محمد هاشم عبد السلام

ينتمي “أولاد نيكل” لراميل روس إلى نوع عريق في السينما الأميركية، يُعاين اضطهاد السود ومعاناتهم ونضالهم لنيل حقوقهم. أفلامٌ تفوَّقت، وتركت بصمة خاصة. أفلامٌ أخرى نجحت جزئياً، وكثير منها لا أثر له. بعضها مأخوذٌ من وقائع حقيقية، أو مستندة إلى سيناريو أصلي؛ وبعضٌ آخر مقتبس من نصّ أدبي. أفلامٌ، على اختلافها، لفتت الانتباه إلى تاريخ طويل من الظلم والعنصرية والتهميش، وكشفت جوانب مؤلمة في الواقع الأميركي، وساهمت بتأثيرٍ وتغيير.

راميل روس ينتمي إلى جيل جديد من السينمائيين السود، يُقدّم رؤى أكثر أصالة وصدقاً لهذه القضية. لكنّه يختلف عن الجميع في نهجه الفني، إذْ يضرب بتاريخ النوع والسينما عرض الحائط من دون مبالغة، ليقطع أشواطاً بعيدة، بتجاوز وثائقيّه البصري الصادم “مقاطعة هيل، هذا الصباح، وهذا المساء” (2018)، ليبلغ ذروة غير مسبوقة سينمائياً في أول روائي طويل له.

بعيداً عن تصنيفه في نوعه السينمائي، ومدى مقاربته الرواية الأصلية ذات العنوان نفسه (بوليتزر، 2020) لكولسون وايتهيد، المستندة إلى وقائع حقيقية، ومدى تأثيره العميق والمؤلم والفاضح، لا يرقى هذا إلى أهمية أنّ إبداع روس في “أولاد نيكل” يسهل وصفه بالتحفة السينمائية. ليس لكونه الأفضل في نوعه أو عام صدوره فقط، بل لكونه علامة بارزة في تاريخ السينما. المؤكّد أنّه ينبغي التوقّف طويلاً عند صنيعه هذا، الذي سيعيش طويلاً، بمقالة نقدية، وأيضاً بدراسات شاملة لتشريحه. كما أنّ برمجته في مناهج تدريس التذوّق السينمائي ضروريّ، وطبعاً في مناهج دراسة التصوير، وفي كلّ ما يتعلق بالتنفيذ السينمائي وفنيّاته، وأولاً بدراسة المونتاج.

لقطة سُفلية للصبي إلوود (إيثان هريس)، بطل الفيلم.

عبر بناء راديكالي مقصود، شَيَّدَ روس فيلمه، سرداً وتصويراً ومونتاجاً وصوتاً وديكورات وملابس وإضاءة واختيار ممثلين، جامعاً بين الروائي والوثائقي والمقاطع الإخبارية والأرشيفية، ودرجات الألوان مع الأسود والأبيض، والتداخل الزمني، والأحلام والذكريات والرموز، وكلّ ما تشمله السينما. وهذا بتوليف غير مسبوق. صحيحٌ أن هناك إرهاصات سينمائية، بذورها ماثلةٌ في وثائقيّه الأول، لكنّه مضى إلى أبعد مدى في صَكِّهِ أسلوباً خاصاً يصعب الاقتراب منه أو تقليده، بإحيائه قصة مأساوية عن مؤسسة “نيكل”، الحكومية الإصلاحية، الشاهدة على انتهاكاتٍ صارخة لحقوق الأطفال والمُراهقين السود، منتصف القرن الـ20، والعاملة في فلوريدا إلى عام 2011.

جديده يعاين الأحداث كلّها من وجهة نظر الصبيِّين إلوود (إيثان هريس) وتيرنر (براندون ويلسون). أسلوبٌ كهذا ليس سهلاً ولا مُريحاً للمشاهد، لا سيما لو استمرّ طوال مدّة الفيلم. التبديل ذهاباً وإياباً بين وجهات نظر إلوود وتيرنر يُجبِر على مسح الإطارات، بحثاً عن أدلة مفيدة عن السياق المتعلّق بالشخصية التي من خلالها تظهر تلك اللحظة.

التجربة فريدة للغاية، بغض النظر عن أنّها ربما تُزعج أو تُنَفِّرُ الأغلبية، وتخلق صعوبة في المتابعة والفهم الدرامي وتعقيداته، وهوية الشخصيات، وتداخل الأزمنة، خاصة أنّ هناك “فلاش باك” مُتعدّداً، ولقطات أساسية طويلة ومُتكرّرة من وراء رأس البطل، وأخرى لا يُمكن تخمين من أي منظور مُلتقطة. كما تكثر لقطات ذات أسطح عاكسة للشخصيات، خاصة في البداية، إلى لقطات يُكسر فيها الجدار الرابع. إضافة إلى حضور رموز (ذكية ومستفزّة) عصيّة على التفسير، وغير مُقحمة، برقّتها ونعومتها ورُعبها وإثارتها: مشهد الحصان الموجود فجأة بممرّ في الإصلاحية؛ الظهور المتكرّر لتمساح ضخم.

لقطة توضح توظيف واستخدام اللقطات الانعكاسية.

المثير للانتباه، في اشتغال سينمائي فريد كهذا، أنّ الرهان على صمود براعته الفنية، أو الظهور (العاجل أو الآجل) للوهن الصريح أو لبعض العيوب، أو فتور المشاهدة وانتفاء الجديد والمدهش، أو استحالة ضبط كل العناصر والحفاظ على المستوى أكثر من ساعتين؛ أنّ هذا الرهان خائب، إذْ يباغت المخرج بجديدٍ ومفاجئ وصادم، من دون أدنى تضحية بالتماسك السردي والدراما والشخصيات المرسومة وواقعية الأحداث. هذا يؤكّد بشدة عبقرية فذّة لمخرج استثنائي، لا يشبه إلا نفسه.

هناك مشاهد تُحيّر في تخمين طريقة توجيهها وتنفيذها ورسمها: أيكتفي روس بتوجيه الصبيَّين الحاضرين غالباً على الشاشة، أو يَنصَبُّ التوجيه على المصوّر جومو فراي وفريق العمل، خاصة في المشاهد عسيرة التنفيذ، التي يصعب عند مشاهدتها تخمين آليات تصويرها، والتدريب عليها، وفنّيات وضع الكاميرا وتركيبها، وكيفية التفكير في هكذا زوايا وعمق مجال وحِدَّة اللقطات واتساع الكادر وتضييقه، كما محو الخلفية، وكيفية التدريب على الحركة والكلام والأداء في وضعيات غريبة، وكيف أنّ الكاميرا لم تكن عائقاً أمام الممثلين.

لقطة علوية خلفية للصبي إلوود (إيثان هريس).

مشهد العناق (احتضان جدّة إلوود صديق حفيدها الذي لا يظهر على الشاشة، مطالبة إرسال عناقها لإلوود) ساحق وجدانياً، ومُزلزلٌ، فكرة وتصويراً وأداء للجدة (أونغانو إليس تايلور). تأمّل مشاهد فذّة كهذه، ومحاولة تفسير ماهية الكادر واللقطة لثوان قبل استيعاب وضعيّتها وتكوينها ودراميتها وجمالياتها، كفيلان لإدراك أنْ ليس ضرورياً في الفيلم أنْ يؤدّي مشهد/لقطة إلى التالي عليهما، كسببٍ ونتيجة. هذا يقود، بعيداً عن التصوير وفريق التنفيذ، إلى تأمّل جهود المونتير نيكولاس منصور، الذي لاقى صعوبة جمّة في توليف كلّ هذا الجنون في قوام عبقري جريء وفذّ.

رغم هذا، يُمكن أنْ يُحَبّ “أولاد نيكل”، أو أنْ يُتطيّر منه، أو أنْ يُكره بشدّة. لكنْ، يستحيل نعته بالتحذلق والتكلّف. وقطعاً هو ليس فيلماً يمنح نفسه من أول أو ثاني مُشاهدة، خاصة أنّ الأمر معقود أساساً على إدراك وتقبّل سرد الأحداث من وجهة نظر أو منظور مغاير لشخص آخر، ستكون تجربة مختلفة جدًا ومغايرة.

إن مشاهدة “أولاد نيكل” تجربة تختلف تمامًا عن مشاهدتنا المعتادة للسينما، وفهمنا العادي لها. فالفيلم له قواعده الخاصة جدًا، الفريدة والعسيرة والمُفارقة للمعهود، لكنّها، مع ذلك، مُمتعة ومُشوّقة ومُحفّزة بشدة.