محمد هاشم عبد السلام

 

29 مايو 2019

 

بعد 5 أفلام قصيرة في 18 عامًا، قدّمت البلغارية ناديدا كوسيفا (1974) أولّ فيلم طويل لها، بعنوان “إيرينا” (2018). رغم الانتظار الطويل، لم يضع تريّثها هباءً. فالفيلم، الجيّد للغاية، يكشف موهبة إخراجية تَعِد بالكثير.

أداء مارتينا أبوستولوفا، في دور إيرينا، تستحقّ عنه جائزة أفضل ممثلة، نالتها في الدورة الـ43 (18 مارس/ آذار – 1 إبريل/ نيسان 2019) لـ”مهرجان هونغ كونغ السينمائي الدولي”. هذا ظهورها الأول كممثلة. تؤدّي دور البطولة في فيلم يرتكز كلّه على شخصية إيرينا، وعلى مشاعر مُتباينة لها في فترات زمنية طويلة. وجه الممثلة شديد الجاذبية والتعبير، رغم كلّ ما تمرّ به من صعوبات وآلام. الكآبة المرتسمة على وجهها ليست مُنفِّرة أبدًا. انتفاء المساحيق عمَّق مصداقية حزنها. ردود أفعال الممثلة، في المواقف المختلفة، غير مُبالغ بها أبدًا. طبعًا، هناك توجيه رائع من المخرجة لضبط الأداء، وحِرفية في كتابة السيناريو، كي لا تتحوّل المواقف المأساوية إلى ميلودراما. هناك أيضًا الأداء الصادق لأبوستولوفا، الذي يُبرز مدى استيعابها وسيطرتها وتمكّنها من شخصية إيرينا.

أبعاد الشخصية مرسومة جيدًا من ناديدا كوسيفا، وشريكيها في كتابة السيناريو سفيتوسلاف أوشاروف وبويان فوليتيك، دراميًا ونفسيًا. رغم بساطة القصّة وخيوطها الواضحة، الفيلم محبوكٌ جيّدًا. هناك تكرار في قصّة تتناول المشاكل الاجتماعية والقانونية والنفسية، المُترتبة على تأجير الأرحام. ورغم أهميتها بالنسبة إلى المجتمعات الغربية، باتت القصّة مُستهلكة في أفلام عديدة. لكن الفرق كامنٌ في المعالجة وضبط الخيوط كلّها، خصوصًا شخصية إيرينا. أداء أبوستولوفا صنع فرقًا، فتفاعل المُشاهد معه.

لم يتوقّف “إيرينا” طويلاً عند المشاكل القانونية أو الآثار الاجتماعية والأسرية الخاصّة بتأجير إيرينا لرحمها. المخرجة تعي الدرس جيدًا. الإيحاء فنيًا سبيلٌ وحيد للوصول إلى الهدف، عوضًا عن المباشرة والخطابية. الإيحاء سيّد الموقف، فنيًا ونفسيًا ودراميًا واجتماعيًا، خصوصًا فيما يتعلّق بالصراع الطبقي، وتحديدًا الصراع بين المرأتين، إيفا العاقر (إيريني غامبوناس)، الثرية والمتقدّمة في السنّ، التي تنتظر الطفل؛ وإيرينا، الشابة الجميلة والفقيرة (الأم). صراع مكتوم بين امرأتين، هو الأقوى في الفيلم، وهو يُقرأ في نظرات العيون. إيفا لا تكترث إلاّ بصحة إيرينا وبالمولود القادم، وإيرينا تتعامل مع الأمر كوظيفة عارِضة.

حتى ثلثه الأول، يركّز “إيرينا” على المأساة الإنسانية التي تعيشها إيرينا، تلك الشخصية الكادحة، التي تعمل كي تُطعم زوجها، العاطل عن العمل وشبه المدمن على الكحول، ورضيعهما. تعيش إيرينا في بلدة فقيرة، تخلو من فرص العمل. تقيم مع شقيقتها في المنزل نفسه، البائس والخالي من التدفئة. الظروف الاقتصادية التي يعيشها هؤلاء بالغة القسوة والبؤس، ما يضطرها إلى سرقة بقايا الطعام من مطعم تعمل فيه، كي تبيعها لاحقًا، من أجل مال إضافي. كما أنها تسرق البيرة لزوجها السكِّير.

كل ما يفعله زوجها ساشو (هريستو أوشيف) لأسرته يتمثّل في سرقة الفحم من منجم حفره في الحديقة الخلفية للمنزل. يُدافع عن المنجم ضد جيرانه، ويحاول منع الشرطة من معرفة الخبر. حتى هذا العمل، يقوم به على مضض، وفقط كلّما تشتكي إيرينا من برودة المنزل. وأيضًا، لا يهتمّ ساشو بالطفل أثناء غيابها. ذات يوم، تُطرد من عملها بعد اكتشاف سرقاتها، فتعود باكرًا، وتكتشف خيانة ساشو لها مع شقيقتها لودميلا (كاسيل نوح آشر). عندما تواجههما، تُدرك أن الأمر يحدث منذ فترة طويلة. ينفطر قلبها، وبالكاد تكبح غضبها وتكتم حزنها. لكنها، رغم الظروف المُعاكسة والإحباطات المتتالية، لا تتوقف عن حبّ زوجها وشقيقتها وطفلها.

بعد شجار مع جاره بسبب سطوه على الفحم، ينهار المنجم الصغير فوق رأس ساشو، الذي ينجو من الموت بأعجوبة، لكنه يُصبح مُقعدًا، ما يُضاعف من مأساة إيرينا، ويجعلها أكثر صفحًا وتفانيًا في خدمته. في الوقت نفسه، هناك مطاردة مستميتة لإيرينا لأحد جيرانها، دفاعًا عن حقّ زوجها، إذْ تشكّ في كونه سبب الحادث. ومع انعدام فرص العمل في البلدة، ومحاولتها سلوك أكثر من درب، تؤجّر إيرينا رحمها لثريَّين من مدينة صوفيا، بعد قراءتها صدفةً إعلانًا لهما على شبكة “إنترنت”. تتقدّم بالطلب، ويُوافَق عليها إذْ إنها تُلبّي الشروط المطلوبة. مع ذلك، الأمر ليس سهلاً، فالموضوع “مُجَرَّم قانونيًا” في بلغاريا. لذا، هناك ترتيبات عديدة يُمليها الزوجان على إيرينا، لضمان حقوقهما في حال تراجعها عن العقد: الإجهاض الباكر، أو إهمال صحّتها، أو عدم تسليم الطفل… إلخ.

رغم قسوة الشروط المالية، توافق وتُوقّع على العقد. في البداية، لا تنتبه إلى إمكانية شعورها برغبة الاحتفاظ بالجنين، فالمهم كامنٌ في المال الوفير الذي تحصل عليه شهريًا. تتحسّن أحوالها وأحوال أسرتها إلى حدّ معقول، ومع مرور الأشهر التسعة، واقتراب موعد الولادة، يتبدّل موقفها، وتتغيّر ردود أفعالها، فالحمل بدّل موقفها من الحياة، وممن حولها. في البداية، تُفصح عن رغبتها في مفارقة الحياة. ومع تطوّر الأحداث، واقتراب النهاية والولادة الوشيكة، يلوح بصيص أمل يُثير فيها رغبة التغيير، فستتشبثّ بهما (الأمل والرغبة).