محمد هاشم عبد السلام

 

أخرج فيدريكو فيلليني أول أعماله عام (1950)، وبعد كتابته لسيناريوهين أو أكثر (1951– 1952)، كلاهما من إخراج “بيترو جيرمي”، قدّم ثاني أعماله، وأولها كمخرج مستقل بعنوان “الشيخ الأبيض” (1952).

عام (1953)، أخرج تحفته الأولى “العجول السمينة”، عن العجول كما تشير الكلمة الإيطالية أو كما نقول نحن “العاطلين بالوراثة”، الشباب الذين يقضون إيامهم ما بين الكازينو والمزاحات الصبيانية رغم أنهم لم يعودو بعد مراهقين، لكنه الخمول والكسل وحياة البطالة التي يحيونها هي التي تجعلهم يبدون كذلك. وحتى محاولتهم للتحرك من أجل الخروج من الوضع الذي هم فيه كانت سرعان ما تنتكس ويعود كل شيء مثلما كان عليه، ما عدا أحدهم ويدعى “مورالدو” أصغرهم سنًا وكانت كل رغبته تتمثل في الهجرة للعاصمة، وقد تمكَّن بالفعل من الفرار من هذا الإيقاع المميت. هذا الفيلم فاز عنه فيلليني بالأسد الفضي لمهرجان فينيسيا، وحظي بتوزيع وإقبال عالمي كبير.

الفيلم الذي صنع اسم فيلليني وأكد موهبته ووضعه بين العظماء هو، “الطريق” (1954)، الذي حاز أيضًا على جائزة الأسد الفضي، وأوسكار أحسن فيلم أجنبي وقرابة خمسين جائزة أخرى من أنحاء العالم. نجاح هذا الفيلم جلب له ولزوجته النجمة “جوليتا ماسينا” شهرة كبيرة مستحقة. وهو عن الغجري “زمبانو” والشابة المسالمة الضعيفة “جيلسومينا” (أنتوني كوين وجوليتا ماسينا). ذلك الشخص القوي البنية الذي يقدم استعراضاته البدائية في القرى والميادين الصغيرة، والذي يبتاع من إحدى الأسر المعدمة جيلسومينا دافعًا فيها قدرًا ضئيلا من المال، وسرعان ما تصبح مساعدة وعشيقة له في نفس الوقت، لكنها بالنسبة له ليست سوى أحد أشيائه، فهو لا يعبأ بها على الإطلاق ويعاملها بقسوة تصل حد العنف، أما هي فلفرط طيبتها وسذاجتها لم تحاول الاعتراض أو الشكوى أو حتى الفرار، فقط كانت تنفذ ما تؤمر به.

لكن الأحداث تتصاعد بظهور المهرج المتشرد اللطيف (ريتشارد بازيهارت) والذي تهيم جيلسومينا به حبًا لرقته وعطفه عليها. كان هذا المهرج كثير السخرية من زمبانو لفرط استعماله القوة، وفي إحدى المشادات بينهما يقتله زمبانو، وسرعان ما تفقد جيلسومينا عقلها إثر الحادث، الأمر الذي يدفع بزمبانو لهجرها، بعد عدة سنوات يكتشف بالصدفة أنها قد ماتت، عندئذ يدرك ما هو عليه من وحدة وتزداد وطأة الأمر عليه بتذكره لها، الأمر الذي يفضي به في النهاية إلى البكاء الهيستيري الحارق عند أحد الشواطئ وحيدًا مهجورًا.

“ليالي كابيريا” (1957) هو عن مأساة كابيريا (ماسينا) العاهرة الشقية الساذجة التي تكاد تفقد حياتها على يد أحد أصدقائها طمعًا في مالها، والباحثة بلا جدوى عن الحب والأمان والتي ما تلبث أن تنتهي من مشكلة أو مصيبة أومحاولة لقتلها حتى تعود مرة أخرى بسذاجتها المعهودة لنفس الفخ ثانية، لدرجة أنها تبيع منزلها الذي ليس لها غيره من أجل أحد عشاقها الذي أغراها بالحب وبالزواج، رغم إدراكها أنه كاذب، لكنه التعلق بالأمل والتوق للحب والأمان، وقد أفلتت من الموت على يديه بأعجوبة. لكن هل أدركت بالفعل أن سذاجتها هي سبب شقائها؟ وما أهمية هذا بالنسبة لها مادامت ستواصل الطريق نفسه ثانية! هذا الفيلم استحق عنه فيدريكو فيلليني ثاني أوسكار له.

عام (1960) أخرج فيلليني “الحياة الحلوة”، أحد أشهر أفلامه، والذي تألق فيه النجم ماستورياني، في دور الصحفي “مارشيلو” الذي يأمل أن يصبح يومًا ما كاتبًا ذا شأن بدلا من كونه مجرد محرر للفضائح المجتمعية بإحدى الصحف الصفراء. هذا الفيلم الذي يطوف بنا خلال صفوة الطبقة الاجتماعية الصاعدة في إيطاليا بعد الحرب، أو مجتمع النخبة، الذي يفضحه فيلليني عن طريق مجموع من الحكايات والشخصيات المنفصلة. لكن ذلك يتم بطريقة إخراجية غاية في التميز حيث بدأ فيلليني المُجدد في تلمس طريقه للخروج من الأطر الضيقة للواقعية الإيطالية، والسينما المعتمدة على الحبكة والخط الدرامي والزمني المتصاعد دومًا بشكل ضروري، كأنه لا غنى عنه.

هذا الفيلم قوبِلَ بكثير من النقد في إيطاليا، ليس لطريقة تناوله الإخراجي. وعند عرضه الأول بميلانو، صاحت الجماهير مستهجنة الفيلم ومزدرية إياه. وتلقى الفيلم الكثير من الإهانات وكذلك المخرج، فهو يصور الانتحار وحياة الانحلال والجنس بمجتمع روما الذي هو رمز للمجتمع الإيطالي بصفة عامة، وبرغم كل الهجوم الذي تعرض له الفيلم، فاز بالسعفة الذهبية لمهرجان “كان“، وترسخت مكانته كواحد من أعظم الانجازت في تاريخ السينما.

الفترة من 1960 وحتى 1963 لم تشهد سوى إنتاج بسيط للمايسترو، وهو ما سبب له الكثير من الإزعاج والإرهاق الشديد لفرط بحثه المضني عن فكرة فيلم. وكان بالفعل قد وقع العقد وتقاضى مقدمًا واتفق مع الممثلين والعاملين وبدأ تشييد الديكور، وفي اليوم الذي جلس فيه لكتابة خطاب للمنتج لفسخ العقد، وبعد أن انتهى بالفعل من الخطاب، إذ بالفكرة تأتيه، الأمر الذي قاده في النهاية لإخراج تحفة أخرى، يعتبرها كثير من النقاد من أعظم أفلامه، “ثمانية ونصف” (1963).

وهو عن المخرج المعروف “جويدو” (مارشيلو ماستورياني). كان جويدو يستجم بإحدى مصحات الحمَّامات المعدنية، محاولا قدح زناد فكره للخروج بفكرة فيلم سيقوم بإخراجه، ولا يدري كيف سيتسنى له هذا ولا وجود للفيلم. وبدلا من التركيز للعثور على الفكرة تبدأ المشاكل تتعقبه، تحضر زوجته، ثم عشيقته، ثم الممثلة التي من المفترض أن تقوم بدور في الفيلم، وتبدأ الهواجس في محاصرته بشكل مرعب ولا يدري إن كانت الأمور والأشياء والأشخاص حقيقة أم خيال، المنتج، العاملين، والدته المتوفية التي تحكي له عن قبر أبيه المتوفي وتريه إياه، المدرسة الداخلية وهو صغير، كل هذا يجعله يفكر في التخلي عن الفيلم نهائيًا، لكن سرعان ما تظهر كل شخصيات حياته في حلبة التصوير، ويبدأ هو بإعطاء إشارة بدء الفيلم. هذا الفيلم فاز عنه فيلليني للمرة الثالثة بالأوسكار، بالإضافة للجائزة الكبرى في مهرجان موسكو وعدة جوائز أخرى.

“ساتيريكون” (1969)، وصف النقاد هذا الفيلم بأنه أكثر أفلام المايسترو إغراقًا في السريالية والهذيان. فيلليني نفسه وصف الفيلم ذات مرة قائلا: “إنه خيال علمي من الماضي”. وبالطبع الفيلم بالكامل يتحرك بالمنطق الذي يحكم الأحلام، متشظيًا، مبهمًا في أجزاء كثيرة منه. ولسنا هنا بالطبع إزاء قصة بالمعنى المتعارف عليه، حتى ولو قارناه بأفلامه السابقة أو التالية، بل مجموعة قصص متعددة ومواقف كثيرة ومشاهد متنوعة لا يربط بينها جميعًا سوى ظرف تاريخي معين، إنها اللحظة التي انهارت إثرها الحضارة الرومانية.

وكل ما نستطيع تبينه بعد مشاهدتنا لهذا الفيلم، أن فيلليني حاول المقارنة بين الماضي المتمثل في انهيار الحضارة الرومانية بسبب الانحلال والفساد والعنف ورفض مواجهة المشاكل وغياب القيم وانهيار الإنسان بسبب إطلاق العنان لغرائزيته، وبين المجتمع الإيطالي بصفة خاصة الذي كان قد بدأ مرحلة جديدة من الانتعاش الاقتصادي وما صاحب هذا الانتعاش من مظاهر اجتماعية وإنسانية سلبية. إنه فيلم بصري تهكمي لاذع تغلب عليه السمة الفانتازية، والرؤية السوداوية البشعة للنفس الإنسانية عندما تنحط وتُعلي من شأن الغرائز في مقابل تراجع الدور القيادي للعقل.

إنه رحلة تقدمية تمثل ذروة سنوات الستينات، وتعليق أساسي جوهري على الحاضر عبر استنطاق الماضي وفحصه من خلال الحاضر. وقد انقسم النقاد حول الفيلم ما بين مادح له كنوع جديد من السينما غير المعتادة، التي لا تسير بخط منتظم، أو كما قال عنه آخرون أنه من نوعيه أفلام فيلليني المعتادة في ذاتيتها وغموضها وشهوانيتها ومجونها وسرياليتها المجانية.

بعد “المهرجون” (1970) و”روما” (1972) أخرج فيلليني أحد أكبر وأقوى أعماله، وهو تحفة سينمائية أخرى، “أماركورد” (1973) (أنا أتذكّر، باللهجة المحلية)، الذي نال عنه الأوسكار الرابع والأخير كأفضل فيلم أجنبي. وتدور أحداثه خلال الثلاثينات أثناء الفاشية، بمدينة فيلليني الساحلية ريميني، ويتمحور حول عائلة بها ابن مراهق مهووس بالجنس “تيتا”، الذي ينشأ وسط أسرة متسلطة أفرادها غير طبيعين، ويتلقى تعليمًا كاثوليكيًا خطابيًا فاشيًا، الأب ملاحظ عمال سريع الغضب فوضوي معارض للفاشية، والأم بليدة مُسيطرة، أحد أخواله في مستشفى المجاذيب، والخال الآخر عاطل وفاشي، الجد دموي وبه حيوية وطاقة غريبة، الأخ الأصغر متمرد وغير مهذب. والفيلم عبارة عن مزج لطيف بين الوهم الخيالي الفنتازي، والسخرية اللذيذة المؤلمة، الزائدة في هذا الفيلم والواضحة فيه عن بقية أفلامه.

إنه مجموعة من المشاهد والصور السريعة المتلاحقة المتراوحة، بين الميلودرامية والحميمية، والسخرية، والكاريكاتيرية. وبالفيلم العديد من المشاهد الشيقة، التي هاجم فيها الفاشية وقام بتشريحها بلا مباشرة. ليست فقط الفاشية بمفهومها العام، السياسي، بل كحالة من حالات النفس الإنسانية بوجه خاص، والتي يرى أنها موجودة بأعماق كل منا بدرجات متفاوتة، متوارية عن الأنظار، حيث الطاعة والخنوع والموافقة الدائمة، والاستسلام التام للسلطة في كل صورها، حيث تجري معاملة الفرد كطفل صغير غير بالغ ولا يراد له ذلك البلوغ.

“كازانوفا” (1976)، بهذا الفيلم الصادم لقطاع عريض من الجماهير، قدّم فيلليني كازانوفا آخر مغايرًا تمامًا لما في أذهاننا من صور ارتسمت لهذا العاشق، زير النساء الذي صار اسمه محفوظًا ويضرب به المثل، حتى عند الذين لم يقرؤوا مذكراته أو يشاهدوا الأفلام المصنوعة عنه. وها هو المايسترو يأتي بفيلم يقدمه وقد شاخ وهرم، وصار وجهه مهزومًا، ونظراته هيستيرية قلقة، ذو ضحكات مشدوهة، وقد انتهى به الأمر أمينًا لمكتبة. صحيح أنه يقوم بمغامرات، لكن ليست كلها ناجحة.

يظن كازانوفا أنه مصاب بالزهري ويفكر بالانتحار! لكنه ينصرف عن هذا ويصاب بما هو أسوأ، الشيخوخة، وانطفاء سحره وبريق جاذبيته، ويصير في النهاية مهملا من جانب البلاط، وسرعان ما يسقط في دوامة ذكرياته عن الماضي، وينتهي به المطاف يراقص دُمية ميكانيكية. هذا الفيلم الذي يقول عنه المايسترو إنه مجرد فيلم شكلي عن “اللا – حياة”، مازال معترفًا به كإنجاز عميق في مهنة فيلليني.

بعد ثلاث سنوات من التوقف عاد الأستاذ بفيلمه “القافلة تسير” (1983) أو حرفيًا “وتمضي السفينة”. تبحر السفينة “جلوريا” من نابولي، إبان الحرب العالمية الأولى، بعد صعود المسافرين إلى “إريمو”. يجمع لنا فيلليني في هذه السفينة نماذج مختلفة وشديدة التباين، مغنيين، مديرو فرق أوركسترالية، صحفي، نبيل إيطالي، رماد مغنية شهيرة سينثر في المياه، خرتيت، صربي انتشلته السفينة بعد أحداث سراييفو، يلقي بقنبلة على باخرة نمساوية/مجرية، ترد بدورها وتغرق السفينة جلوريا. ينجو الصحفي، ونشاهده وهو مستقل قاربًا ويجدف مسرورًا، وفي مقدمة القارب الخرتيت الذي نجا بدوره ويجتر غذاءه  في سلام وهو يتطلع لعرض البحر.

إنه حقًا فيلم غريب، قال بعض النقاد إن فيلليني في هذا الفيلم يصفي حساباته مع فن الغناء الأوبرالي ونجومه، ويزعم أن المايسترو كان لا يستسيغه كفن على الإطلاق! كل ما يمكن قوله عن هذا الفيلم، أن المايسترو أثبت فيه أن ميله للوصف اللافت المتوهج لم يفقد مهارته الكوميدية أو التهكمية.

اعتبر بعض النقاد “صوت القمر” (1993)، آخر أفلام المايسترو، هذا العمل المليء بالإشارات والأفكار الحنينية، فيلم غريب وحزين. صوت القمر هو الذي ربط كل الهواجس والموضوعات التي كانت تشغله منذ فيلم “ثمانية ونصف”، بالإضافة إلى سلسلة المشاهد الغرائبية والفنتازية كعهدنا مع فيلليني، لكن في هذه المرة يكاد العرض يماثل رقة وعذوبة الشعر نفسه.

إننا إزاء تمكن ثلاثة قرويين من اصطياد القمر، الذي يقال إنه يصدر أوامر إلى صغار الشياطين على الأرض، وتقييده داخل أحد العنابر. “إيفو” (روبيرتو بينيني)، الذي تقول له جدته مقولة رائعة تلخص فيها فلسفة فيلليني الحياتية برمتها “إن الذكرى أجمل بكثير من الحياة نفسها”، يبقى في نهاية الفيلم يثرثر مع القمر بناء على دعوة منه بذلك.