم الكلمات التي تنبعث من الإحساس. أنا لا أعتقد أنه يمكنك الكتابة بطريقة لا إحساس فيها. إن حاولت هذا، ستكون النتيجة، تلفيقية. وأنا لا أحب هذا النوع من الكتابة. أعتقد أنه إذا كانت القصيدة عظيمة حقًا، فإنه ينبغي عليك التفكير في أنها كتبت نفسها رغم أنف المؤلف. إنها يجب أن تتدفق.
ستيفن كاب: هل من الممكن لمجموعة معينة من الأساطير أن تُستَبدل بأخرى عند انتقالها من شاعر إلى آخر ورغم ذلك تعطي نفس الأثر الشعري؟
بورخس: أفترض أن لكل شاعر أساطيره الخاصة به. ربما هو غير واع بها. يقول الناس لي أنني قد طورت أساطير خاصة بالنمور، والنصال، والمتاهات، وأنا غير مدرك للحقيقة على النحو المشار إليه. يكتشف قرائي هذا باستمرار. لكنني أعتقد أن هذا ربما هو دور الشعر. عندما أتذكر أمريكا، أميل إلى التفكير دائمًا بطريقة والت ويتمان. كلمة “مانهاتن” اختُرعت من أجله، أم لا؟
ستيفن كاب: صورة صحيحة لأمريكا المتعافية.
بورخس: حسنًا، نعم. في الوقت نفسه، كان والت ويتمان نفسه أسطورة، أسطورة الرجل الذي كتب، رجل بائس تعيس جدًا، وحيد جدًا، والآن صنع من نفسه متشرد رائع نوعًا ما. أشرت إلى أن ويتمان ربما هو الكاتب الوحيد على وجه الأرض الذي تمكن من خلق أسطورة شخصية لنفسه عن نفسه وأحد الأشخاص الثلاثة المقدسين هو القارئ، لأنه عندما تقرأ والت ويتمان، تجد أنك والت ويتمان. غريب جدًا أنه تمكن من فعل هذا، الشخص الوحيد في العالم. بالطبع، أفرزت أمريكا كتابًا مهمين على مستوى العالم. خاصة نيو إنجلاند. لقد أعطيتم العالم رجالاً لا يمكن تجاهلهم. مثال ذلك، كل الأدب المعاصر لم يكن ليصل لما وصل إليه بدون بو، ويتمان، وربما ملفيل وهنري جيمس. لكن في أمريكا الجنوبية، لدينا العديد من الأشياء المهمة لنا ولإسبانيا، لكن ليس لباقي أنحاء العالم. أعتقد فعلاً أن الأدب الإسباني بدأ عندما أصبح مصقولاً جيدًا جدًا. ثم في مكان ما، وبالطبع مع كتاب مثل “كويفادو، وجونجورا”، تشعر بشيء ما قد صار جامدًا متيبسًا؛ اللغة لا تعود تنساب حسب طبيعتها.
دانيل بورن: هل هذا ينطبق على القرن العشرين؟ هناك لوركا على سبيل المثال.
بورخس: لكنني غير مغرم بلوركا. حسنًا، لتعلم أن، هذا لعيب في ذاتي، أنا أكره الشعر المرئي. لوركا مرئي طوال الوقت، وهو يميل إلى الاستعارات كثيرًا. لكنني أعرف بالطبع أنه محترم جدًا. عرفته بصفة شخصية. عاش في سنة من السنين في نيويورك. لم يتعلم كلمة إنجليزية واحدة بعد سنة قضاها في نيويورك.. غريب جدًا. قابلته مرة واحدة في بوينس أيرس. ثم، كانت فكرة محظوظة بالنسبة له كونه سيعدم. أفضل شيء يحدث للشاعر، موت جميل، أليس كذلك؟ موت رائع. ثم بعد ذلك كتب “أنطونيو متشارو” تلك القصيدة الجميلة المشهورة عنه.
ستيفن كاب: يتم اتخاذ هنود “الهوبي” (شمال أريزونا) كمثال يتم ترديده كثيرًا، بسبب طبيعة لغتهم، ونوعية الفكر في لغة وكلمات هؤلاء.
بورخس: أعرف القليل جدًا عنهم وعن هذا. كانت جدتي لأمي قد أخبرتني عن “هنود البمباس” ظلت طوال حياتها في “جانن”؛ حيث في نهاية حدود الحضارة الغربية. قالت لي كحقيقة أن علم الحساب الخاص بهم يتم هكذا. ساعدتني وقالت، “سوف أعلمك حساب هنود البمباس”. “لن أفهم”. “بلى” قالت هي، “سوف تفهم، انظر إلى يديَّ: 1، 2، 3، 4، الكثير”. وهكذا كانت المالانهايات هي عند إبهامها. كنت قد لاحظت، فيما يسميه رجال الأدب “البمباس”، أن الناس لديهم مفهوم لكنه محدود عن المسافة. إنهم لا يفكرون في القياس بالأميال، أو الفراسخ.
ستيفن كاب: صديقي القادم من “كنتاكي” قال لي أنهم يتكلمون عن المسافة هناك بطريقة على بعد جبل واحد أو جبلين… إلخ.
بورخس: أوه حقًا؟ يا للغرابة.
ستيفن كاب: هل يبدو التغير من الإسبانية إلى الإنجليزية إلى الألمانية أو الإنجليزية القديمة على أنه يتيح لك وسائل مختلفة لرؤية العالم؟
بورخس: لا أعتقد أن اللغات في ترادف جوهريًا. في الإسبانية من الصعب جدًا جعل أو ترك الأشياء تتدفق، لأن الكلمات مسرفة الطول. لكن في اللغة الإنجليزية، هناك كلمات خاطفة. مثلاً، إذا أخذت كلمة “slow-ly (سلولي) ببطء، وكلمة quick–ly (كويكلي) بسرعة”، في اللغة الإنجليزية، ما تسمعه أساسًا من الكلمة هو الجزء ذا المعنى الخاص بالكلمة: سلو – لي، كويك – لي. تسمع سلو و كويك. لكن في الإسبانية تقول “لينتمنت، رابيدمنت”، وما تسمعه هو المقطع “منت”. تلك نغمة مجانية، إذا جاز القول. ترجم صديقي سونيتات شكسبير فاحتاجت بالإسبانية ضعف المساحة، نظرًا لأن الكلمات الإنجليزية قصيرة. وفي الصميم، لكن الكلمات الإسبانية أطول مما ينبغي. في الإنجليزية أيضًا خصوبة في التعبيرات الفيزيائية المحسوسة. حسنًا، في الإنجليزية يمكن أن تقول: “يزيل تعقيد أو حرج أو صعوبة”، باستخدام الفعل “يشرح”، وفي قصيدة من نوع البالاد (الأغنية البسيطة) لكيبلينج بعنوان “بالاد الشرق والغرب”، ضابط إنجليزي يتعقب لص الخيول الأفغاني، كلاهما على ظهر حصان، ويكتب كيبلينج “امتطيا القمر الواطئ إلى خارج السماء. حوافرهما تنقر الفجر (أي، على إيقاع حوافرهما يبزغ الفجر)”.
الآن ليس بإمكانك امتطاء القمر المنخفض خارج السماء في الإسبانية، ولا يمكنك أن تنقر الفجر. لا يمكن حدوث هذا حتى لو كانت مجرد كلمة بسيطة مثل “هو سقط أو أنهض نفسه، لا تستطيع هذا في الإسبانية. عليك أن تقول “نهض بأقصى ما في وسعه” أو صياغة عرجاء كبديل مخل آخر. لكن في الإنجليزية بإمكانك عمل الكثير باستخدام الأفعال والترتيبات والتقديم والتأخير. يمكن أن تكتب: اقض أوقات حياتك في سرور؛ باستخدام الفعل” يحلم “وأن تقول “يعلي من شأن أو يقوم بتحقيق مبدأ مثلاً” باستخدام الفعل “يعيش” وأن تقول بالمثل: “ذنب ما ينبغي عليك محوه”. هذه الأمور مستحيلة في الإسبانية. لا يمكن وجودها. ثم عندك نحت كلمات مركبة. مثال ذلك، عندك “وردسميث”، ستكون في الإسبانية “آن هيريرو دي بالابراس”، مصطنعة ومتكلفة، زائدة عن اللزوم، فظة إلى حد ما وغير مصقولة. لكن يمكن تخليقها في اللغة الألمانية بإمكانك تركيب كلمات باستمرار في الألمانية، لكن ليس باستمرار في الإنجليزية الآن. أنت غير مسموح لك بالحرية التي كانت عند الأنجلوساكسون. مثال ذلك، “سيج فولك”، أي “الشعب المنتصر”. في زمن الإنجليزية القديمة، لم يكن أحد يفكر في هذه الكلمات على أساس أنها مخلقة، لكن في الإسبانية لا يمكنك هذا التخليق. لكن بالطبع، سأطلعك على ما هو جميل في اللغة الإسبانية من وجهة نظري : الأصوات، الأصوات واضحة جدًا. لكن الإنجليزية فقدت الحروف المتحركة المفتوحة في صوتياتها.
ستيفن كاب: ما الذي جذبك بالأساس إلى الشعر الأنجلوساكسوني؟
بورخس: حسنًا، فقدت بصري من جراء كثرة القراءة عندما كنت أعمل أمينًا لمكتبة الأرجنتين القومية. قلت أنني لا أريد أن أذعن ولا أسمح بالإشفاق على حالي وبرثاء نفسي. سأحاول شيئًا آخر. ثم، تذكرت أنني عندي بالبيت “قراءات ساكسونية – هنري سويت” و”حوليات الأنجلو ساكسون”. وقلت سوف أحاول مع الأنجلوساكسون. وعندئذ بدأت، درست مباشرة في “قراءات أنجلو ساكسونية”. وقتئذ وقعت في حبها عن طريق كلمتين. هاتان الكلمتان، مازال بمقدوري تذكرهما، كانت هاتان الكلمتان هما اسم مدينة لندن، “لندن بر Lundenburh”؛ ثم روما، “روم بر Romeburh”. والآن أحاول مع الآداب الجرمانية الاسكندنافية القديمة، التي كانت تمثل أدبًا أكثر جمالاً من الإنجليزية القديمة.
ستيفن كاب: كيف لك أن تصف أساطير القرن العشرين للأدباء؟
دانيل بورن: هذا سؤال كبير!
بورخس: لا أعتقد أنه يجب عليَّ القيام بذلك متعمدًا. لا يجب عليك أن تحاول أن تكون معاصرًا. أنت فعلاً معاصر. ما يفعله الفرد بالأساطير هو تطويرها باستمرار. وعن نفسي، أعتقد أنني أفعل هذا مع الأساطير اليونانية والجرمانية الاسكندنافية القديمة. فمثالاً أنا، لا أعتقد أنني في حاجة إلى الطائرات أو السكك الحديدية أو السيارات.
ستيفن كاب: أتساءل إن كانت هناك أية قراءات صوفية أو دينية بعينها كنت قد لجأت إليها أثرت عليك؟
بورخس: نعم، كانت لي بعض القراءات بالطبع، في الإنجليزية والألمانية، للصوفيين. وعليه، أعتقد، قبل أن أموت، أنني سأبذل قصارى جهدي لتأليف كتاب عن الصوفي “سودينبورج”.
“بليك” أيضًا كان صوفيًا. لكنني لا أحب أساطير بليك. أراها مصطنعة جدًا.
دانيل بورن: قلت “عندما يقرأ المرء ويتمان، يكون المرء ويتمان”، وأنا أتساءل، عندما ترجمت كافكا هل شعرت في أي وقت أنك كنت كافكا بأي معنى من المعاني؟
بورخس: حسنًا، شعرت أنني مدين جدًا إلى كافكا لدرجة أنني لم أكن أريد أن أوجد. لكن، فعلاً، أنا بالكاد كلمة لكل من تشيسترتون، وكافكا، والسير توماس براون – الذي أحبه. قمت بترجمته إلى لغة القرن السابع عشر الإسبانية ونجح هذا بصورة جيدة جدًا وكانت موفقة للغاية. أخذنا فصلاً من “أورن بريال” وترجمناه إلى لغة “كويفادو” الإسبانية، وسار الأمر بشكل حسن جدًا – نفس الفترة، نفس فكرة كتابة اللاتينية في لغات مختلفة، كتابة اللاتينية باللغة الإنجليزية؛ وكتابة اللاتينية باللغة الإسبانية.
دانيل بورن: قمت بترجمة كافكا إلى الإسبانية، هل شعرت بإحساس أنك تقوم بمهمة أو رسالة وقت أن كنت تترجمه؟
بورخيس: لا، كان هذا عندما ترجمت “أغنية عن نفسي” لوالت ويتمان. “ما أفعله شيء غاية في الأهمية”، هذا ما قلته لنفسي. بالطبع أنا أعرف ويتمان عن ظهر قلب.
دانيل بورن: هل تشعر أنه في أي من ترجماتك أنك بالقيام بها ستساعد في فهم وتقدير أعمالك الخاصة، هل بدت لك الترجمات في أي وقت مبررًا أو تمهيدًا لما فعلته أنت نفسك؟
بورخس: لا، أنا لا أفكر في أعمالي الخاصة أبدًا…
دانيل بورن: عندما تترجم…
بورخس: لا، في البيت، تعالى لزيارتي في بوينس أيرس، سأطلعك على مكتبتي، لن تجد بها كتابًا واحدًا من كتبي. أنا متأكد جدًا من هذا.. أنا أختار كتبي. من أنا لأضع نفسي إلى جوار سير توماس براون، أو إميرسون، أنا لست بأحد.
دانيل بورن: إذن بورخس الكاتب وبورخس المترجم منفصلان تمامًا؟
بورخس: نعم، إنهما منفصلان. عندما أترجم، أحاول ألاَّ أقحم نفسي. أحاول القيام بترجمة عادلة بعض الشيء، وأن أكون شاعريًا أيضًا.
دانيل بورن: قلت أنك لا تحاول أبدًا وضع أي معنى في أعمالك.
بورخس: حسنًا، تعرف، أنظر إلى نفسي كرجل أخلاقي، لكنني لا أحاول تعليم الأخلاقيات. ليست لديَّ رسالة. أعرف القليل عن الحياة المعاصرة. لا أقرأ الصحف. لا أحب السياسة والسياسيين. لا أنتمي إلى أي حزب كان. حياتي الخاصة هي حياة خاصة بمعنى الكلمة. أحاول تحاشي المصورين والدعاية. كانت لوالدي نفس الفكرة. قال لي، “أريد أن أكون رجل (ول) غير المرئي”. كان فخورًا تمامًا بذلك. هناك في ريو دي جينيرو، لا أحد يعرف اسمي. شعرت هناك أنني غير مرئي. وبطريقة ما، اكتشفتني الدعاية. ما الذي أفعله إزاء هذا الأمر؟ أنا لم أبحث عن الشهرة، وإنما هي التي وجدتني. بالطبع، عندما يعيش المرء حتى يصبح في الثمانين من عمره، لا بد وأن يتم اكتشافه، يتم العثور عليه.
دانيل بورن: فيما يتعلق بالمعنى في أعمالك أو غيابه عنها – في أعمال كافكا هناك إدانه تسري عبر أعماله كلها، وفي كتاباتك كل شيء هو خارج نطاق الإدانة.
بورخس: نعم، هذا صحيح. كان لدى كافكا إحساس بالذنب. أنا لا أعتقد أنه عندي لأنني لا أؤمن بالإرادة الحرة. لأن ما فعلته قد حدث بالفعل، حسنًا، سواء حدث لي أو كنت أنا أداة له. لكنني لم أقم به مختارًا بالفعل. ولأنني لا أؤمن بالإرادة الحرة، لا يمكنني أن أشعر بالذنب؟
دانيل بورن: هل هذا اتفق وقتها مع قولك أن هناك فقط اتحاد عناصر محدود والواقعي جدًا هو فقط تكوين الأفكار باعتبارها فقط إعادة اكتشاف الماضي؟
بورخس: نعم، أفترض هذا. أعتقد أن كل جيل يجب عليه إعادة صياغة كتب الماضي وإفرازها في أساليب مختلفة قليلاً. عندما أكتب قصيدة، فإنها بالفعل تكون قد سبقت كتابتها مرات ومرات من قبلي. لكن عليَّ إعادة اكتشافها. هذا هو واجبي الأخلاقي، إعادة كتابة ما سبق. أفترض أننا جميعًا قمنا بتغيرات بسيطة جدًا، لكن اللغة نفسها لا يمكن أن تتغير بسهولة ولا بسرعة. جويس، بالطبع، حاول عمل هذا التغيير فيها. لكنه أخفق، رغم أنه كتب بعض السطور الجميلة.
دانيل بورن: هل ستقول إذن أن كل القصائد التي أعيدت صياغتها ترتد عن من نفس الحائط في المتاهة؟
بورخس: نعم، إنها كذلك. هذه استعارة جيدة، نعم. بالطبع ستكون كذلك.
دانيل بورن: هل يمكن أن تعطينا بعض الإضاءات بخصوص متى تعتقد أن إسباغ الصبغة المحلية المستخدمة يكون منطقيًا أو مشروعًا ومتى تكون غير ذلك.
بورخس: أعتقد، إذا كان بإمكانك عملها بطريقة متحفظة ودون إقحام، فسيكون الأمر كله جيد. لكن إذا أكدت عليها أو بالغت فيها، فإن الأمر برمته سيكون مصطنعًا. لكن الأفضل هو استخدامها، أقصد، هذا غير ممنوع. لكن ليس لك التأكيد عليه. قمنا بتطوير نوع من اللغة العامية في بوينس أيرس. الكُتّاب، هم الذين أساؤا استعمالها، ابتذلوها وأفرطوا فيها. لكن الناس أنفسهم استعملوها بشكل قليل. ربما يقولون كلمة بالعامية كل عشرين دقيقة أو نحو ذلك، لكن لا أحد يحاول التحدث بالعامية طوال الوقت.
دانيل بورن: هل شعرت أن هناك أدباء من شمال أمريكا نقلوا هذه التفاصيل المحلية الواقعية بفاعلية إلى داخل تلك الثقافة كرافد من الخارج؟
بورخس: نعم، أعتقد أن مارك توين منحني الكثير. ثم، أتساءل إن كان “رينج لاردنير” منحني أيضًا شيئًا آخر. تنظرون إليه كإنسان أمريكي صرف الآن، أليس كذلك؟
دانيل بورن: ومديني…
بورخس: أكثر مدنية، نعم. ثم، أي كتاب آخرين؟ بالطبع، أنا قرأت “بريت هارت”. أعتقد أن فوكنر كاتب عظيم جدًا – بالمناسبة، أنا لا أحب هيمنجواي – لكن فوكنر كان روائيًا عظيمًا، حسنًا، بالرغم من أنه يحكي القصة بالطريقة الخطأ ويخلط التسلسل الزمني.
دانيل بورن: أنت ترجمت رواية فوكنر “النخيل البري”.
بورخس: نعم، لكنني لست مغرمًا جدًا بهذا الكتاب. أعتقد أن “النور في آب” أفضل بكثير. وذلك الكتاب الذي ازدراه أيضًا، “المحراب” هو أيضًا كتاب مدهش جدًا. كان هذا أول ما قرأت لفوكنر، وانتقلت بعده إلى أعماله الأخرى. قرأت شعره أيضًا.
دانيل بورن: عندما كنت تترجم فوكنر واستخدامه للمحلية، كيف تعاملت معها، هل التصقت باللغة الإسبانية الفصحى أم حاولت وضعه في قالب من اللغة الإسبانية المحلية؟
بورخس: لا، أعتقد أنه إذا كان على المرء ترجمة لغة عامية، فإنه من الواجب ترجمتها إلى الإسبانية الفصحى، لأنك لن… ستحصل على نوع مختلف من المحلية. على سبيل المثال، لدينا ترجمة قصيدة من شعرنا تدعى”الجاوشو (راعي البقر)، مارتن فييرو”. الآن، تمت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية بـ”كاوبوي”. هذا خطأ، ينبغي عليَّ أن أقول هذا، لأنك تفكر في الكاوبوي وليس في الجاوشو. ولو قمت أنا بالترجمة لكنت سأترجم مارتن فييرو، إلى لغة إنجليزية صرفة قدر المستطاع. لأنه عن طريق الكاوبوي والجوشو ربما يكونان نفس النوع من الرجال، وتفكر فيهما على أنهما مختلفان. مثال ذلك، عندما تفكر في الكاوبوي، حسنًا، أنت تتصور المسدسات. لكن عندما تفكر في الجوشو، أنت تتصور الخناجر والمبارزات. الأمر برمته يتم بطريقة مختلفة تمامًا. رأيت بعضه، رأيت رجلاً عجوزًا، في الخامسة والسبعين أو نحو ذلك، وهو يتحدى شابًا في مبارزة، وقد قال، “سأعود في لمح البصر”. عاد بخنجرين يبدوان خطيرين جدًا، واحد منهما بمقبض فضي، والآخر أكبر منه. الخنجران لم يكونا من نفس الحجم. وضعهما على المنضدة وقال، “حسنًا، الآن، اختر سلاحك”. وبذلك أنت ترى، عندما قال هذا كان يستخدم نوعًا من البلاغة. كان يقصد: “يمكنك أن تختار الأكبر، أنا لن أمانع”. عندئذ اعتذر الشاب بالطبع. لدى الرجل العديد من الخناجر في منزله، لكنه اختار هذين الاثنين عن عمد. كان هذان الخنجران يقولان، “يعرف الرجل العجوز كيف يتعامل بالخنجر، نظرًا لأنه يمكنه أن يختار الآخر”.
دانيل بورن: هذا يذكرنا بقصصك…
بورخس: حسنًا، بالطبع، استخدمته في قصصي، من سرد الخبرة الشخصية للأديب، تأتي القصص بالطبع فيما بعد.
دانيل بورن: هناك معنى في قصصك، لكنك لا تريد أن تذكر المعنى، إنك فقط تحكي ما حدث.
بورخس: حسنًا، المعنى هو أن الرجل كان قاطع طريق، كان محتالاً. لكن في الوقت نفسه كان عنده مبدأ أو قانون أو ميثاق شرف: أعنى أنه لم يفكر في مهاجمة شخص ما بدون تحذير عادل: أعني أنه عرف الطريقة التي كانت تمضي بها هذه الأمور. الأمر برمته تم ببطء، ببطء شديد. قد يبدأ الرجل بمدح الآخر. عندئذ ستود أن تقول، إنه جاء من مكان لا يعرف أحد فيه كيف يقاتل. ربما، ينبغي عليك تعليمه. ثم بعد ذلك، سيقاطع الآخر بكلمات مدح، ثم يقول بعد ذلك، “دعنا نمضي إلى الشارع”، “اختر سلاحك”، هكذا. لكن كل هذه الأمور بأكملها تم عملها ببطء شديد، برقة فائقة. أتساءل إن كان ذلك النوع من الكلام قد اختفى. أعتقد أنه اختفى. حسنًا، يستخدمون الآن، المسدسات، والبنادق، وأمثال هذا القانون اختفت كلها. يمكن أن تطلق النار على رجل من مسافة بعيدة.
دانيل بورن: محاربة السكاكين أكثر حميمية.
بورخس: إنها حميمية، حقًا. حسنًا، استخدمت هذه المفردة. في نهاية قصيدة لي استخدمتها. الرجل الذي تم ذبحه ثم أقول، “النهاية الحميمية لسكين في حلقه”.
دانيل بورن: قلت أن الكتاب الجدد ينبغي أن يبدؤوا بتقليد الأشكال القديمة والكتاب المتمكنين.
بورخس: أعتقد أنها مسألة أمانة، أليس كذلك؟ إذا أردت تجديد شيء ما يجب عليك أن تبدو قادرًا على عمل ما قد تم عمله. لا يمكن أن تبدأ بالابتكار. لا يمكن أن تبدأ بالشعر الحر على سبيل المثال. ينبغي أن تحاول كتابة السونيتة، أو أي مقاطع شعرية أخرى، ثم بعد ذلك انطلق إلى الأشكال الجديدة.
دانيل بورن: متى يحين وقت الانتقال؟ هل يمكن أن تعطينا بعض الأفكار من تجربتك الخاصة عندما علمت أن الوقت قد حان للدخول إلي طريقة جديدة؟
بورخس: لا، لأنني ارتكبت خطأ. بدأت بالشعر الحر. لم أعرف كيف أتعامل معه. صعب جدًا، ثم، اكتشفت أنه بالرغم من كل شيء، في الكتابة مستخدمًا الشعر الحر عليك أن تخلق نمطك الخاص بك وتغيره باستمرار. حسنًا، النثر، النثر يأتي بعد الشعر طبعًا، النثر أكثر صعوبة. لا أعرف. كتبت بالفطرة. لا أعتقد أنني شاعر واع جدًا.
دانيل بورن: قلت أنه يجب على الكاتب أن يبدأ تقريبًا بالأشكال التقليدية. ألا تعتقد أن هذه مسألة تتعارض مع الجمهور؟
بورخس: لا، لم أفكر أبدًا في الجمهور. عندما طبعت كتابي الأول لم أرسل الكتاب إلى محلات بيع الكتب، أو إلى الكتاب الآخرين، فقط أعطيت النسخ للأصدقاء – قرابة ثلاث مائة نسخة تبرعت بها للأصدقاء. لم تكن مخصصة للبيع. لكن بالطبع، في تلك الأيام لم يفكر أحد في أن يصبح كاتبًا مشهورًا، أو فاشلاً، أو ناجحًا. هذه الأفكار كانت غريبة علينا سنوات العشرينات والثلاثينات. لم يشغل بال أحد ما يتعلق بالفشل أو النجاح في تسويق الكتب. فكرنا في الكتابة كأنها، سأقول كتسلية، أو كنوع من القدر. وعندما قرأت “سيرة دي كوينسي الذاتية”، اكتشفت أنه عرف طوال الوقت أن حياته ستكون حياة أدبية، وميلتون أيضًا، وكوليردج كذلك، فيما أعتقد. عرفوا هذا على مدار حياتهم. عرفوا أن حياتهم ستوهب للأدب، للقراءة والكتابة، اللتين بالطبع، تتماشيان معًا.
دانيل بورن: قطعتك النثرية الصغيرة “بورخس وأنا” وقصيدة “المراقب” تظهران إعجابك بالإزدواج. يمكننا ترك بورخس غير الكاتب يتحدث لفترة ويعطي نوعًا من التقييم لأعمال بورخس الكاتب، ما إذا أحب أعماله أم لا؟
بورخس: أنا لا أحبها كثيرًا. أفضل النصوص الأصلية قبل أن أقوم بتقليدها أو محاكاتها. أفضِّل تشيسترتون وكافكا.
دانيل بورن: لذا هل تعتقد أن قرار بورخس غير الكاتب هو ألا تحتوي مكتبتك في الأرجنتين على أي كتاب من كتب بورخيس؟
بورخس: نعم، بالطبع.
دانيل بورن: هو الذي زج بنفسه في هذا الوضع.
بورخس: نعم، هو الذي فعل ذلك، نعم. لن تجد له كتابًا واحدًا حولي، لأنني حذَّرته أنني مريض ومتعب. حذّرته من الطريقة التي أشعر وأنظر بها. أقول، حسنًا، ها هو بورخس يعود ثانية. ماذا أفعل؟ – سوف أصبر عليه وأتحمله. الجميع يشعر مثلي بهذا الشعور فيما أعتقد.
دانيل بورن: التعليق الذي قاله جان بول سارتر يظل يبهرني دائمًا. قال :”الإنسان ساحر بالنسبة للإنسان”. ما رأيك في هذا؟ هل تتفق معه؟
بورخس: الإنسان ساحر؟
دانيل بورن: يخترع الأفكار، يخترع قوانين للعالم، ويحاول أن يجعل من هم حوله من البشر يصدقونها. هل تتفق مع هذا؟
بورخس: أفترض أن ذلك ينطبق على الشعراء والكتاب بصفة خاصة، أليس كذلك؟ واللاهوتيين بالطبع. رغم كل شيء، إذا فكرت في الثالوث المقدس، فسيكون الأمر أغرب بكثير من إدجار ألن بو. الأب، الابن، والروح القدس، وهم مختصرون في كائن واحد. شيء غريب جدًا، جدًا. المفترض هو أن لا أحد يؤمن بهذا. على الأقل أنا لا أؤمن بهذا.
دانيل بورن: الأساطير لا تحتاج إلى إيمان لتفعل فعلها، رغم ذلك.
بورخس: لا، ورغم ذلك، أتعجب. على سبيل المثال، خيالنا يقبل القنطور بنصفه رجل ونصفه فرس، لكن ليس، دعنا نقول، ثورًا بوجه قط. لا. لن يكون هذا جيدًا، سيكون فظًا جدًا، جدًا. لكنك تقبل المينتور بنصف رجل ونصف ثور، لأنه رائع أيضًا. حسنًا، على الأقل نفكر فيهما ككائنين جميلين. هما بالطبع جزء من التقاليد الموروثة. لكن دانتي، الذي لم ير الآثار لحظة، لم ير العملات أبدًا، وعرف الأساطير اليونانية عن طر يق الكتاب اللاتينيين. وفكّر في المينتور ككائن على شكل ثور بوجه إنسان ملتح. قبيح جدًا. في الطبعات الكثيرة لدانتي ترى ذلك النوع من المينتور، بينما تفكر فيه كرجل بوجه ثور. لكن بمجرد أن قرأ دانتي “سيمي – بوفين – النصف ثور، وسيمي هو مينيم – النصف إنسان”، فكر فيهما بهذه الطريقة. وخيالنا يقبل بصعوبة هذه الفكرة. لكن كما فكرت في الأساطير الكثيرة، هناك نوعية واحدة منها ضارة جدًا، وتلك هي أسطورة البلاد أو الأوطان. أقصد، لِمَ ينبغي عليَّ التفكير في نفسي باعتباري أرجنتينيًا، ولست من شيلي، أو لست من أورجواي. لا أعرف حقًا. كل هذه الأساطير التي نفرضها على أنفسنا – وتخلق البغض، وتتجه بنا إلى الحرب، والعداوة – إنها مؤذية جدًا. حسنًا، أعتقد أنه على المدى الطويل، الحكومات والبلاد ستنقرض، وستكون فقط كوزموبوليتانية.
* نشرت هذه المقابلة في مجلة “أرت فول دودج” في 25 أبريل، 1980.
[1] اللغات الجرمانية: مجموعة من اللغات الهندية الأوروبية تشمل الإنجليزية، والألمانية، والهولندية واللغات الاسكندنافية.
[2] السونيتة: قصيدة تتألف من 14 بيتًا.