محمد هاشم عبد السلام
رغم أهمية الأفلام القصيرة، والاهتمام الملحوظ والمتزايد بأنواعها المختلفة في العقود القليلة الماضية، وتعدّد المهرجانات الخاصة بها، يظلّ الاهتمام غير كبير، تحديداً في المهرجانات السينمائية الكبرى، المكتظّة ببرامج ثانوية كثيرة، تحول دون التفكير في تخصيص وقت لمتابعتها، والكتابة عنها. مع أنّ برمجتها الهامشية ضرورية لاستكمال المشهد السينمائي العام، وإبراز مدى تنوّعه. لكن، إنْ لم توجد هذه الأفلام، فلن يلحظ غيابها أحد. هذا لا يتعارض مع وجود مهتمّين كثيرين يُتابعونها بشغف. مع هذا، يظلّ الاهتمام والتناول النقدي للأفلام القصيرة أهمّ وأكبر وأشمل في المهرجانات الخاصة بها.
السابق يُذكر لإثارة نقاش عن تعامل المهرجانات الدولية مع الأفلام القصيرة، ولا سيما أنّ وجودها بكثرة في مهرجان كبير، كـ”برليناله” (مهرجان برلين السينمائي)، يستدعي أسئلة كثيرة، منها: لماذا بعثرة هذا الكَمّ من تلك الأفلام في أكثر من مسابقة وبرنامج، مع أنّ هناك قسماً ومسابقة ولجنة تحكيم لـ”أفلام البرليناله القصيرة“؟ إلى هذا القسم، تعرض أفلام قصيرة في برامج “امتداد المنتدى” و”المنتدى الخاص” و”أجيال” و”أجيال 14 بلس”. إحصائياً، هذا يُشكِّل نحو نصف برامج المهرجان، ما يثير أسئلة عن آليات البرمجة، وأهدافها وفلسفتها.
في برمجةٍ كهذه، يستحيل مشاهدة الأفلام كلّها، بل حتى نصفها. بمُشاهَدة بعضها، تُرصد سمات مشتركة بينها: في الموضوع، تجنّبت غالبيتها التأمّل الفلسفي والوجودي، وابتعدت عن طرح أفكار مركّبة ومعقّدة قدر الإمكان. حضور موضوعات يومية وآنية وفردية، ذات مسحة إنسانية، أو طابع عالمي. ورغم تشابك اليومي والفردي والخطاب الإنساني، لكن الموضوعات متنوعة وثرية ومشوّقة للغاية، وأحياناً يكون فيها بعض طرافة أو مأساوية أو أمل أو صدمة. الأهم، أنّ هناك إدراكاً لطبيعة النوع السينمائي، وآليات استغلاله فنياً وجمالياً بشكلٍ أمثل.
المثير للغرابة منح الفيلم الكندي “لويد ونغ، عمل غير مكتمل”، لليزلي لوكسي تشان، جائزة “الدب الذهبي لأفضل فيلم قصير”: وثائقي تقليدي، بنيةً وموضوعاً ومعالجة، واعتمادٌ كامل على مقاطع فيديو ولقطات مسجّلة قديمة، ولا يتوفّر على أي قدر من التشويق والإثارة، باستثناء مقاطع كانت مفقودة، لكنهّا بحدّ ذاتها ليست مهمّة، إلا بالنسبة إلى صانعها الراحل، ودائرته المحيطة به. مُنِح الجائزة ربما لتعاطفٍ بحت مع لويد ونغ، الذي ترصد المقاطع الفيلمية معاناته وأيامه الأخيرة مع مرض الإيدز، النادر حينها والجديد، والمُشين التحدّث عنه في تسعينيات القرن الـ20، ناهيك عن جرأة تسجيل مقاطع عن احتضار صاحبها، الصيني الأصل.
هناك السنغالي “لا توقظوا الطفلة النائمة”، لكيفين أوبرت: أحداث عادية بالأسود والأبيض، عن مراهقة (13 عاماً) من داكار تعشق صنع الأفلام، لكنّ عائلتها ترغب في تزويجها على الرغم منها. ذات يوم، لا تستيقظ من نومها، مع المحاولات كلّها. رغم بساطة القصة والمعالجة، منحته لجنة التحكيم الدولية جائزة خاصة لأفضل فيلم قصير في قسم “أجيال 14 بلس”. في القسم نفسه، منحت لجنة الأطفال جائزة الدب البلوري، عن جدارة واستحقاق، للفيلم الإندونيسي اللافت والذكي “نادي سينما المتمردين الصغار”، لخوذي ريزال: مراهق (14 عاماً) يعشق السينما، ويحاول، عبر كاميرا يدوية يمتلكها شقيقه الأكبر، ومتعاوناً مع ثلاثة أصدقاء، محاكاة مشهد زومبي وتنفيذه، لإخراج أول فيلم رعب.
من مفارقات السينما العربية القصيرة، توفّرها على ثراء أفكار ورؤى وكتابة احترافية مُكثّفة، وعمق طرح، وفنية معالجة. كما أنّ السرد بالصورة والصوت من أبرز الفنيات اللافتة، كما في “آخر يوم” للمصري محمود إبراهيم، و”تحتها تجري الأنهار” للعراقي علي يحيى. أحداث الأول تحصل عام 2023: انتقال الأخوين زياد ومودي من منزلهما المُقرّر هدمه، وقيامهما بفكّ الأثاث ونقله، بينما يُسمَع عن عمليات هدم أخرى عدّة جارية. الداخل المصري، الشخصي أو الذاتي، يُحيله إبراهيم على الفلسطيني، فيُسمع ويُرى في السياق نفسه محاولات إخلاء وهدم المنازل في حي الشيخ جرّاح بالقدس الشرقية. الفيلم الصامت “تحتها تجري الأنهار” حصل على تنويه خاص للجنة التحكيم: تكشف الحبكة بالصورة مجتمعاً ريفياً بسيطاً وبدائياً وبكراً في أهوار العراق، حيث يعيش المراهق إبراهيم وأسرته الصغيرة بمنتهى الأريحية، مُمارسين طقوسهم الريفية اليومية المعتادة، قبل حدوث طارئ عارض، يقلب كيان هذا المجتمع الهادئ، وينذر بتحوّلات مشؤومة.
من أفلام التحريك، المتميّزة بتقديم جديد وجذّاب بصرياً، بصورة مبتكرة ومشوّقة، من دون الإخلال بالقصة والمضمون، برز الهولندي “في القاع” لفيرا فون ولفارين: خنفسة تفقد ظهرها الأحمر الجميل، ما يُدخلها في اكتئاب عميق، إلى أنْ تدرك أنّ قيمتها تتجاوز ألوانها. ما يميز الفيلم استخدامه الورق المقوّى المرسوم والملوّن، لتجسيد الشخصيات. ثم إدخال التحريك على هذه الأشكال المقصوصة، فتبدو شديدة الجاذبية والتفرّد.
أما الفرنسي ”كيف حالك؟“ لكارولين بوجي وجوناثان فينل، فكان الأجمل والأذكى والأكثر عمقًا وطرافة بين أفلام التحريك. يدور حول 9 حيوانات تعيش معًا على أحد السواحل البرية المعزولة، في مجتمعهم الخاص، في محاولة للتمسك بالأمل، وتجنب العصر الحديث، والشفاء من أمراض العالم المعاصر، إلى أن يقرروا في النهاية الإقدام على خطوة مجنونة استعانة بألة المنجنيق خاصتهم. بخلاف الموضوع، ثمة ذكاء جمالي في التنفيذ. إذ لجأ المخرجان لتوظيف مشاهد للقطات حقيقية من الطبيعة تناسب الموضوع، وتركيب شخصيات الفيلم عليها، والخروج بشكل جمالي مغاير لأفلام الرسوم المعتادة.