محمد هاشم عبد السلام

 

الإثنين 2 مارس 2015

 

بعد ترشحه للعديد من الجوائز العالمية المرموقة بل وفوزه أيضاً بالعديد منها منذ نهاية العام الماضي ومطلع هذا العام، وذلك بعد أول عرض له في مهرجان فينسيا السينمائي العام الماضي، تُوِّجَ فيلم “بيردمان” أو “الفضيلة غير المتوقعة للجهل” بمجموعة من الجوائز في واحدة من أكبر التقييمات العالمية، وذلك في حفل توزيع جوائز الأوسكار السابعة والثمانين 2015، لأفلام العام الماضي 2014، والتي أعلنت منذ أيام قليلة.

وفاز فيلم بيردمان، الأمريكي الإنتاج والمكسيكي الإخراج، للمبدع المتميز أليخاندرو جونزاليس إيناريتو، في الحادية والخمسين من عمره، وفي رصيده السينمائي مجموعة من الأفلام الشديدة التألق مثل “أموروس بيروس”، و”21 جراماً”، و”بابل”، و”بيوتيفيل”، بجائزة أوسكار أحسن فيلم، وأحسن إخراج، وأحسن تصوير للمصور الكبير إيمانويل لوبيسكي، وأحسن سيناريو أصلي، وقد اشترك إيناريتو في كتابة سيناريو الفيلم مع ثلاثة كتاب آخرين للسيناريو هم: نيكولاس جياكوبوني، وألكسندر دينيلاريس، وأرماندو بو.

 

أزمة انعدام الأمان

يتناول أليخاندرو في فيلمه، الذي امتد زمنه لقرابة الساعتين، من بين أمور كثيرة تتمحور بالأساس حول الفنان وحياته ومشاكله التي يعانيها عبر مساره المهني، أزمة انعدام الأمان التي يعاني منها العاملون في مجال الفن بصفة خاصة، والأمان هنا، قد لا يتعلق بالضرورة بضمان معيشة كريمة في المستقبل أو رصيد يكفي ويفيض في البنوك، بقدر ما هو متعلق أكثر بأمور أخرى أكثر جوهرية بالنسبة للفنان، منها على سبيل المثال، الحفاظ على تألقه الذهني والحركي والأدائي لأطول فترة ممكنة، والسعي للنضج والتطور من مرحلة لأخرى.

وفي الوقت نفسه سعي الفنان الدائم لتقديم ما يرضيه هو بالأساس، ويكون متلائماً أيضاً مع ما يرغب فيه السوق وجهات التمويل، ويقبل عليه الجمهور كذلك. وفي غمرة كل هذا، العمل على تحقيق أقل قدر من المواءمات بين هذا وذلك، وعدم الرضوخ في النهاية، وتقديم الكثير من التنازلات أو تنازلات سريعة، لا سيما عندما يكون الفنان قد وصل إلى مرحلة ما في منتصف المشوار أو اقترب من مرحلة اختتام حياته المهنية. ومن ثم الوصول في النهاية لتحقيق قدر من التوازن بين ما يرغبه الفنان وما هو متاح أو مسموح به.

وفيلم إيناريتو يخوض بنا في تلك الأزمة المتشعبة الجذور، لكن هذه المرة بدلاً من أن يسقطها على فن السينما، آثر أن يأخذها إلى فن المسرح، وليس أي مسرح، إنه برودواي باسمه وتاريخه وسطوته وقوانينه الخاصة. وبطبيعة الحال، تنطبق ربما جميع أحداث الفيلم على فنون أخرى غير السينما والمسرح، ما دام هناك الفنان الذي يعاني دائماً ليخرج ما يريده. وقد كان اختيار إيناريتو صائباً فيما يتعلق بالمسرح على وجه التحديد، المشهور بكواليسه المخفية عن الجمهور، ودهاليزه وطرقاته وأفراده الواقفين خلف الستار، الذين هم أكثر ممن يصعدون إلى خشبته كل يوم، والذين يلتقون يومياً في نفس المكان ونفس ذات الأجواء طوال مدة عرض العمل، وربما لا يفارقون بعضهم إلا لساعات جد قليلة.

 

الخبايا النفسية لدى الممثلين

ومن هنا أيضاً أتاح هذا الاختيار لمخرجه، أن يعرض لنا أحوال هؤلاء الفنانين على الخشبة أو بالحياة الحقيقية مع بعضهم البعض أو حياتهم الخاصة عندما ينفردون بأنفسهم أو بمعارفهم. وكذلك أطلعنا على خباياهم ودواخلهم النفسية التي تشبه إلى حد كبير، تلك التي للطرقات والممرات والسلالم وحجرات الممثلين، والتي تقع كلها خلف خشبة المسرح الرئيسية، حيث ظلت الكاميرا تطوف بنا هنا وهناك على امتداد أكثر من نصف الفيلم، ناقلة لنا كل تلك الأجواء الغارقة معظمها في ظلام الإضاءة الكهربائية المصطنعة.

وقد اختار إيناريتو أن ينصب اهتمامه على ممثل واحد، على وجه التحديد، ليجعلنا نتابع من خلاله تفاصيل تلك الحالة التي يمر بها الكثير من الفنانين الحقيقيين في مراحل مختلفة من مسيراتهم الفنية. ومشكلة “ريجان تومسون” (مايكل كيتون) معقدة ومركبة بعض الشيء، لأنه ليس فناناً هاوياً أو ناشئاً ولا هو في نهاية عمره ومسيرته، ولا هو قادم من المجهول. المشكلة أنه فنان وممثل موهوب ومتميز، ويحمل على عاتقه شهرة ونجاحاً جماهيرياً، وسلسلة من الأفلام التي حققت إيرادات ونجاحات سابقة. لكنه عند تلك المرحلة من حياته، وجد نفسه غير قادر على إكمال مسيرة أفلام بيردمان السطحية، ولا لعب نفس الدور الذي يحصره في النهاية في ذات الأداء النمطي لتلك الشخصية، ولا يحقق له أي قدر من الإشباع الفني والتحقق الذاتي.

 

قصة الفيلم

يتمرد ريجان تومسون، ومن هنا تنبع مأساته، وصراعه مع نفسه أو مع صوت الفنان بداخله، الذي يظهره خوزيه إيناريتو متجسداً في الفيلم على هيئة شخصية بيردمان، حيث يأخذ في التحدث إليه وفي أحيان كثيرة ينهره أو يستفزه أو يستحثه أو يسخر منه. وتمرده هذا دفع ثمنه غالياً من نسيان وتجاهل وتراجع وتفكك أسري واجتماعي، وبالطبع ابتعاد الإعلام والشهرة عنه. وريجان ليس مهموماً بكل هذا، إنه يبحث أكثر عن الإشباع الفني والتحقق الذاتي، ومن أجل هذا يغامر بكل ما لديه من مال في عالم المسرح وليس السينما من أجل تقديم عمل، يرى الجميع أنه لا يصلح للجمهور العادي، على الأقل في برودواي. وهي قصة قصيرة للأديب الأمريكي الشهير والمتميز رايموند كارفر بعنوان “ما نتحدث عنه عندما نتكلم عن الحب”.

وفي خضم كل هذا الذي نعايشه فيما يتعلق بأزمة الممثل ريجان تومسون، ينسج إيناريتو العديد من الخيوط الأخرى كي يثير عبرها العديد من التساؤلات، ليس فقط حول أزمة الفنان، بل عن الحب نفسه، الذي تدور حوله أحداث المسرحية المقدمة على الخشبة، ومغزى عملية الإبداع الفني ومدى صدقها ومصداقيتها، والعلاقات بين البشر على المستوى الأسري، الأب والابنة “سامنتا” (إيما ستون)، والأجيال الفنية والصراع فيما بينها، وصولا إلى العلاقة الشائكة والملتبسة دائماً بين الفنان والناقد. وكل تلك الخيوط والتساؤلات المطروحة، يلاحقنا بها إيناريتو بنفس سرعة وخفة ورشاقة كاميرا مصوره الرائع المكسيكي إيمانويل لوبيسكي، صاحب الأوسكار الثاني له على التوالي، وذلك بعد فوزه العام الماضي عن فيلم “جاذبية”.

 

مزج بين الماضي والحاضر والحلم والواقع

ليس ثمة شك في أن مجهود إيناريتو ومصوره وبالطبع مدير الإضاءة ومصمم المناظر بارز وملحوظ جداً في معظم مشاهد الفيلم، والتي خرجت على نحو قدر كبير من البراعة، يدل على مدى الدراسة والتخطيط والتدريب المسبق قبل التنفيذ. وليس من حقنا بالطبع أن نتساءل عن خيار إيناريتو الجمالي الذي جعله يلجأ لتصوير فيلمه بتلك الطريقة على هيئة لقطة واحدة، ليست متصلة بطبيعة الحال، يفصل بينها القليل جداً من الانتقالات لا سيما أثناء بزوغ النهار أو غيرها من النقلات الناعمة غير المحسوسة. لكن علينا أن نشيد بأنه قد أجاد استخدام وتوظيف تلك التقنية، وكذلك لجوئه القليل للاستعانة بالكمبيوتر لتنفيذ بعض اللقطات، وكيف أنه أفلح في أن يمزج عن طريقها على نحو شديد التميز بين الماضي والحاضر والحلم والواقع. واستطاع من خلالها، في النهاية، أن يبلغ لنا بالفعل الرسالة التي أرادها أن تصلنا عبر فيلمه.

وقد جاء ترشيحات الأوسكار لهذا العام على قدر كبير من الصواب، حيث منحت جائزة أحسن فيلم وإخراج لبيردمان مفضلة إياه على الأفلام السبعة الأخرى التي تنافست معه. ونفس الأمر ينطبق على تجنب الترشيحات منح الفيلم جائزة أحسن ممثل أو غيرها من جوائز التمثيل.