محمد هاشم عبد السلام
22/2/2017
يعتبر المخرج المعروف “سيرجي لوزنيتسا” من أكبر المخرجين التسجيليين العاملين الآن في السينما الأوكرانية، وهو أيضًا أحد أهم الأصوات في السينما التسجيلية المعاصرة، خصوصًا بعدما ذاع صيته عقب إخراجه للفيلم التسجيلي الشهير “الميدان” (2014)، الذي رصد من خلاله أحداث الثورة الأوكرانية وما دار خلالها من اشتباكات ووقائع دامية واعتصامات في ميدانها الشهير بالعاصمة كييف. وفيلم لوزنيتسا الأخير يحمل عنوان “أوسترليتز” (Austerlitz)، وقد عُرض مؤخرًا على هامش دورة مهرجان فينيسيا السينمائي الفاتئة، وسيعرض خلال دورة هذا العام من مهرجان سالونيك للسينما التسجيلية في أول مارس القادم.
تدور أحداث فيلم “أوسترليتز”، المُصور بأكمله بالأبيض والأسود، إن جاز وصفها ما نشاهده طوال زمن الفيلم بالأحداث، في أحد معسكرات الاعتقال النازية السابقة، والذي يحمل اسم “معسكر داخاو”، وهو موجود بالقرب من مدينة ميونج. والمعسكر مفتوح الآن بشكل يومي لاستقبال الزيارات السياحية، ويتردد عليه بالفعل آلاف الزوار على نحو شهري.
في فيلم “أوسترليتز”، ومن دون أدنى رغبة من جانب المخرج في خلق أية تعقيدات تكوينية أو كادرات مختلفة أو لفت الانتباه إلى الوسيط السينمائي، نجدنا تقريبًا أمام ما يمكن أن نطلق عليه بالفيلم التجريبي، على الأقل فيما يتعلق بالأسلوب والتنفيذ. ولأن الفيلم عن أحد معسكرات الاعتقال بألمانيا النازية سابقًا، كما ذكرنا، فقد أراد المخرج، دون شك، الخروج عن النمط التقليدي، وعدم ركونه لتكرار ما تم تقديمه عبر عشرات، بل مئات الأفلام، التي ارتبطت بتلك أحداثها برصد معسكرات الاعتقال النازية وما جرى فيها. ولذا، فقد اختار المخرج في تقديمه للفيلم وجهة نظر خاصة للغاية، انعكست على فكرة الفيلم وأسلوبه، اللذين اكتفيا بالرصد الصامت فقط لما يحدث أمام الكاميرا، والمُراكمة البطيئة للكادرات وراء بعضها البعض لخلق الأثر المطلوب.
في الفيلم، لا الكاميرا ولا المخرج ولا السيناريو وحبكته، يعيرون أدنى اهتمام للمكان نفسه أي المعسكر أو حتى تفاصيله، ولا رصد ما تبقى من أصداء تاريخية بداخله أو لا تزال عالقة به. الاهتمام هنا منصب بالأساس على رصد انعكاسات كل هذا والإمساك به، وذلك من خلال الإمساك بانفعالات من يشاهدون ويرصدون المكان وتفاصيله ويحاولون الاقتراب منه، وملامسة التاريخ أو ما بقي من انعكاساته بالمكان، أي باختصار، يرصد الفيلم رصد المترددين على المكان من الزوار والسائحين، وليس مفردات المعسكر وما تبقى منه أو تبيان وقائع ما جرى فيه من أحداث.
“أوسترليتز” يرصد البشر ذاتهم كموضوع. والرصد هنا، يصبح بالأساس لوجهة نظر هؤلاء البشر، وتتبع ما يرونه ويتفاعلون معه، ونقل تلك الانفعالات والتأثيرات البادية عليهم، على نحو طبيعي. أي أننا هنا، بالضبط، في موضع المُتلصصين، كمن ينظرون من ثقب الباب تقريبًا، نراقب ونتلصص ونتابع ونرصد دون أدنى دراية من جانب من نرصدهم ونتلصص عليهم ونتابعهم ونراقبهم. إن كاميرا لوزنيتسا حاضرة وموجودة في الفيلم وبقوة، لكنها خفية ومنفصلة في نفس الوقت. كاميرا تغلب عليها الحيادية المطلقة في لحظات التصوير، فهي لا تتخير أو تنحاز لأفراد بعينهم أو مجموعة بذاتها من البشر لترصدهم، بل الجميع أمامها سواسية، يمرون كما لو فوق شريحة يرصدها المجهر بمنتهى الحيادية والشفافية.
ولذا فإن الفيلم يقترب إلى حد كبير جدًا، سواء بقصد أو غير قصد عن دراية أو دون تعمد، من كونه تطبيقًا لنظرية السلوك الجمعي أو الجماعي المشترك. حيث نرى على وجوه الزوار دهشتهم التي تتراوح بين التأثر الدرامي الشديد أو الخفة المصحوبة بقدر لا بأس به من الامتعاض والتبرم، وما بينهما من اهتمام بالغ أو ملل ولا مبالاة، وتلك كلها نراها جلية عبر عيون وقسمات ووجوه وتصرفات المترددين على المعسكر. وفي “أوسترليتز”، نحن كمشاهدين في الخلفية دائمًا، وراء عدسة كاميرا تصوير مخفية في مكان ما، أحيانًا تكون بعيدة للغاية فيبدو الكادر مفتوحًا، وفي أحيان أخرى تكون قريبة للغاية، فنكون شبه ملاصقين أو ملتحمين مع ما تُصوّره.
تمضي أحداث الفيلم على نحو يبدو كأننا في جولة سياحية داخل المعسكر، تبدأ من نقطة معينة ثم تنتقل بنا من موقع إلى آخر، ثم تنتهي بنا بعد نقطة محددة، كلها مُصورة بكاميرا ثابتة. ولذا يبدأ لوزنيتسا فيلمه، بلقطة عامة واسعة والكاميرا ترصد بوابة الدخول والخروج من وإلى المعسكر. وربما لعشر دقائق أو أكثر، لا شيء يحدث بالمرة سوى رصد المارة الذين يعبرون دخولا وخروجًا أمام الكاميرا. بعد ذلك، ننتقل لرصد الزوار في أماكن مختلفة من المعسكر، حجرات نوم أو قاعات أو طرقات إلى آخره من مكونات المعسكر، دون أدنى تغيير يذكر، باستثناء، كما ذكرنا، تغير زاوية رصد الكاميرا أو اتساع الكادر، وتبدل بؤرة الرصد، وبالتالي مكاننا كمشاهدين مما يحدث أمامنا.
بالطبع، يحتاج الفيلم إلى الكثير جدًا من الصبر، بل إلى قدر كبير من الجلد التام، وأيضًا القدرة على التحمل. خاصة بعدما يدرك المرء، بعد فترة زمنية ليست بالقصيرة، أن الفيلم سيمضي على تلك الوتيرة، وأن هذا هو كل ما يحاول المخرج قوله والوصول إليه، وأن أحداث الفيلم، الذي يزيد زمن عرضه عن الساعة ونصف الساعة قليلا، لن تتطور بأي شكل من الأشكال وأن كادراته لن يطرأ عليها أي تغيير كبير، وحتى لن تتبدل وتيرتها إلا بعد فترة زمنية جد طويلة. وفي النهاية، نجد أن عدد كادرات الفيلم المفرطة الطول، ربما خمسة عشر كادرًا، بمقدار زمني يبلغ عشر دقائق تقريبًا لكل كادر منها. وإمعانًا أكثر في التجريد والرغبة في مشاركة المشاهد في تجربة مختلفة، التزم المخرج بجعل شريط الصوت مجرد تسجيل للأصوات الحقيقية للمكان، والبشر وأحاديثهم والضوضاء وأصوات من يقومون بالإرشاد بمختلف اللغات كالإسبانية والفرنسية والأمريكية والألمانية إلى آخره، هذا باختصار هو شريط الصوت الخاص بالفيلم.
ربما بنفس القدر من القسوة والبرود والرصد المتأمل، وتقديم الصورة كما هي دون رتوش، أراد لوزنيتسا عن قصد أن يرينا المأساة، ليس بطريقة تقليدية مُباشرة تعمل على تقديم المعسكر بالصورة النمطية المعتادة، وإنما أراد أن تصلنا التجربة من خلال رصده الصبور والمتمهل لوجوه زوار المعسكر، ورصد تلك التعبيرات على نحو عفوي، نظرًا لأن الغالبية منهم لم تنتبه بالمرة لوجود الكاميرا. وهذا الأثر العظيم كان سيقل ويخفت تأثيره، وربما يتلاشى بالقطع، لو كان لوزنيتسا قد عمد مُباشرة إلى تصوير الوجوه أثناء زيارتها المتحفية وطوافها بداخل المعسكر، ورصد كل تعبير وانفعال يطرأ عليها في وجود الكاميرا.
المخرج الأوكراني “سيرجي لوزنيتسا”، يرى أن الناس الذين قدموا إلى معسكر “داخاو” قبل 40 عاما جاؤوا إليه بهدف مختلف عن الزوار الآن، و أن الناس لا تذكر، وأحيانا لا يفهمون حتى أين هم، وما تتحدث عنه هذه الأماكن.
وقد نجح لوزنيتسا في الخروج بالانطباع الذي يرغب في الخروج به نتيجة لما انتهجه من أسلوب فريد، وربما ضاعف من تحقيق المخرج للأثر المرجو تفضيله تنفيذ الفيلم بالأبيض والأسود. وبنفس الكادر الافتتاحي لمدخل المعسكر، بعد طوافه بنا لساعة ونصف الساعة داخله، ورصده لانفعالات الزوار المتباينة، يختتم لوزنيتسا فيلمه، وعندئذ ندرك أننا كنا بالفعل بداخل أحد معسكرات النازية، ومع فيلم ينتمي لتلك النوعية الشهيرة من الأفلام، في حين أننا لم نر المعسكر ولا مكوناته. فذلك لم يكن هو الغرض الأساسي للفيلم، وربما من ليست لديه خلفية من الجمهور عن اسم المعسكر وخلفيته ولا ما تشير إليه اللافتة الموضوعة على مدخل المعسكر، لما أدرك أن الفيلم كان بداخل أحد معسكرات النازية.