محمد هاشم عبد السلام

 

24/12/2015

 

في ثالث فيلم تسجيلي لها، أقدمت المخرجة البريطانية “كلير لوينس” على خطوة خطرة بعض الشيء وذلك مع تصدّيها لإخراج فيلم تسجيلي جديد يتناول سيرة حياة، ليس فقط أحد أهم وأمهر من مارسوا لعبة الملاكمة على مدى تاريخها، بل أحد أشهر الشخصيات العالمية خلال القرن الماضي وحتى يومنا هذا، وهو أسطورة لعبة الملاكمة، النجم العالمي الشهير محمد علي كلاي الذي رحل عن عالمنا السبت 4 يونيو 2016، الفيلم يحمل عنوان “أنا علي” (I Am Ali)، والذي يمتدّ زمن عرضه لما يقترب من الساعتين.

والسبب الذي جعلنا نصف تجربة “كلير لوينس” الإخراجية في فيلمها الجديد “أنا علي”، بالخطوة الخطرة، أن ثمة الكثير من الأفلام الجيدة بالفعل التي صُنعت من قبل عن محمد علي، ناهيك عن الكثير من السير التي كتبت قبل ذلك عن حياته، فأي جديد رأت “كلير لوينس” أنها ستضيفه بفيلمها إلى كل ما سبق تقديمه على مدى سنوات طويلة مضت؟ هذا بالإضافة إلى أن الفيلم الذي يتناول شخصية محمد علي – الذي لا يزال على قيد الحياة – وكذلك حياته الأسرية وأيضًا مسيرته الرياضية، والمتمحور بالأساس حول كيانه، كان من المستحيل بطبيعة الحال أن يظهر فيه محمد علي، سواء بصوته أو بشكله الحالي، نظرًا للحالة المرضية التي يعاني منها منذ عقود، ومن ثم فقد وضعت نفسها أمام معضلة تعين عليها التغلب عليها، ألا وهي معضلة الحاضر الغائب.

وبرغم هذا التحدِّي المحوري في الفيلم، إلا أن المخرجة نجحت في أن تجعلنا نشعر بوجود محمد علي في الفيلم، وكأنه حاضر للتعليق والمشاركة في أغلب أحداث الفيلم الرئيسية، وقد تسنّى لها هذا عبر عدة تقنيات، منها الاعتماد على شريط صوت متميز ومونتاج جيد للغاية، وقد خلق الاثنان من المادة الصوتية والأرشيفية نسيجًا غاية في الاتساق والانسجام، بحيث أسهما معًا في تغطية جميع الجوانب التي كانت بحاجة للاستعانة فيها بشخص محمد علي من أجل التفاعل مع ما قيل أو يقال. وقد استندت “كلير لوينس” بطبيعة الحال إلى أرشيف عريض من التسجيلات والبرامج والمقابلات والمبارايات ولقطات الفيديو المنزلية التي كانت في أرشيف العائلة، إلى جانب، وهذا هو الأهم، أرشيف الصوت البالغ الأهمية.

ربما يرى الكثيرون ممن يشاهدون فيلم “أنا علي” أن الكثير مما ورد به من مواد أرشيفية، هي في الغالب، مادة غير جديدة إلا فيما ندر، لكنهم بطبيعة الحال، سيدهشون للمادة الصوتية التي اعتمدت عليها كلير بجرأة تحسد عليها في بناء فيلمها. وبالطبع، هذا الأمر مردّه بالأساس إلى شخص محمد علي نفسه، الذي كان يحرص كل الحرص، من أجل ترك ذكرى لأفراد أسرته، على تسجيل مكالماتهم الهاتفية أو أحاديثهم معه وهم لا يزالوا أطفالا، بالكاد يستطيعون الكلام أو تجاذب أطراف الحديث في كل شيء وعن مختلف الأمور، وذلك على أشرطة كاسيت ترجع إلى سنوات السبعينات من القرن الماضي. وقد استفادت كلير بتلك المادة وجعلتها محورية للغاية في بنية فيلمها.

وقد استعانت المخرجة كلير لوينس، بالعديد من الشخصيات للظهور في فيلمها منهم، بنات محمد علي، هنا ومريم وليلى، وأيضًا ابنه محمد، وزوجته السابقة فيرونيكا بورش، إلى جانب العديد من اللقاءات مع مدربين ولاعبين سابقين وصحفيين، إضافة إلى مدير أعماله السابق “جين كيلروي”، الذي أكد على أن ثمة عظماء حتى بعد غيابهم يظلوا بيننا مثل مانديلا وتشرشل وغاندي ومحمد علي. وقد حرصت المخرجة على أن ينقسم بناء الفيلم إلى ثلاثة أقسام، متساوية زمنيًا إلى حد بعيد، تحكي كل منها قصة مختلفة، وقد جاءت عناوين القصص، كما أطلقت عليها، على النحو التالي، “قصة الشقيق، وقصة المدرب، وقصة الصاعدون الجدد”.

“قصة الشقيق”، وتلك تحدث فيها على نحو أكبر رحمن أو عبد الرحمن شقيق محمد علي عن والديهما وشقيقه وطفولتهما والمدرسة وحتى اكتشاف محمد علي لعبة الملاكمة وافتتانه بها ووعده لشقيقه بأنه سيكون أشهر رجل في العالم. ثم “قصة المدرب”، وتلك رواها باستفاضة المدرب “أنجيلو دوندي” الذي عمل كثيرًا في تدريب محمد علي وكان أيضًا بمثابة الصديق والناصح الأمين له. وأخيرًا، “قصة الصاعدون الجدد”، وتلك تحدث فيها العديد من اللاعبين الذين كانوا يعتبروا ناشئين حتى وقت اعتزال محمد علي اللعب، وكان هو بمثابة المعلم بالنسبة لهم، ومن بينهم مايك تايسون، الذي اقتدى به وقرر السير على دربه منذ أن التقاه في زيارة قام بها للإصلاحية التي كان نزيلا بها.

وبالرغم من هذه البنية التقسيمية، والتي اقتضت بطبيعة الحال عدم اتباع البناء أو السرد الزمني الخطي للفيلم، إلا إن المخرجة وفقّت إلى حد كبير في تغطية أهم اللمحات الرياضية وغير الرياضية في حياة محمد علي، منذ أن بدأ الملاكمة وحتى اعتزاله اللعب في عام 1981. وقد ساعدها في ذلك إلى حد كبير عدم اعتمادها بالأساس على عرض العديد من اللقطات الخاصة بمباريات الملاكمة وذلك حتى آخر مباراة له وهو في التاسعة والثلاثين من عمره، ولا الإفراط الزمني في العرض عند الاستعانة بما هو ضروري منها. وبذلك لم تهدر الكثير من الوقت فيما هو معروف ومستهلك، واستفادت من هذا في تغطية الكثير من الجوانب خلال وقت زمني قصير نسبيًا.

وقد أولت المخرجة اهتمامًا كبيرًا في فيلمها لتلك الفترة الزمنية التي مُنع خلالها محمد علي من لعب الملاكمة وسحب منه اللقب العالمي، وذلك في الفترة من عام 1967 وحتى عام 1971، كعقاب له على قرار امتناعه عن المشاركة في حرب فيتنام كجندي أمريكي، رفض الانصياع للأوامر وتلبية نداء الوطن. وكيف كان يقضي محمد علي تلك الفترة المهمة والقاسية من حياته في مواصلة التدريب وتحدي نفسه، وإلقاء المحاضرات في مختلف الأماكن، والتوعية من أخطار وأهوال الحروب، وعقد العديد من اللقاءات الصحفية والتليفزيونية للدفاع عن نفسه وتوضيح موقفه وحشد المناصرين لقضيته، وكيف كان يتسّم بالطلاقة واللباقة وخفة الدم والسخرية اللاذعة ولا تفارق الابتسامة وجهه، ناهيك عن التأثير العظيم والساحر الذي كان له على مستمعيه وعشاقه.

لقد أرادت كلير لفيلمها أن يكون عن محمد علي الإنسان والأب والأخ والصديق والزوج والأسطورة، وأخيرًا الملاكم، وصاحب القليل من الهنّات أو الزلّات الإنسانية. وقد حشدت المخرجة لهذا كله على نحو جيد وتركت بالفعل وثيقة تنقل الكثير مما هو رائع وإنساني عن الرجل، وعلى نحو طغت فيه أيضًا كاريزمته الهائلة، حتى مع معرفتنا بحقيقة مرضه، التي لم تشأ ذكرها في الفيلم إلا على نحو عابر.

ومن ثم فإن الفيلم يعتبر بمثابة تحية تقدير وعرفان وتذكُّر لتلك الأسطورة التي شغلت الناس جميعًا لعقود بمهارتها الفذة، ومواقفها السياسية المتميزة، وتحولها الديني الصادم آنذاك للإسلام، ناهيك عن شهرتها التي بات يصعب على الكثيرين مجاراتها فيها حتى يومنا هذا والتي قال عنها مدير أعماله، في سياق حديثه عن المباراة التي جمعت بينه وبين جورج فورمان في زائير، لم يكن هناك بالغابات أية وسيلة اتصال ولا تليفزيون أو حتى راديو، والناس هناك لم يسمعوا قط بتشرشل أو كيندي، لكنهم كانوا يعرفون جيدًا من هو محمد علي.

ولد محمد علي كلاي، وكان اسمه قبل إسلامه كاسيوس مارسيلوس كلاي، في السابع عشر من يناير عام 1942. وقد فاز ببطولة العالم للوزن الثقيل ثلاث مرات في أعوام 1964، و1974، و1978، وذلك على مدى عشرين عامًا. وبعد آخر هزيمة له، نسمع خلال الفيلم على شريط الصوت ابنته وهي تثنيه عن خوض تلك المباراة لأنه سيهزم ويخسر اللقب وعندما يسألها لماذا تجيبه الصغيرة لأنك صرت كبيرًا، اعتزل اللعب نهائيًا وهو في التاسعة والثلاثين من عمره عام 1981.

وقد أضافت ابنته في حوارها مُعلقّة على هذا التسجيل بأن والدها لعب تلك المباراة وكان قد بدأ يعاني وقتها من بوادر مرض الباركنسون. وفي عام 1999 فاز محمد علي، صاحب أسرع وأقوى لكمة في العالم، بلقب “رياضي القرن”. وقد ذكرت المخرجة في العناوين النهائية للفيلم بعدما قال محمد علي عن نفسه بصوته، “إنني سجين جسدي، لكن عقلي يعمل على نحو سليم”، توفي محمد علي بعد معاناته مع المرض في الرابعة والسبعين من عمره في الرّابع من يونيو 2016، وكان يعيش آخر أيامه محتجبًا عن الظهور في سكوتسديل بولاية أريزونا ابلأمريكية رفقة زوجته الثالثة.