محمد هاشم عبد السلام

 

في رصيد نيكولاس كيدج السينمائي، الذي بلغ في هذه الأيام الخمسين من عمره، أكثر من سبعة وسبعين فيلمًا سينمائيًا متباينة ومتعددة الأنواع، من الكوميدي إلى التراجيدي من الإثارة إلى الرعب من الرومانسية إلى الحركة، وغيرها الكثير والكثير من الأعمال المتفاوتة المستوى بين الرديء والمتوسط والجيد.

نستعرض هنا بعض أهم الأفلام الجيدة فعلا، والتي تصل لدرجة التميّز، التي قدمها نيكولاس كيدج طوال مسيرته السينمائية الممتدة حتى يومنا هذا، وذلك وفقًا لتواريخ صناعتها من الأقدم فالأحدث.

 

بيردي (1984)

يعتبر هذا الفيلم من أجمل الأفلام الأمريكية التي صُنعت عن الحرب، دون الخوض في تفاصيلها، فهو يكتفي برصد التبعات فقط. تدور القصة حول الصديقين الحميمين “بيردي” و”آل كولومباتو”، اللذين نشأ معًا وتجندا في نفس التوقيت. يصاب “آل” (كيدج) على نحو بالغ ويعاني بيردي، المهووس بالطيور منذ صغره لدرجة التوحد معها، من اضطراب عصبي شديد. وفي المستشفى يقتنع بيردي بأنه قد أصبح طائرًا. يترجاه صديقه “آل” أن يعود إلى رشده ويتحدث معه ثانية، لأنه من دون التحدث سوف يحكم الأطباء بإيداعه إحدى المصحات النفسية مدى الحياة.

في هذا الفيلم البالغ التأثير، والراقي في تناوله للحرب وتبعاتها، وللدور الذي يلعبه الصديق المخلص في حياة صديقه، بذل كيدج أقصى ما لديه كممثل مبتدئ. ويعتبر هذا الفيلم من أول الأفلام التي برز فيها نجم كيدج التمثيلي وتوقع الجميع له وقتها النجاح البالغ في مستقبله المهني، بل وحتى طالب البعض بمنح الأوسكار لهذا الشاب اليافع، الذي كان في هذا الفيلم لا يزال في التاسعة عشر من عمره فحسب. وفي الحقيقة كان كيدج يستحقها عن جدارة.

 

تربية أريزونا (1987)

نوعية أخرى من الأفلام، كوميديا سوداء من إخراج الأخوين كوين، خاضها كيدج بأداء تهريجي طريف، برع نيكولاس من خلاله في انتزاع الضحكات طوال الفيلم عبر تصرفاته المثيرة السخرية. يلعب كيدج دور “إتش آي” المسجون السابق وزجته “إد” الشرطية السابقة التي تتوق بشدة للإنجاب، وكيف أن جميع محاولاتهما للإنجاب قد فشلت. يتصرف “إتش آي” بطريقته الخاصة. فيقوم بسرقة طفل أحد رجال الأعمال الأثرياء.

يرصد الفيلم المتاعب التي يمر بها الزوجان من أجل تربية الطفل الصغير والتعامل معه على النحو الأمثل، وكذلك فضول الأصدقاء والأهل والجيران، ولكن عندما تبدأ الأمور في الاعتدال، يستأجر رجل الأعمال أحد المجرمين العتاة من أجل قتل “إتش آي” واستعادة الطفل.

 

قلب متوحش (1990)

يعتبر فيلم “قلب متوحش” من أقسى قصص الحب التي قدمت في السينما الأمريكية خلال العقود القليلة الماضية. وقد تطلبت طبيعة الدور المركبة والمليئة بالتقلبات والصعود والهبوط من نيكولاس كيدج أداءً نفسيًا غاية في القوة والإبداع، وقد أجاد كيدج بالفعل في أداء تلك الشخصية وأثبت لعشاق السينما الخالصة أنه يستحق بالفعل أن يضطلع بدور في فيلم من أفلام المخرج العظيم ديفيد لينش.

يدور الفيلم حول شخصية “سيلور ريبلي” العاشق المحب لمحبوبته “لولا”، والتي لفرط ما تعانيه من معاملة مع زوجة أبيها، يقرر سيلور أخذها والفرار بها بعيدًا. وبالفعل يفر العاشقان، لكن زوجة الأب المختلة نفسيًا، والتي خرجت مؤخرًا من السجن، يطير صوابها فتستأجر أحد القتلة المحترفين لقتل سيلور واستعادة لولا مرة أخرى.

 

مغادرة لاس فيجاس (1995)

يقوم كيدج في هذا الفيلم بدور “بن ساندرسون” كاتب السيناريو الهوليوودي، الذي راح يفرط في الشراب، لدرجة الوصول للإدمان. الأمر الذي يفقده صوابه واتزانه النفسي، ويكون من شأنه القضاء الوشيك على حياته الخاصة والمهنية على حد سواء. وفي تصرف طائش أخير ينفق “بن” كل ما معه من أموال على غرفة بأحد الفنادق مع الكثير من الفودكا وصديقته “سيرا” العاهرة. وسيرا هنا بمثابة الأنا الآخر لساندرسون، فهي مثله ضائعة غير عابئة بحياتها ولا بما تفعله، ولا تدرك أي سبب لما تُقدم عليه، وترغب مثله في إيجاد مخرج لنفسها من تلك الحياة غير المقبولة من جانبهما قبل الانهيار التام والنهائي.

وقد فاز  نيكولاس عن هذا الدور بجائز الأوسكار لأحسن ممثل، بعدما استطاع ببراعة بالغة أن يجسد دور المدمن الكحولي في أغلب حالاته وأطواره، وكان مقنعًا بالفعل في جميع مشاهدته، وبلغ أداؤه درجة من الرقي غير مسبوقة في مسيرته. وقد اعترف كيدج بأنه كان يتناول الكثير من الكحول بين المشاهد أثناء التصوير من أجل الدخول في حالة من انعدام الوعي بعض الشيء وتقمص الشخصية المدمنة كحوليًا على نحو بالغ الدقة والصدق كي تصل إلى الجمهور.

 

الصخرة (1996)

فيلم “الصخرة” من بين أقوى أفلام الحركة الأمريكية الراقية التي نفذت على الإطلاق، كما يتميز بجدة الفكرة ورقي المستوى الإخراجي والأدائي من جانب الممثلين جميعًا وعلى رأسهم بالطبع شون كونري ونيكولاس كيدج في دور العالم الكيميائي “ستانلي جودسبيد” المُرسل من جانب الحكومة كي يعمل بجانب العميل السابق، “كونري”، إيقاف مجموعة من الجنود ذوي التدريب العالي الذين قاموا باحتجاز بعض السائحين كرهائن في أثناء الرحلة اليومية إلى سجن الكاتراز. ومنعهم أيضًا من إطلاق الفيروس القاتل الموجود بحوذتهم. وكان أداء كيدج في هذا الفيلم شديد الجديدة، وبالرغم من أنه لم يكن في دور البطولة بالفيلم، إلا إن شخصيته المحورية بالفيلم كانت شديدة التأثير بالفعل، وتعتبر من أدواره التي لا تنسى.

 

طائرة المساجين (1997)

في هذا الفيلم الشديد الجاذبية، نجد أداء جميع الشخصيات على قدر كبير من الاختلاف والتنوع، وبالطبع هناك جرأة من جانب مجموعة من الممثلين الكبار في الإقدام على أداء أدوار مغايرة لتلك التي اعتادوا عليها، بل وعلى الاشتراك معًا في فيلم واحد يجمعهم. والأمر نفسه يسري بالطبع على كيدج أحد أهم أبطال الفيلم، في دور يجمع بين الإنسانية والعنف البدني والقدرة على ضبط النفس والتعلم من أخطاء الماضي.

يقوم كيدج بشخصية “كاميرون بو” الجندي السابق الذي اضطرته الظروف للدخول إلى السجن بعدما دافع عن زوجته فقتل خطأ أحد المتسكعين. وبعد أعوام على سجنه واقتراب خروجه وعودته لزوجته وابنته التي ولم يرها، يتم ترحيله على متن طائرة تحمل عتاة المجرمين من مختلف أنحاء الولايات المتحدة. ومع اكتمال شمل تلك المجموعة على متن الطائرة يبدأ الفيلم بالفعل في التطور وتأخذ الأحداث في التصاعد ثم الاشتعال، ليتصدى لها الجندي السابق الذي تلجأ إليه السلطات لإنقاذها من كارثة فرار من هم على متن الطائرة.

 

المواجهة (1997)

مثّل هذا الفيلم تحديًا كبيرًا لأداء كيدج، فقد كان من ناحية تحت إدارة مخرج متميز مثل جون وو، وفي نفس الوقت يقوم بدور لم يعهده عليه جمهوره من قبل، دور الإرهابي الشرير القاسي، وبالتالي فقد كان عليه التفوق على نفسه كي يبدع بالفعل ويقنع الجمهور بالدور، وفي الآن نفسه، يقف على قدم المساواة مع البطل الضد له في الفيلم، والذي لا يقل عنه جماهيرية، وهو “جون ترافولتا”.

بالرغم من أن فيلم المواجهة أو فيس أوف مبني على فكرة خيالية ممكن اعتبارها خيال علمي، لكن تنفيذها جاء على نحو شديد الواقعية. ويدور الفيلم حول شخصية “كاستور تروي” الإرهابي و”شون آرشر” الذي يحاول الإيقاع به. وبالفعل ينجح شون آرشر (ترافولتا) في الإيقاع بكاستور تروي (كيدج). ولكي يتسلل إلى عصابته ويخترقها يستبدل آرشر وجهه بوجه كاستور تروي ويتقمص حركاته ونطقه ومشيته وطريقة تفكيره.

 

إخراج الموتى (1999)

بالرغم من أن الفيلم غير مصنف من بين أقوي أعمال المخرج مارتن سكورسيزي، وأجمل أداء تمثيلي من جانب كيدج، إلا إن القضية الإنسانية المهمة التي يتناولها الفيلم جلعته من بين أهم أفلام كيدج خلال مسيرته المهنية حتى اليوم، وحتى من أهم الأفلام الأمريكية التي تناولت مثل هذه المهن الخطيرة والحيوية في حياة المجتمع الأمريكي بصفة خاصة والعالم بصفة عامة.

يتناول الفيلم قصة المُسعف وقائد سيارة الإسعاف “فرانك بيرس”، والذي يعاني من فرط العمل ليل نهار، وبالرغم من كل ما يبذله، إلا إن أشباح الأشخاص الذين من المحتمل أنه لم يستطع إسعافهم وإنقاذ أراوحهم تطارده وتتراءى له أمام عينيه، وتنغص عليه عيشه وتقلق منامه. في حين أن رفيقه في نفس المهنة على النقيض منه دائمًا، لا يأخذ المهنة على محمل الجد ويريد دائمًا أن يسترخي ويتكاسل عن العمل. وقد أجاد كيدج تقمص الشخصية في هذا الفيلم ونقل لنا بالفعل ما تعانيه من عذابات، بالرغم من تفانيها في عملها على نحو شديد الصدق.

 

الاقتباس (2002)

يعتبر فيلم “الاقتباس” أحد أكثر الأفلام السينمائية غرابة في السينما الأمريكية وفي مسيرة كيدج المهنية. ويقوم فيه كيدج، بدور كاتب سيناريو يدعى “تشارلي كاوفمان” يحاول جاهدًا بشق الأنفس أن يقتبس للسينما كتاب بعنوان “لص الأوركيد” من تأليف شخصية تدعى سوزان (ميرل ستريب). وتتمثل المشكلة في أن تشارلي كان قد اشترى مسبقًا حقوق النشر الخاصة بالكتاب حتى قبل أن تفرغ المؤلفة منه، على أمل أنه سيسهل عليه اقتباسه وأن مادته ستكون جد كافية لتملأ سيناريو سينمائي مُعتبر، يستطيع أنه ينهيه قبل الموعد المتفق عليه، لكن اتضح له أن الأمر غير ذلك بالمرة.

في تلك الأثناء يظهر “دونالد”، توأم تشارلي، ويحاول أن يحل المشكلة لشقيقه عن طريق كتابته هو للسيناريو، الأمر الذي يجعل تشارلي يشك في نفسه بشكل عام وفي قدراته ككاتب ومؤلف بشكل خاص. وقد تألق كيدج على نحو لافت فعلا في الاضطلاع بالدورين معًا في هذا الفيلم، وبخاصة شخصية دونالد التي هي على العكس تمامًا من شخصية تشارلي على جميع المستويات.

 

إله الحرب (2005)

في هذا الفيلم السياسي الإنساني الرائع، “إله الحرب”، يُجسد كيدج قصة صعود وانهيار “يوري أورلوف”، تاجر السلاح الذي بدأ حياته قبل عشر سنوات ببيع المسدسات والأسلحة الخفيفة لجيرانه بالحي، ووصوله للقمة مع ممارسته لتجارة السلاح على أوسع نطاق مع تجار الحروب في أفريقيا. يتشكك “يوري” ويتساءل في مدى أخلاقية ما يفعله. وكيف أنه أخذ يثري على حساب بؤس الآخرين، وأن كل ما جناه كان نتاج دم سُفح بسببه.

يزداد الأمر صعوبة على يوري وهو يرى شقيقه الأصغر “فيتالي”، يسير على نفس طريقه ويسلك نفس مسلكه متطلعًا للمجد والقوة والثراء. في حين يتعرض الشقيقان للكثير من المضايقات طوال الفيلم سواء من رجال الشرطة المترصدين أو غيرهم من التجار والزبائن المتعاملين معهم. وقد أدى كيدج دوره ببراعة وإقناع في هذا الفيلم لدرجة يجعلك معها تكرهه وتتمنى الإيقاع به كسافك دماء، وأن يلقى مصيره رغم تأنيب الضمير. والفيلم برمته نجح في إظهار العوالم السفلية الواقعية لتلك التجارة غير المشروعة.