ترجمة وتقديم: محمد هاشم عبد السلام
“في الفن، طالما لديك أفكار وتفكر، فأنت ملزم بتشويه الطبيعة. الفن تشويه”.
فرناندو بوتيرو
ولد الرسام والنحات الكولومبي فرناندو بوتيرو في التاسع عشر من أبريل عام 1932 في “ميدلين”، في إقليم “أنتيوكويا”، بكولومبيا. وهو ابن لرجل أعمال كولومبي يدعى “ديفيد بوتيرو” وأمه “فلورا أنجيلو دي بوتيرو”، من “أنتيوكويا” أيضًا. له شقيقان وينحدر من عائلة كاثوليكية تنتمي إلى الطبقة الوسطى. درس في مدرسة “الجزويت” العليا في “ميدلين”. وعندما بلغ الثالثة عشر من عمره دخل مدرسة مصارعي الثيران بمساعدة عمه، الذي أراد له أن يصبح مصارعًا للثيران، وبدأت مصارعة الثيران تصبح واحدة من هواياته المحببة. لكنه سرعان ما استبدل سيفه ورايته بفرشاة الرسم والكانفاه. حمل أول عمل له بالألوان المائية اسم “مصارع الثيران”. نرى أيضًا في الكثير من لوحاته: الثيران، ومصارعي الثيران، ومصارعة الثيران. أنجز بوتيرو في شبابه مجموعة من الرسومات لصحيفة “إل كولومبيانو”. في عام 1948 عرض أعماله للمرة الأولى في معرض مخصص لفنانين من “أنتيوكويا” في “ميدلين”. لعب الفن ما قبل الكولومبي، وكولونيالية عصر الباروك، والجداريات المكسيكية لكل من “ديفيد ألفارو سيكويروس” (1896 – 1974) و”خوزيه كليمنت أرزكو” (1883 – 1949) بالإضافة إلى كتابات “لوركا، ونيرودا، وأستورياس”، دورًا هامًا في السنوات المبكرة من حياة بوتيرو الفنية.
في عام 1952 ذهب بوتيرو للعيش في “بوجوتا”، عاصمة كولومبيا، حيث واصل الرسم وإقامة المعارض. إلى جانب هذا درس بوتيرو الفن وعاش متنقلا بين المكسيك، ونيويورك وأوروبا، حيث شاهد أعمال الأساتذة العظماء الذين كان مفتونًا بهم. قضى بوتيرو الكثير من وقته في المتاحف حيث درس الأعمال العظيمة لـ “فيلاسكيز، وجويا، وروبنز، وجيوتو، وبيرو ديلا فرانشيسكا، وجورجيو دي كريكو”، وآخرين. وقد أقام العديد من المعارض الكبيرة حول العالم، في كولومبيا (1951)، وفي المكسيك (1957)، وفي فرنسا والولايات المتحدة (1957)، وألمانيا (1966)، وإسبانيا (1968)، وإيطاليا (1991) وغيرها الكثير.
تزوج بوتيرو من “جلوريا زيا”، وأقاما معًا في المكسيك حيث رزقا بأول طفل لهما، “فرناندو”، إلا أنه توفي في حادث سيارة وهو في الرابعة من عمره. ويظهر هذا الطفل في الكثير من لوحات بوتيرو. ثم رزقا بطفل آخر أسمياه أيضًا “فرناندو”، وابنة ولدت في “بوجوتا”. وكان بوتيرو قد أنجز في ذاك الوقت بعض الرسومات لـ “جارسيا ماركيز”. في عام 1960 انتهى زواجه الأول، لكن في عام 1964 تزوج مرة ثانية من “سيسليا زمبرانو”، زوجته الحالية.
أثرت المشاكل الاجتماعية والاقتصادية على أعمال بوتيرو فراح يوظفها كتيمات في العديد من أعماله الفنية. ويمكننا أن نرى الموتيفات الاجتماعية الخاصة بمشاكل كولومبيا واضحة في لوحاته من خلال تصويره لعمليات الاتجار في المخدرات، وانفجار القنابل، والسيطرة القمعية العسكرية، وشخصيات الفلاحين غير المتعلمين، والنساء المضطهدات، والعاهرات، ورجال الدين، والراهبات، والأعلام، والجبال، والقرى.
وقد عبّر بوتيرو أيضًا عن نقده السياسي في لوحاته. وقد استفاد من تقنيات الواقعية السحرية وقام بتوظيفها من أجل تمرير رسائله الاجتماعية السياسية عبر أعماله. ويغلب على لوحات بوتيرو الألوان الأسياسية الفاقعة، كما تتسم الكثير من شخصياته بنوع من السذاجة ويغلب على العديد منها سمات تجعلها شبيهة بالدمى أو عرائس الأطفال. ومن العلامات المميزة في لوحاته والتي يكثر من رسمها في مشاهد ومواقف مختلفة: الرجال أو النساء البدينات، والحيوانات، والعاهرات، والأساقفة ذوي الوجوه البدينة والأنوف والأعين والشفاه الشديدة الصغر. ورسم بوتيرو أيضًا العديد من اللوحات ذات الطبيعة الصامتة بأسلوبه الفريد والمعهود في تضخيمه لكل ما يرسمه من بشر وحيوانات وحشرات وثمار ومركبات وغيرها من مفردات الحياة اليومية. ويعتبر فرناندو بوتيرو واحدًا من أشهر الفنانين المعاصرين الآن في أمريكا اللاتينية. في عام 2001 منح الفنان مجموعة كبيرة من لوحاته وأعماله النحتية إلى مدينة “بوجوتا” و”ميدلين”، حيث تمكن مشاهدتها في “متحف الفن في بوجوتا”، و”متحف الفن في ميدلين”.
وقد أبدع بوتيرو مؤخرًا مجموعة من الأعمال الفنية، خمسين عملاً، تحمل عنوانًا واحدًا “أبو غريب”، عرضت في روما وألمانيا واليونان وبلدان أخرى. واللوحات مرقمة على الترتيب من رقم 1 حتى 50. ومن بينها عملان ضخمان، يتألف كل منهما من ثلاثة أجزاء متصلة، وكذلك ثلاث لوحات أخرى كبيرة، إضافة إلى عشرات الرسوم متوسطة الحجم، وجميعها مستوحاة من حوادث التعذيب التي وقعت في سجن أبو غريب في العراق.
وقد صرّح بوتيرو بأن هذه اللوحات التي تدو حول “أبو غريب” غير مخصصة للبيع، وأنه يرغب في تسليمها إلى متاحف عالمية لحفظ هذا الحدث المشين في ذاكرة التاريخ العالمي. إن هذه ليست هي المرة الأولى التي يرسم فيها بوتيرو أعمال العنف أو التعذيب. فقد رسم قبل سنوات مشاهد من المجازر الدموية العنيفة التي حدثت في كولومبيا. وفي واحدة من تلك اللوحات، يظهر زعيم مافيا المخدرات الكولومبي “بابلو إسكوبار” مقتولا بعد تبادل لإطلاق نار مع الشرطة، فوق سطح أحد البيوت. كما أقام في “بوغوتا” معرضًا موضوعه العنف، من أجل إدانة النزاع المسلح الذي يمزق بلاده منذ أكثر من أربعين سنة.
السؤال: كيف جاء النجاح في مهنتك كفنان؟
بوتيرو: كان تسلقًا بطيئًا. ترين الأشياء تحدث، واحدة تلو الأخرى. اشترى متحف الفن الحديث في نيويورك لوحة وعلقها في مكان بارز جدًا لسنوات. كان هذا مهمًا. بعد ذلك نشر مقال في مجلة “التايم”. كان أول معرض خاص لي عندما كنت في الرابعة والثلاثين من عمري، في متحف “ميلواكي”. لكنني أعتقد أن أكثر اللحظات وضوحًا وتحديدًا كانت في عام 1970، عندما عرضت لي ثمانون لوحة في خمسة متاحف ألمانية. بعد ذلك، سعت إليّ بعض المعارض.
القيام بالأشياء بطريقة جيدة منذ البداية
السؤال: ما هي المزايا التي حصلت عليها في حياتك؟
بوتيرو: العيش بالقرب من المتاحف العظيمة مهم جدًا. هذه، في الواقع، هي المشلكة التي يواجهها فنان ينتمي إلى أمريكا اللاتينية، لأن ما تحتاج إليه فعلا هو مجموعة من القيم التي تغرس اهتمامًا كبيرًا بالجودة، وبالرغبة في التميز. في أمريكا اللاتينية، يمكن أن تكون رسامًا سعيدًا أكثر من جارك، لكن هذا لا يعني شيئًا. تلك هي التحديات الضيقة النطاق للمنافسة المحلية. نحتاج إلى نماذج من الكمال.
السؤال: ما هو الشيء الأكثر أهمية؟
بوتيرو: أن تصبح شيئًا، الشيء الأول الذي تحتاج إليه هو الرغبة في إنتاج الجودة. بدون تلك الرغبة، مستحيل أن تعمل أي شيء. إنها مسألة الرغبة العميقة في عمل الأشياء بطريقة جيدة.
السؤال: كيف عرفت أنك أردت أن تكون فنانًا؟
بوتيرو: بدأت الرسم – وأنا أعرف بالفعل أنني أردت أن أكون فنانًا – عندما كنت في الثالثة عشر أو الرابعة عشر من عمري. كان عندي بعض ألوان الماء من تلك الأيام التي كنت أرسم فيها الأشكال الحجمية حتى قبل أن أعرف أهمية الحجم في الرسم. ببساطة، كان الأمر ميلا طبيعيًا عندي.
السؤال: ما الذي استخلصته من تاريخ الفن الكولومبي؟
بوتيرو: عنصر أو مكون صغير في عملي وهو الفن الاستعماري. في سنوات الستينيات، كنت مشدودًا بقوة إلى ذلك الفن. اهتمامي بالنهاية المستوية للسطح مستمد من الفن الاستعماري، وجزء من ذلك الأسلوب الخاص بالنهاية في لوحاتي ومنحوتاتي هو انعكاس للفن الذي تعرضت له كطفل، إنه الفن الذي كنت تجدينه في الكنائس. كانت طقوس القداس اليومية التي عشتها حتى بلغت الثانية عشرة، وكانت تلك هي الطريقة، في اعتقادي، التي فهمت من خلالها أن السطح الأملس أو المصقول مرتبط بالجمال في الفن.
السؤال: والفن ما قبل الكولومبي؟
بوتيرو: لدي اهتمام كبير به أيضًا. إنه الأكثر مصداقية في منحوتاتي عنه في رسوماتي، لأنه ليست هناك تقريبًا نماذج للرسم.
السؤال: كيف تتعامل مع تاريخ الفن عندما تنظر إلى تاريخك؟
بوتيرو: أنا فنان من العالم الثالث، أو بصورة أفضل، فنان لم يولد وسط المتاحف، لم يولد في ظل تقاليد شديدة الرسوخ. هذا يجعلني أرى الأشياء، منذ البداية، بعينين جديدتين. معظم الفنانين الأوروبيين متعبون، بداية من اليوم الذي ولدوا فيه، بسبب عالم الفن. فكل شيء، بالنسبة لهم، تم عمله بالفعل. ليس الأمر كذلك بالنسبة لي. إنني أرى من دون أحكام مسبقة، بعينين صافيتين. أساسًا، يجب عليّ أن أخترع كل شيء من البداية. يجب عليّ أن أخترع الرسم لأنني ليس لديّ أية تقاليد مسبقة فيه. هذا أمر سيئ، من ناحية، لكنه في نفس الوقت، جيد جدًا. إنني أتمتع بهبة كوني ذاتيَّ التعلم دائمًا.
الكون صغير
السؤال: كيف ومتى يصبح الفن كونيًا؟
بوتيرو: أي شخص يحاول من البداية القيام بعمل فن “كوني” يرتكب خطأ فادحًا. تلك هي مشكلة الفن الدولي اليوم. ذلك النوع من الفن يؤثر فقط في مجموعة صغيرة جدًا من الناس الذين، بشكل ما، يحاولون القيام بنفس الشيء. كل فن عظيم موجود انطلق من نطاق ضيق. على سبيل المثال لم يرسم الانطباعيون فرنسا، رسموا جزءًا ما من فرنسا، “مونمارتر”، و”مونبرناس”، وحياة المقاهي. لم يكن هذا ترجمة للحياة الأوروبية، وإنما لحياة بسيطة في الناصية. قدّم الفن الأشوري الواقع المحلي – رجال يصطادون الأسود. وأظهر الفن المصري الحياة اليومية. يجب على كل شيء أن يبدأ من البداية، وتلك البداية محلية تمامًا. إنه الشيء نفسه في الأدب.
الفن وقواعد بوتيرو
السؤال: بالنسبة لك، ما هو الفن؟
بوتيرو: في النهاية، أعتقد أنه ما هو موجود في المتاحف. يرى الفن الأشياء نفسها أو يقوم بعملها بشكل مختلف.
السؤال: ما هي وظيفة الفنان في رأيك؟
بوتيرو: وظيفة الفنان هي إعلاء الحياة أحيانًا عبر الحسية وتوصيل ذلك إلى الطبيعة. إحدى الطرق للقيام بهذا – وهي ليست الطريقة الوحيدة – تتم عبر فكرة الحجم.
السؤال: ما المهم في العمل الفني؟
بوتيرو: الترابط هو العنصر المحدد في العمل الفني. هذا هو ما يفصل الفنان العظيم عن التلاميذ أو التابعين. الأستاذ مشغول دائمًا إلى حد الانهماك بفكرة أنه قد شوه تلك الفكرة كثيرًا جدًا لدرجة أن كل ما قام به متأثر بذلك الجنون. لا يوجد شيء أكثر جنونًا من الأسلوب.
السؤال: ما هو الشكل، بالنسبة لك؟
بوتيرو: الشكل بوضوح هو الرؤية التي لديك عن الطبيعة. بالنسبة لي إنه ابتهاج بالحجم، وهو الحسية. إنه رؤية يجب أن تكون مختلفة دائمًا.
السؤال: من أين يجيء الحجم؟
بوتيرو: يجيء من طفولتي، من التاريخ الشخصي، ما رأيته، وما أحببته. إنه استرجاع أو استعادة ضربة الحظ التي مكنتني من رؤية ما هو أبعد قليلا مما يراه الناس الآخرون. الكثير من الأشياء المرتبطة في ذاكرتك.
السؤال: لماذا تؤمن كثير جدًا بالحجم؟
بوتيرو: في التاريخ، نرى أنه عندما ظهر “جيوتو” على الساحة، أخذ التقليد البيزنطي وأعطى الوجود والواقع خلال الأحجام. كل شيء تغير، لأن الطريقة التصويرية التي جاءت من قبل تحولت نحو الحجم. بالإضافة إلى ذلك، أبدع “جيوتو” فراغًا شعريًا. وكان ثورة غير عادية! هناك لحظة عظيمة في الفن اليوناني لها نفس الميزات أيضًا. القليل الذي نعرفه عن الرسم اليوناني يوحي بنفس الفراغ والحجم. لهذه الأسباب فإن هاتين اللحظتين من التاريخ غاية في الأهمية: الفن اليوناني وعصر النهضة. في الاثنين، هناك الحجم، والفراغ والتعبير.
السؤال: لماذا اهتمامك الشديد بالسكون؟
بوتيرو: لإعطاء مثال، أحد الأشياء التي أحببتها دائمًا هي الإيحاء بالسكون في الفن المصري. فقد كان له دائمًا أثر عاطفي قوي عليّ. هناك الكثير جدًا من التلميح أو الإيعاز في الحركة الواقفة! هناك الكثير جدًا من الصعوبة أو الدقة الهندسية البالغة بحيث تصبح الحركات ساكنة إلى الأبد. أحب الطبيعة الدائمة للإيماءة.
السؤال: ما الذي يمثله الشكل البشري؟
بوتيرو: أؤمن جدًا بالنماذج الأولية. الفن ممتلئ بالنماذج الأولية التي تستجيب لتلك الرغبة في استنباط أو استخراج أشياء مدركة أو ذوات من الأشخاص. عندما تنظر إلى الفن اليوناني، تعتقد أن جميع الأشخاص في هذا الفن هم إخوة أو أقارب. كل شكل له نفس الرأس، ونفس الأنف، إلخ. كان هذا نمذجة للشكل، كما لو أن نموذجًا واحدًا فقط هو الموجود، فالنمذجة حددت سمات الناس. إنه لهذا السبب أصبحت هذه الأشكال ذواتًا.
السؤال: كيف تفهم نسب الأشكال؟
بوتيرو: أعتقد أنه يجب عليك أن تبدع شيئًا يؤدي دورًا أو وظيفة ضمن حدود غاية في الحرية والخيالية والابتكار. فأنت لا تبدع جمالا من القوانين أو القواعد الكلاسيكية. تتكون المشكلة من الدهشة والاندهاش. يجب عليك أن تجد شيئًا ينتج السلام والتوازن، على الرغم من الانسحاق وانعدام التجانس.
السؤال: إذًا، بالنسبة لك، بعض القواعد الكلاسيكية صالحة والأخرى غير صالحة؟
بوتيرو: كل القواعد صالحة لأنها نتيجة قرون من التجريب. الأمر هو أنه، في النهاية، يجب عليك أن تكسر القواعد. تبدأ بها، لكن في وقت ما أو آخر، تفعل العكس. لا يمكنك أن تفعل العكس من البداية. إنه من الضروري أن تكون على دراية ومعرفة وخبرة بالآخرين. بعد ذلك تأتي الحرية. لبلوغ النهاية، يجب عليك أن تكسر القواعد.
السؤال: ما هو مفهومك عن لعلم الجمال؟
بوتيرو: ما أفعله هو إيضاح غاية في الحميمية والذاتية، وهو مستمد من ماضيَّ، ما أحبه، وما عشته. إنني أقوم بما أعتقد أنه فن. كما أراه. إيضاح لروحي وخبرتي. رؤية مختلفة لنفس الأشياء. أساسًا، تاريخ الفن هو بالضبط: نفس الأشياء، لكنها نفذت بطريقة مختلفة. أحيانًا، ترين فنانين يحاولون اختلاق أشياء لتؤدي إلى إحساس بالجدة والأصالة. إنهم، على أية حال، يتهربون من المشكلة.
السؤال: قلت أنك كلما نضجت، تعمل بعناصر أقل. لماذا هذا؟
بوتيرو: عندما تكون فنانًا صغيرًا، تريد أن تحصل على كل شيء، لكنك لا تدرك أن امتلاك كل شيء هو امتلاك للقليل. أعتقد أن الأداة البسيطة هي أداة مؤثرة، إن ما يؤثر في نتاجاتي كلها فكرة محددة ومحورية جدًا. على سبيل المثال، عندما تقوم بعمل نحتي، لديك كل الأدوات أمامك، وعندما تستخدم واحدة منها فقط تشعر أنك تتحرك نحو إحساس صادق للنحت. نفس الشيء يحدث مع الأفكار. هناك وقت عندما ترغب في كل شيء، أن تكون تجريديًا ومجازيًا معًا، أن تتناول أو تعالج السكون، والحركة، والتعبير، وعدم التعبير، وتحكم السيطرة على العالم أيضًا. لكن، بينما يمضي الوقت، تدرك أن الإحساس الإيجابي الحقيقي للفن هو الاستسلام والعجز.
مغزى النحت
السؤال: ما هو الشيء الأكثر أهمية في النحت؟
بوتيرو: المفهوم النحتي للعمل. عندما تقوم بعمل نحتي، تعمل أولا أشكالا أو أحجامًا شديدة التجريد، شديدة البساطة، حيث يتوجب عليك فيما بعد أن تنظر إليها من زوايا كثيرة. تصل هذه الأشكال إلى حدودها النهائية عبر معالجة دقيقة وصارمة. سلسلة الأحجام هذه تتخذ مظهرًا أو شكلا خاصًا بها، ورسم خاص بها. إنه رسم لا نهائي حيث، نظرًا لأنه يتطور أكثر فأكثر، يبدأ في التعين واتخاذه لنبالته. يجب عليك أن تضفي شكلا على العمل النحتي بحيث ينقل قوة.
السؤال: عندما تنظر إلى نحتك، هل تشعر أن تجربتك بالكامل كانت مكرسة لأن تصبح نحاتًا؟ ما رأيك في هذا؟
بوتيرو: لا. ألاقي نفس المتعة سواء في الرسم أو النحت. لكنني سعيد جدًا لكوني نحاتًا لبعض الوقت.
السؤال: لماذا لبعض الوقت فقط؟
بوتيرو: الحقيقة هي أن جزءًا كبيرًا من ثرائي الخيالي يجيء لي من الرسم. الرسم يمنحني الأفكار، والحلول، والاحتمالات. إنه يفتح آفاقًا واسعة لا توجد فقط لدى الفنانين من النحاتين.
السؤال: ما هي المشكلة المركزية للنحت؟
بوتيرو: يجب على العمل النحتي أن يكون منحوتًا. النهاية أو الطبقة الخضراء على التمثال بسبب القدم هما منحتان صغيرتان للعمل النحتي. جوهر النحت هو شكل في الفراغ.
السؤال: كيف تربط الرسم بالنحت؟
بوتيرو: لدى النحت علاقة ضخمة بالرسم. فهو يبدو مثل لوحة لكن ليس له نهاية. عندما ترسم على سطح مستو، فإن اللوحة تنتهي أو تكتمل لأن هناك وجهة نظر واحدة فقط. من ناحية أخرى، كلما قمت بإدخال البعد الثالث، فأنت ترسم من دون نهاية لأن البدائل مختلفة، كما تتضح وتظهر الأجناب والصور الجانبية (البروفيلات). في النهاية، كل حركة حول العمل النحتي تدل على أو تشير إلى طريقة مختلفة وتطرح مشكلة مختلفة. إن كنت لا تعرف كيف ترسم، فليس بإمكانك أن تكون نحاتًا.
معنى الضخامة
السؤال: ما هي ميزات النحت الضخم؟
بوتيرو: لدى النحت الضخم صراع واضح مع العالم الخارجي. يجب عليه أن يتواجد، ويفرض نفسه في المكان. لهذا السبب، فإن الكثير من الفنانين الذين هم نحاتون عظماء والذين ليس لديهم إحساس بالضخامة تتلاشى أعمالهم عندما يتعاملون مع المكان المديني. “جياكوميتي” هو نحات الأعمال الشديدة الخصوصية والتفصيل، تتطلب أعماله مكانًا أو فراغًا مغلقًا. يجب على أعمال العديد من النحاتين الكبار أن تكون موضوعة في مكان داخلي لتحظى بفراغ ملائم ومناسب.
السؤال: كيف تترجم الإحساس بالضخامة؟
بوتيرو: يجب أن يكون للعمل النحتي فكرة داخلية وينبغي أن يغزو المساحة الخارجية، وهما شيئان مختلفان تمامًا. عندما تقوم بعمل نحتي ضخم، تحتاج لأن تكون على دراية بما هو العمل الضخم، وهذا صعب جدًا. لا يمكنك أن تقول مقدمًا – “سأعمل عملا نحتيًا ضخمًا”. إنها عملية اكتشاف وتأمل في الأشكال والأبعاد وكيف أن الشيء الذي تعمل عليه يمكن أن يصبح عملا ضخمًا. ليس بمقدور أحد أن يعمل عملا نحتيًا ضخمًا في خطوة واحدة. عليك أن تنظر إلى عمل نحتي صغير ويجب أن تجده متوفرًا على السمات المميزة للعمل النحتي الضخم. أحب جدًا قصة عن “رودان”. لكي يبقي على إحساسه بالضخامة حيًا، احتفظ بأسد أشوري صغير بجواره. كان ينظر بين أرجل الأسد، ويشعر وكأنه داخل كاتدرائية ضخمة.
السؤال: هل الإحساس بالضخامة له أية علاقة بالحجم؟
بوتيرو: لا يمت للحجم بصلة. له صلة بالنسب. الضخامة هي شيء غير محدد، لكنها موجودة. يمكن أن يكون العمل النحتي غير الضخم ضخمًا أيًا كان حجمه، وتختفي الضخامة.
السؤال: كيف ترى مشكلة الضوء في النحت؟
بوتيرو: إنها نفس الشيء كما في الرسم. للوحاتي انتقال هش جدًا من الظل إلى الضوء. الشكل بالكامل قوي جدًا، لكنه هش، في نفس الوقت. في أعمالي النحتية، يدخل الضوء ويتحرك بهشاشة جدًا على السطح. يمكنك من خلاله التعبير عن شيء حسي جدًا. أنا مهتم بالشعور بالشكل. والضوء هو الشكل.
السؤال: هل تعتبر نفسك نحاتًا كلاسيكيًا؟
بوتيرو: أساسًا، هناك مفهومان للعمل في النحت: النحت ككتلة والنحت كشكل يعين الفراغ، الأمر الذي يشبه كثيرًا الفن المعاصر. تاريخيًا، كان النحت عملا جماعيًا حتى القرن العشرين، باستثناءات قليلة جدًا. أساتذة مثل “بيكاسو” و”كالدر” فجروا طرقًا جديدة. كانت ثورة مهمة جدًا بشكل واضح. مضوا في تطويرهم إلى ما هو أبعد من الكتلة وتخلصوا منها. أنا مهتم بالكتلة. أعتقد أن الأعمال النحتية الأكثر جمالا هي الأعمال النحتية اليونانية أو الأعمال النحتية المصرية، التي تتميز بالضخمة.
المعارض والتقدير
السؤال: ما الذي يعنيه لك التقدير؟
بوتيرو: التقدير شيء لا يحققه أحد بصورة تامة. يعتقد الكثيرون من الناس أن “بيكاسو” كان حالة غريبة جدًا. فقد كان مقبولا أثناء حياته واستمر كذلك بعد وفاته. لكن الكل يصبح موضع شك. حتى أعظم فنان، مثال على ذلك “كارافاجيو”. قال “بوسين” إنه قد جاء إلى الحياة لقتل الرسم. بخصوص “مونيه”، قال “رينوار” إنه رسم بكرات من القطن. أعتقد “سيزان” أن “فان جوخ” كان رجلا متوحشًا. كان هناك الكثير من الأخطاء بقدر ما كانت هناك آراء. سأقول إنه من الصعب جدًا دائمًا تحقيق التقدير عندما يكون عمل الفنان جديدًا، لأن هناك الكثير من المعارضة، لأن ثمة اهتمامات أكثر خلقت.
السؤال: مثل؟
بوتيرو: تضع المؤسسة عبر الزمن المقياس أو المعيار وترتاب من أي فكرة جديدة نظرًا لعدم قدرتها على استيعابها. يمكن أن يُحدث هذا تهديدًا لوضعها. ولمجموعات بعينها قائمة، لا يمكنها إدراك ما هو جديد لأن ذلك سيكون مثل انتزاع الحجر السفلي، وإسقاط الصرح بالكامل. أساسًا، التقدير يحدث ببطء شديد وليس كلية أبدًا. هناك دائمًا حواجز أو أبواب لا تفتح. قبول مفهوم أن التقدير هو جزئي، كاف دائمًا بالنسبة لي من أجل الاستمرار في العمل بحماس. تدافع المؤسسة والناس بصفة عامة عن مراكزهم. وذلك عادي.
السؤال: من تعتقد أنه أعظم نحات في القرن العشرين؟
بوتيرو: هناك القليل جدًا من المنحوتات في القرن العشرين. “جياكوميتي” غير عادي. و”برانكوزي”. أبدع “ميرو” أشياء قليلة جميلة. لا أعتقد أن القرن العشرين سيكون الأغنى في النحت، ربما لأن هناك الكثير جدًا من الحدود.
السؤال: مثل؟
بوتيرو: اليوم هناك عدد قليل جدًا من رعاة الفنون، أو أي شخص ليملأ مكانهم، والنحت فن يتطلب الدعم الاقتصادي. بالنسبة للشباب، تظهر المشكلة عندما يريد النحات الشاب القيام بعملية الصب. يكلف الصب نفس التكلفة بالنسبة لنحات شاب كما لنحات كبير مثل “هنري مور”. العامل الرئيسي هو حجم العمل النحتي، وليس مدى شهرة الفنان. إنه ليس مثل الرسم حيث تحتاج إلى موارد اقتصادية قليلة جدًا لتنفيذ عمل. بالإضافة إلى ذلك، لدى النحات مشكلة أخرى، وهي أين يحتفظ بالأعمال التي تشغل حيزًا كبيرًا. كان السائد هو أن هناك رعاة كثيرين للفنون، والعديد من التكليفات بتنفيذ الأعمال. كان لدى “رودان”، على سبيل المثال، من عشرين إلى ثلاثين مساعدًا. في نفس الوقت، في أيامه، لم تكن المباني تصمم أبدًا من دون أعمال فنية وكان الناس يعتقدون أن النحت جزء مهم من العالم الذي عاشوا فيه.
* فصل من كتاب بعنوان “بوتيرو”، حوارات أجرتها معه “آنا ماري إسكالون” – المترجم.