محمد هاشم عبد السلام
يُعتبر الفنان الألماني “أدولف فون مينزل” (Adolph von Menzel) أحد أشهر وأبرز الفنانين الألمان في القرن التاسع عشر، وتُعد أعماله الفنية في الحفر والطباعة والرسومات التخطيطية والرسم بالألوان المائية والزيتية علامات شديدة التميز في تلك الفترة من تاريخ ألمانيا الفني، وتاريخ الفن بوجه عام على مستوى العالم.
في مدينة “بريسلاف” البروسية، ثالث أكبر مدن الإمبراطورية الألمانية آنذاك، الآن مدينة “فروتسواف” البولندية، ولد أدولف مينزل في 8 ديسمبر عام 1815، لأب يعمل بالتدريس. وإلى جانب عمله الأساسي، أدار ورشة لأعمال الطباعة الحجرية (ليثوجراف)، عمل بها أدولف منذ أن كان في الرابعة عشر. إلى جانب ذلك، حرص والده على تعليمه كي يصبح أستاذًا أو عالمًا في المستقبل، ولم يثنه ذلك أيضًا عن تنمية مواهب ابنه الفنية، خاصة الرسم، الذي لاحظ براعته فيه، منذ أن صارت يده قادرة على الإمساك بالقلم الرصاص والتحكم فيه.
ومع ذلك فقد كانت هناك الكثير من العقبات التي حالت دون تحقيق حلم والده. فعقب تقاعده بعدة سنوات، هاجر الأب مع أسرته إلى برلين عام 1830، وافتتح ورشة لأعمال الطباعة الحجرية، وكان أدولف يساعده فيها أيضًا. وبعد عام ونصف تقريبًا من انتقالهم إلى برلين، اضطر أدولف لرعاية أسرته، وهو في السادسة عشر، وإدارة أعمال ورشة الطباعة الخاصة بوالده نظرًا لوفاته المفاجئة.
لفترة طويلة، عانى الشاب مينزل شظف العيش واضطر لتنفيذ الكثير من الأعمال غير الهامة، مثل طباعة فواتير أرباب التجارة، وطباعة رؤوس وذيول الخطابات الرسمية وشعاراتها وكذلك بعض أعمال الاستنسل، لكسب المال فحسب. كانت ألمانيا آنذاك تعاني من حالة فقر عام ولا تزال تكابد تبعات الحروب النابليونية. وفي عام 1833، حاول مينزل أن يصقل موهبته الفنية بالدراسة الأكاديمية، فدرس لفترة وجيزة في أكاديمية الفنون ببرلين، لكنه اضطر بعد ذلك لتعلم الفن بنفسه، نظرًا للأعباء العائلية التي حالت بينه وبين إكمال دراسته الأكاديمية.
نجح مينزل كفنان مع تكليفه على يد تاجر التحف والناشر “لويس ساشس” بتنفيذ سلسلة من أعمال الطباعة الحجرية عن قصيدة صغيرة لجوته بعنوان “الفنان”. وقد أنجز مينزل هذا العمل الفني عام 1833، وكان ألبومًا من الرسومات التوضيحية المرسومة بالحبر. وكانت تلك بداية موفقة جدًا، جعلته ينضم في العام التالي إلى “رابطة الفنانين الشباب”. ومنذ تلك الفترة بدأ أدولف يتعلم استخدام الألوان الزيتية والمائية، وأنجز مجموعة من الأعمال بالألوان الزيتية والمائية خرجت على قدر من التميز، هذا إلى جانب أعماله التجارية التي كان ينجزها بطريقتي الطباعة الحجرية والاستنسيل.
وفي عام 1838، تم قبوله في “جمعية الفنانين الكبار”. وكان العام التالي نقطة تحول كبيرة في مسار مينزل الفني والمهني عندما تم تكليفه بتنفيذ الرسومات الليثوجرافية لكتاب “حياة فريدريك الأكبر” بقلم الكاتب والمؤرخ “فرانز كوجلر”، الذي رشح مينزل لهذه المهمة، وكان أدولف وقتها دون السن القانوني الذي يسمح له بتوقيع عقد الكتاب، الأمر الذي اضطره للاستعانة بالوصي عليه لتوقيع العقد.
بعدها، انطلق أدولف يجمع ويرصد ويشاهد كل ما كان متاحًا تحت يديه وناظريه من رسومات أو لوحات أو بورتريهات صوَّرَت الملك الراحل، كي يحفظ سمات فريدريك وشخصيته عن ظهر قلب، لدرجة قيل معها إنه بات باستطاعته رسمه حتى في الظلام. وقام بنفس الشيء بالنسبة للرجال والنساء الهامين في بلاط الملك فريدريك الثاني أو الأكبر. ثم راح يدرس الملابس الرسمية، والأسلحة، والأزياء وتطريزها وزخرفتها في تلك الفترة بطريقة جد مضنية وتتوخى الوصول إلى قمة الإخلاص والإتقان وهما سمتين متفردتين ميزتا مينزل وأعماله على مدى حياته. وأخيرًا، قام برسم كافة المواقع التاريخية، والحجرات، والمنازل، والقصور، والأثاث وجميع الأدوات المستخدمة في تلك الفترة، والتي كانت لا تزال موجودة بها أو وضعت في المتاحف. وثمة المئات والمئات من هذه الاسكتشات التي خلفها مينزل، والتي تُظهر تقدمه التدريجي في اكتساب معرفة كاملة وشاملة بجميع التفاصيل الخاصة بفترة الملك فريدريك.
سار مينزل على نفس النهج في تصميم الرسومات للعديد من الكتب التي صدرت في تلك الفترة، ومنها “ذكريات من تاريخ براندبورج البروسية”، و”الحواس الخمس والصلاة”. وفي الفترة من عام 1839 وحتى عام 1842، أنتج 400 رسم. وفي فترة لاحقة، وتحديدًا من عام 1843 وحتى 1849، أبدع رسومات عناوين أخرى مهمة من بينها، “زي الجيش تحت قيادة فريدريك الكبير”، و”رسوم توضيحية لأعمال فريدريك الكبير”، وأخيرًا “جيش فريدريك الكبير”، وتعد رسومات هذا الكتاب من أهم الأعمال التي أنجزها مينزل في هذا المجال خلال مساره المهني، وبه ما لا يقل عن 436 رسم منفذ بطريقة الطباعة الحجرية، ولا يوجد منه سوى 30 نسخة باقية، منها واحدة حرص على الإمعان في زخرفتها على أكمل وجه واحتفظ بها لنفسه. وعبر هذه الأعمال رسخ مينزل سمعته الفنية كأحد أوائل فناني الرسومات التوضيحية في عصره في تلك الفترة من تاريخ ألمانيا.
مع انتهاء تلك المرحلة من مساره المهني، شرع مينزل في دورة جديدة أنتج فيها العديد من الأعمال الفنية واللوحات التي تناولت الحياة العامة وإنجازات فريدريك الكبير. وقد أثبتت تلك اللوحات على نحو دائم حرصه واعتناءه الشديدين بالملاحظة الدقيقة والإتقان الصادق للموضوعات سواء المتعلقة بحياة وإنجازات فريدريك الكبير أو غيرها من مشاهد الحياة اليومية، ونجد هذا مثلا في لوحاته: “التويلري”، و”حفلة عشاء”، و”الاعتراف”. ومن بين أهم هذه الأعمال، “ساحة السوق في فيرونا” و”شرفة حجرة” (1845) و”شقيقة الفنان وحجرة الجلوس” (1847).
ولم يكن هذا لأن تلك الأعمال متعلقة بأمر “فريدريك الأكبر” بل، كما قلنا من قبل، سمة ميزت كافة أعمال أدولف على مدى مساره المهني. ويذكر أنه في تلك الفترة تقريبًا، من فرط ما كان يبذله من حرص وإتقان وصدق في عمله، أعاد شراء إحدى لوحاته من الجهة التي كلفته بها ودفعت مقابل اقتنائها، لأنه رأى اللوحة ذات مرة بعد رسمها بثمانية عشر عامًا، وقد علقت على جدران إحدى قاعات مكتبة الدولة، في مكان غير مناسب بعيدًا عن الضوء وقد علاها الغبار. وكتب مينزل في رسالة له عن هذه اللوحة، وهي بعنوان “دخول الدوقة صوفيا وابنها ذي الثلاثة أعوام إلى ماربورج” ورسمت في الفترة من 1847 – 1848، “وهكذا فقد علقت منذ ذلك الحين على أحد جدارن حجراتي في نفس الضوء ذاته الذي رسمتها لترى فيه ذات يوم”.
لم يعكس هذا أي قدر من الجمود أو محدودية الأفق عند أدولف، بل على العكس، فهو من الفنانيين الجموحين الذين لا يراعون الكثير من الاعتبارات المتعارف عليها، فعندما استدعي لرسم لوحة “تتويج فيلهالم الأول في كونينجسبرج” أبدع تصويرًا غاية في الدقة للحفل دون أي اعتبار للتقاليد المتعارف عليها والراسخة في فن الرسم. كما أن تلك المشاهد الداخلية المُصوّرة للقصور وغيرها، والأخرى الخارجية بالشوارع وسواها من الأماكن الطبيعية، أوضحت الرؤية غير التقليدية لدى مينزل، وكذلك فرادة تقنياته الأسلوبية في التناول، حيث نجد موضوعات مصورة من زوايا مرتفعة أو منخفضة، وثمة الكثير من الجنوح أو الخروج الملحوظ عن التقاليد المعتادة في رسم الجموع والتأطير والاهتمام بعمق اللوحة، وكل هذا كان جديدًا في تلك الفترة، فضلا عن الانحرافات المبتكرة في الموضوعات الصناعية التي تناولها، كما في لوحته البديعة والمهيبة أيضًا “مصنع الدرفلة أو المسبك” والتي بدأ رسمها عام 1872 وانتهى منها عام 1875.
كما كان تصويره لفريدريك الكبير سينمائيًا تقريبًا، من حيث ريبورتاجيته واهتمامه بالتفاصيل، بطريقة شبه وثائقية. وكانت اللوحات شديدة الشبه في تأثيرها لتلك التي صورت البطولات النابليونية بواسطة الفنان “إرنست ميسونير” (1815 – 1891). ولذلك كانت فقد كانت موضوعاته ذات الطابع السياسي محل تقدير وإعجاب بالغين من جانب البلاط والجماهير، التي تفاعلات مع لوحاته التاريخية دون غيرها من الأعمال، كما كانت أعماله السياسية محل إعجاب أيضًا من جانب “أوتو فون بسمارك” و”وليام الأول”. وقد انتهي مينزل عام 1850 من رسم واحدة من أشهر لوحاته لأعظم ملوك فترة عصر التنوير، وحملت عنوان “فريدريك الكبير مع الأصدقاء على مائدة الطعام”. وبعد سنوات قليلة انضم مينزل إلى الأكاديمية الملكية للفنون عام 1853، وعين أستاذًا بها.
سافر مينزل إلى باريس لأول مرة عام 1855، لزيارة “المعرض العالمي”، وشاهد أعمال كوربيه وغيره من الفنانين الفرنسيين في تلك الفترة، وسرعان راح يتردد كثيرًا على العاصمة الفرنسية بعد ذلك. وثمة لوحات فنية عديدة له تعتبر بالفعل بمثابة إرهاصات حقيقية مبكرة للمدرسة الانطباعية في فرنسا من حيث صفاء المشاعر والأحاسيس المرهفة تجاه تأثيرات الضوء، واستخدامه المتحرر أو غير المتحفظ لضربات الفرشاة، ومن بين تلك اللوحات “النافذة الفرنسية” و”حديقة قصر الأمير ألبرت”، واللتين تعتبران الآن من وجهة نظر النقاد من بين أكثر اللوحات التي رسمت بحرية في منتصف القرن التاسع عشر.
كما أنجز أدولف خلال تلك الفترة العديد من الوحات المرتبطة بعلاقة جد وثيقة بالطبيعة الإنجليزية أو الفرنسية، وإن كانت هذه الإعمال لم تحظ بالقبول السياسي في وقتها بألمانيا كما ذكرنا، ولم تعرض قط في حياة مينزل. أما اللوحات الخاصة، كتلك اللوحة الرائعة التي تحمل عنوان “عرض في مسرح جيمناس بباريس”، التي تنافس في ألوانها النارية البديعة أفضل لوحات ديلاكروا مثلا، أو تلك المرسومة بالألوان المائية للجنود القتلى والمحتضرين عام 1866 في ساحات المعارك بالحرب النمساوية – البروسية، فقد كانت شديدة الإفراط في واقعيتها، وقد وصُفِت من قبل مؤرخة الفن “أورسولا ريمان” باعتبارها “فريدة من نوعها في الفن الألماني في تلك الفترة”.
كما أبدع مينزل لوحات تصوّر الهواء الطلق، وكذلك أعمال تنتمي إلى “الواقعية”، وأخرى إلى “الانطباعية”، ويبدو أنه كان يحاول أن يثبت، لنفسه على الأقل في المقام الأول، أنه كان منفتحًا ومتعددًا ومواكبًا لكل جديد أو قديم، وأنه ليس أقل شأنًا أو موهبة من الفنانين الذين أبدعوا أعمالا هامة أسست أو انتمت لتلك المدارس الفنية. وجدير بالذكر أن أعماله كانت محل تقدير كبير من جانب جيل الطليعة في فرنسا، وبصفة خاصة من جانب “ديجا” الذي فتن بأعماله، وعمل على نسخها، ونعته بأنه “أعظم الأساتذة الأحياء”.
وعلى الرغم من أسفاره المتعدد للعثور على مواد لفنه، وزيارة للكثير من المعارض والمتاحف خارج ألمانيا، والالتقاء بمعاصريه من الفنانين، إلا إن مينزل قضى معظم حياته في برلين. وكان على الرغم من صداقاته العديدة، واحتكاكه وقربه من البلاط الملكي الذي أنعم عليه عام 1867 بوسام “الصليب من رتبة فارس مع مرتبة الشرف”، ثم انضمامه إلى مجلس الشيوخ عام 1875، يؤثر العزلة عن الآخرين. والأرجح أن السبب في ذلك مرده لشعور مينزل بالغرابة سواء بين أقرانه أو على المستوى الاجتماعي، وذلك لعدة أسباب منها المتعلق بطبيعته المزاجية، وأخرى أهم ذات طبيعة جسدية بحتة، فقد كان مينزل مميزًا بضخامة رأسه، وجسده الطويل الذي بلغ نحو أربعة أقدام وست بوصات، وهو نفس الأمر الذي كان يعاني منه الفنان الأمريكي الكبير “إدوارد هوبر”، ودفعه أيضًا منذ الصغر إلى الانزواء والعزلة. لكن تلك العزلة لم تحل دون زواج إدوارد هوبر أو تكوينه لأية علاقة مع الجنس الآخر، بينما مينزل كان على العكس منه تمامًا، وقد اعترف في وصيته قائلا: “إنني لم أبق فقط طيلة حياتي دون زواج، بل هجرت أيضًا أية علاقة من نوع ما تربطني بالجنس الآخر… باختصار، ثمة افتقار لأية رابطة من أي نوع تربط بيني وبين العالم الخارجي”.
جرّب مينزل خلال مساره المهني كل تقنية ممكنة. وفوق كل ذلك فقد تناول الموضوعات المرسومة من كل زاوية تقريبًا. وكان يتناول الموضوع ذاته في وقت واحد وعينه على التناقضات بين الضوء والظلال، وأخرى ترى صفات الخط، وثالثة تهدف إلى رصد التأثير التصويري بصفة عامة. كما كان يكرر نفس الدراسة أو الاسكتش مرارًا وتكرارًا. والكثير من الناس الذين كانوا يعتقدون أنهم يمتلكون الدراسة الوحيدة لشخصية من الشخصيات في لوحة من لوحاته الشهيرة، اكتشفوا أنها لم تكن سوى واحدة فقط من بين مجموعات مشابهة تمامًا، وأمكنهم اكتشاف مدى المعاناة التي كان يتجشمها من أجل تنفيذ لوحة جديدة، لدرجة أنه كانت هناك وجهات نظر أو رؤية خلفية وجانبية للشخصيات التي في اللوحة، كانت ترسم في نهاية المطاف من الأمام، مثلا. كان يفعل هذا، بالطبع، لفهم واستيعاب للشخصيات والإمساك بأفضل أوضاع لتصويرها، رغم من أن بعض الدراسات لم يستفد منها، ولم توضع موضع التنفيذ في اللوحات النهائية.
بصفة عامة، سعى مينزل وكافح، على الأقل في أيامه الأولى، لدراسة موضوعاته بضمير وإخلاص بالغين، بحيث لا يترك مجالا لأية مفاجآت تكون في انتظاره عند التنفيذ النهائي. وربما أفضل مثال على هذا الكلام يتضح لنا عبر نظرة مُفصلة ثاقبة لبعض المعلومات المتعلقة بالرسومات التحضيرية الخاصة بلوحة “تتويج فيلهالم الأول في كونينجسبرج”، فالمتحف الوطني ببرلين يمتلك بمفرده 170 دراسة تحضيرية لها. مع الأخذ في الاعتبار أن اللوحة تضم أو تشتمل على 132 بوتريهًا للشخصيات المتواجدة بها، وهذا يبين لنا حجم أو مقدار العناء الذي لاقاه كي يجعل كل تلك الشخصيات تجلس أمامه ليرسمها أولا على هيئة بورتريهات فردية قبل أن يضع ملامحها الصغيرة، وأحيانًا لمحات من وجوهها أو مجرد رؤوس شديدة الصغر والبُعد في أرجاء اللوحة. والجدير بالذكر أن تلك اللوحة ليست من أشهر لوحاته.
المثير للدهشة أن الرؤية الثاقبة لدى أدولف أو بصيرته وكذلك مهارته اليدوية أو حرفيته كانت تزداد جلاء وقوة وإتقانًا وتمكنًا كلما تقدم في السن. وهذا يوضح لنا السبب في أن تناوله أو تعامله، خلافًا لمعظم الفنانين الكبار، لم يزدد اتساعًا وحرية مع تقدمه في السن، بل، على العكس من ذلك، ذهب أكثر نحو تناول أكثر للتفاصيل الدقيقة، وكان ينتهي من كل شيء ينفذه باهتمام بالغ واعتناء كبير حتى أواخر أيامه. وقد كتب عنه وعن أسلوبه الناقد والمؤرخ الفني “لويس إدمون ديورانت”: “باختصار، الرجل بكل معنى الكلمة، مستقل ومتحرر، ومُخلص، وعميق الرؤية، وحاسم الملاحظة لدرجة يمكن أن تكون قاسية وصارمة في بعض الأحيان… يسكنه الصدق لدرجة المرض… رجل اعتنى حتى برسم خطوط الأزرار لزي من عصر فريدريك… عندما يكون الأمر متعلقًا بتصوير حذاء حديث، أو صدرية، أو قصة شعر، لا يؤديها على نحو تقريبي، بل كلي تام، في شكلها المطلق ومن دون تصغير الأدوات أو الوسائل. يضع هناك كل شيء يذكر أو تحتاجه الشخصية موضوع الرسم. وهو في رسمه يتسم بالحرية والسرعة والانطلاق، ليس ثمة رسام حاسم مثله”.
كان أدولف الذي حظي باهتمام فني ونقدي كبير في القرن الماضي نظرًا لحساسيته البالغة في التعامل مع الضوء أو معالجته والتكوينات الأصلية للوحاته الصغيرة ذات النوعية الخاصة، يرسم باستمرار طوال الوقت، وعندما لم يكن يرسم، كان على الأقل، بمعنى الكلمة، على استعداد دائم للرسم، على استعداد دائم للعمل، وهذا يفسر لنا هذا الكم الكبير والمتنوع من الأعمال الطباعية المتباينة والرسومات واللوحات التي أنجزها. ومرد هذا التنوع والثراء أيضًا إلى أمر هام معروف عنه، وهو أنه ولد أعسر اليد، وعندما تجاوز فترة الصبا، ظل يدرب نفسه على استخدام يده اليمنى أيضًا، وقد أفلح في هذا لأقصى حد، لدرجة وصلت معه يمناه إلى نفس درجة التمكن والإتقان الذي ليسراه. ومنذ ذلك الوقت راح يستخدم يده اليسرى في رسم الاسكتشات ذات الطبيعة السريعة، ويده اليمنى في الرسومات واللوحات التي تتطلب قدرًا كبيرًا من الدقة.
حصل مينزل في ألمانيا على العديد من التكريمات والأوسمة، عام 1898 أصبح أول رسّام مُعترف به يحصل على “وسام الفارس الأسود”، وبمقتضى تسلمه لهذا الوسام، أصبح ينتمي رسميًا لطبقة النبلاء. كما اختير عضوًا بأكاديمية الفنون الجميلة بباريس والأكاديمية الملكية بلندن. وقد أقيم أول عرض شامل لأعماله عام 1884، تلاه العديد من المعارض بألمانيا وخارجها. وحصل في عيد ميلاده السبعين على شهادة الدكتوراة الفخرية من جامعة برلين. وأصبح مواطنًا فخريًا لمسقط رأسه، مدينة بريسلاو، وعضوًا فخريًا في أكاديمية سان بطرسبرج. ولاحقًا مواطنًا شرفيًا لمدينة برلين، ومنح لقب “صاحب الفخامة” ومستشار الملك، وعضوًا بالجمعية الملكية لرسامي الألوان المائية.
وقد توفي “أدولف فريدريش إردمان فون مينزل” في برلين عام 1905، وهو في التسعين من عمره، وأشرف القيصر بنفسه على المراسم الخاصة بترتيبات جنازته، وسار وراء نعشه تكريمًا له. وفي وقت لاحق على وفاته عُثر في مرسمه الخاص على العديد من الحافظات التي بلغت 29 حافظة، تحتوي على أكثر من أربعة آلاف من الرسومات، تغطي جميع فترات حياته المهنية. والجدير بالذكر أن معظم أعمال مينزل معروضة بأكبر بالعاصمة برلين، بالمتاحف الموجودة في “جزيرة المتاحف”.
مصادر:
– كتاب “أدولف مينزل: في البحث عن الحقيقة” تأليف: فيرنر بوش، الصادر ببرلين عام 2014.
– الكتب الخاص بالمعرض الاستعادي الذي أقيم لبض أعماله بالعاصمة برلين عام 2011، بالمتحف الوطني بجزيرة المتاحف.