محمد هاشم عبد السلام

 

على الرغم من مرور خمسين عامًا على وفاة الفنان الرائد أحمد صبري (1889 – 1955)، إلا أن موهبته في رسم البورتريه (فن رسم الصورة الشخصية)، تعد علامة يجب التوقف أمامها بشكل مستمر بين زملائه من فناني الجيل الأول في مصر، والذي كان يضم في مجال الرسم و النحت: جورج صباغ، وراغب عياد، ومحمود مختار، ومحمود سعيد. ويعتبر الفنان أحمد صبري هو الوحيد بين أبناء هذا الجيل الرائد الذي أخلص لأسلوب “الكلاسيكية الحديثة”، إن جاز لنا القول.

ولد أحمد صبري بحي المغربلين بالدرب الأحمر في 20 أبريل 1889، ماتت أمه بعد عامين من ميلاده، ثم توفي والده بعدها بست سنوات، وكان صبري يتنقل بين بيت جده لأبيه بحي السيدة زينب وبيت خاله في حي الظاهر. انغمس أحمد صبري أولاً في جو الموسيقا والطرب تقوده موهبته في الغناء، وراح يصادق محترفي العزف والغناء حتى علم بإنشاء مدرسة للفنون الجميلة فالتحق بها عام 1910. وبسبب موهبته وتفوقه قام أساتذته بترشيحه ليحصل على بعثة دراسية على نفقة الأمير يوسف كمال، على غرار المنحة التي حصل عليها من قبل المثال محمود مختار، فأخذ يتعلم اللغة الفرنسية استعدادًا لهذه البعثة عقب تخرجه بتفوق عام 1914، ولكن ظروف الحرب العالمية الأولى حالت دون تحقيق هذا الحلم، فسكن أحمد صبري في بيت الفنانين بالقلعة حتى انتهت الحرب وسافر إلى باريس على نفقته 1919، حيث التحق بأكاديمية “شومير” ثم بأكاديمية “جوليان”.

إلاّ أنه اضطر إلى العودة إلى الوطن عندما أنفق كل نقوده خلال ثلاث سنوات قضاها في الرسم في باريس. وبرجوعه إلى مصر عانى أحمد صبري الشدة وعسر العيش حتى تعرف على المقاول الفرنسي “بول فيس” الذي أعجب بفنه وتحمس له فأسكنه في غرفة فوق سطح عمارة يمتلكها بحي القصر العيني. واستطاع صبري بعد ذلك أن يحصل على وظيفة رسام في قسم الحشرات بوزارة الزراعة، ثم انتقل بعدها إلى وظيفة رسام في وزارة الأشغال العمومية، التي أوفدته في بعثة دراسية إلى باريس، وهناك تتلمذ صبري على يد المصور”بول البير لوران” ثم على يد المصور المعروف “إيمانويل فوجيرا”، ونتيجة للخبرة التي اكتسابها منهما، رسم لوحة “الراهبة” التي عرضها في صالون الخريف عام 1929 وحصل عنها على جائزة الشرف الأولى من جمعية الفنون الفرنسية والميدالية الذهبية لأحسن تحفة في المعرض، واعتبر بذلك أول فنان مصري يفوز بهذا الشرف في فن التصوير.

وفي نفس العام عاد أحمد صبري إلى مصر ليعمل بتدريس الفنون في مدرسة الفنون الجميلة العليا، ثم أسندت إليه رئاسة قسم الدراسات الحرة لفن التصوير الزيتي الذي أنشئ لأول مرة في ذلك الوقت لرعاية الموهوبين من غير حملة المؤهلات الدراسية. ثم أصبح فيما بعد رئيسًا لقسم التصوير النظامي، وظل في هذا المنصب حتى أحيل إلى التقاعد عام 1949 بينما امتد عمله في التدريس لعامين آخرين. وبعد تقاعده بدأت غشاوة تنسدل على عينيه وتنسج غلالة ضبابية بينه وبين العالم الخارجي وكان لذلك أثره على إنتاجه الفني حتى فقد بصره كلية ثم توفى في الثامن مارس عام 1955.

إن أهم ما يميز بورتريهات صبري هو ما يظهر فيها من تعبير بالملامح وما تكنه الشخصية من عواطف ونزوات ومشاعر وأحاسيس فلوحاته تمتاز باللمسات الحساسة القوية والألوان الشفافة الصريحة وفيها تتجلى أستاذية الرسام والمصور.

وإذا نظرنا إلى فن أحمد صبري نجد أن له شخصيته المستقلة ذات الطابع المميز في ميله إلى تحقيق الشخصية الإنسانية واحترامها، وبحساسيته الشديدة في التعبير الجمالي وتميز بألوانه.

وعندما كان يرسم بالزيت أو الألوان المائية أو الباستيل، كان يتفاعل مع كل خامة حسب أصولها التقنية، ليظهر بقدر المستطاع جمالها وعذوبتها، ففي الألوان الزيتية، كان يتحكم ويطوع اللون بقدرة عالية في تشكيل الأشياء، ومسار الضوء فيما بينها، وكانت مجموعته اللونية ذهبية ساحرة، نظيفة ونقية وبراقة. أما أعماله في ألوان الباستيل فهي تعد أغنى مرجع في تاريخ الفن المصري المعاصر وذلك لحيويتها ونضارتها وتميزها بسرعة الضربات الواثقة، بلا تردد أو ارتجال أو تلقائية. كما أن تصويره للوجه الشخصية بالألوان المائية تعد في غاية الرقة والإعجاز والشفافية، على الرغم مما تحتاجه الألوان المائية من دقة في الأداء والتعبيروالتقنية.

وتعتبر لوحة “عم سرور” التي أنجزها الفنان في عام 1930، من بين روائعه العديدة، وتتميز هذه اللوحة بإبراز سمات أسلوب صبري الكلاسيكي الحديث في رسم البورتريه، فالوجه رسمه الفنان بوضع غير مواجه، بل ثلاثة أرباع، بينما العيون تطل من نافذة الأمل، وكأن عم سرور يسير مع الذكريات، بين الخبرة والزمن، في سماحة وبراءة تلك الصورة العميقة الصادقة التي تشتمل على قوة التعبير وبناء الوجه التشريحي داخل بقعة أبنوسية سوداء، تمتص جميع الألوان، وقد عبقرية إبداع أحمد صبري تغلبت على تلك المشكلة بمهارة، واستطاع أن يترجم دون عناء خطوط الزمن بين التجاعيد والمناطق المضيئة في انسجام وتناسق، مع الأيدي القوية البارزة والمستندة فوق العصى الأبنوسي.

ومن اللوحات الرائعة الشهيرة للفنان لوحة “عازف العود” أو “اللحن الحزين” 1934، التي رسمها لتميذه وقتها، الفنان الكبير حسين بيكار وهو يعزف على العود. كما رسم بمارة واقتدار الأديب الكبير توفيق الحكيم 1934 وبين يديه أحد الكتب يقرأ فيها. وكذلك لوحته للأستاذ عباس محمود العقاد. وغيرها الكثير من لوحاته المتميزة لزوجته الفرنسية. كما صور أحمد صبري بخلاف البورتريهات، الطبيعة الصامتة، والموضوع العاري الجليل البعيد عن الشهوانية، والمناظر الطبيعية.

كما يلاحظ على أعمال الفنان صبري بعدها عن مسألة الهوية المصرية للفن، كذلك لم تشغله مسألة تصوير رموز الزعامة الوطنية، ولا قضية تناول التراث القومي الفرعوني أو القبطي أو الإسلامي، وقد ظل صبري مخلصًا للأكاديمية الأوروبية التي تعلمها في مصر وباريس، وظل رسامًا للصالونات والوجهاء والنوابغ.

وقد أصدر قطاع الفنون التشكيلة بوزارة الثقافة المصرية منذ فترة كتاب (كتالوج) يضم بين دفتيه مجموعة من الأعمال الفنية لرائد فن البورتريه المصري الفنان أحمد صبري، كما يحتوي على مجموعة من الدراسات التي تتناول حياة وأعمال الفنان وتستعرض مشواره ومسيرته الفنية.

وقد ضم الكتاب (الكتالوج) بالإضافة إلى الأعمال الفنية الإبداعية للرائد أحمد صبري مجموعة من الدراسات القيمة التي جاءت عناوينها كالتالي: “أحمد صبري وفن مس القلوب”، بقلم الفنان محين شعلان. “في مرثية الفنان المصور العظيم أحمد صبري”، بقلم أ. د رضا صالح. “الفنان والمعلم الفذ”، بقلم الناقد محمد حمزة. “الفنان أحمد صبري وأعماله الرائعة”، بقلم د. مصطفى الرزاز.