Direct capture, 2013-266

محمد هاشم عبد السلام

 

تفرّد الرسام الأمريكي الشهير إدوارد هوبر، المولود في الثاني والعشرين من يوليو عام 1882، بتصويره الواقعي للعزلة والوحدة بين أشخاص الحياة عمومًا، والحياة الأمريكية الحديثة على وجه الخصوص.

كانت عائلته تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. امتلك والده محلا لبيع السلع حيث كان هوبر الصغير يعمل أحيانًا بعد المدرسة. بحلول عام 1899 كان قد قرر بالفعل أن يصبح فنانًا، لكن والديه أقنعاه بأن يبدأ بدراسة الرسوم الإعلانية لأن هذا سيوفر له مستقبل أكثر أمنًا. في عام 1900 عندما التحق بمدرسة الفنون الجميلة في نيويورك، كانت هناك عدة شخصيات فنية بارزة تعمل بالتدريس مثل “ويليام ميريت تشيس” (1849 – 1916)، و”روبرت هنري” (1869 – 1929)، أحد آباء المدرسة الواقعية الأمريكية. وهو من وصفه هوبر فيما بعد بأنه “كان من أكثر المدرسين تأثيرًا في شخصي”.

كان هوبر يتقدم ببطء في دراسته، وقد ظل في مدرسة الفن لمدة سبع سنوات. كان التقدير الخاص لهوبر من قبل نظرائه عاملاً رئيسيًا في تشكيل شخصيته وجوانب حياته الفنية على السواء. خلال مراهقته، كان كثيرًا ما يتعرض للسخرية من جانب زملائه بسبب قامته الطويلة ونحافته، فقد كان طوله وهو في الثانية عشر من عمره ستة أقدام. انسحب المراهق المصاب بالحرج من المجتمع وبدأ في التركيز على صقل موهبته الفنية. أثناء فترة عزلته هذه، قام هوبر بتطوير الشكل التعبيري لفنه وسرعان ما بدأ في التحدث من خلال فنه أكثر مما كان يفعل عبر الكلمات. حتى عندما قام برسم المشاهد الأمريكية، أصرّ على أنه كان يحاول رسم نفسه فحسب. يقول: “لا أعتقد أنني حاولت في أي وقت أن أرسم المشهد الأمريكي، إنني أحاول أن أرسم نفسي”. في الحقيقة، إن الوحدة والعزلة اللتين لازمتا هوبر أثناء فترة مراهقته هما اللتان تشكلان وبشكل متكرر ومتزايد الخيوط المشتركة والمتقاسمة بين كثير من موضوعاته، الحية وغير الحية.

تاق مثل غالبية الفنانين الأمريكيين في ذلك الوقت إلى الدراسة في فرنسا. وبمساعدة من والديه سافر هوبر إلى فرنسا في أكتوبر من عام 1906. وكانت هذه لحظة مثيرة في تاريخ الحركة الفنية والأدبية الحديثة، لكن هوبر كان يزعم أن أثرها كان ضئيلا عليه: “من الذي التقيته هناك؟ لا أحد. سمعت عن “جيرترود شتاين”، لكنني لا أتذكر أنني قد سمعت عن بيكاسو على الإطلاق. اعتدت الذهاب إلى المقاهي ليلا والجلوس والمشاهدة. كنت أذهب إلى المسارح بشكل قليل. لم يكن لباريس تأثير كبير أو فوري عليّ”.

إلى جانب قضائه عدة أشهر في باريس، زار هوبر لندن، وأمستردام، وبرلين، وبروكسل. واللوحة الوحيدة التي يبدو أنها قد أبهرته كانت لوحة “الدورية” لرامبرانت. استطاع هوبر تكرار رحلته إلى أوروبا في عامي 1909 و1910. وفي الرحلة الثانية زار إسبانيا وباريس. لكنه ظل غير متأثر بالتجريب الفرنسي والإسباني في التكعيبية، فقد تأثر بشكل كبير بالواقعيين الأوروبيين الكبار مثل – دييجو فيلازكيز، وفرانشيسكو جويا، وإدوراد مانيه. لكن بخلاف الكثير من معاصريه الذين قلدوا التجارب التجريبية في الرسم التكعيبي، كان هوبر مفتونًا بالمثالية التي للفنانين الواقعيين. وتعكس أعماله المبكرة تأثير الواقعية عليه.

مثل الكثير من الفنانين ظل هوبر غير معروف حتى بلغ السابعة والثلاثين من عمره ولم يكن قد باع أي لوحة من لوحاته حتى هذه السن، ولم يكن اسمه يعني شيئًا للجمهور الأمريكي الذي تردد على معارضه الفردية أو المشتركة، وكان مضطرًا لكسب عيشه كرسام للإعلانات.

في عام 1923 جدد هوبر صداقته مع، “جوزفين نيفيسون”، التي كانت زميلة له في مدرسة الفنون. كانت جوزفين في ذلك الوقت في الأربعين من عمرها، وهوبر في الثانية والأربعين، وفي السنة التالية على تجديدهما للتعارف، تزوجا. كانت علاقتهما الطويلة والمعقدة من أكثر الأشياء أهمية في حياة الفنان. فجوزفين المخلصة بشدة لزوجها، شعرت بأنها مظلومة من جانبه في نقاط كثيرة، منها، عدم تشجيعه لها على تنمية وتطوير موهبتها كرسامة، وإنما على العكس كان يفعل الكثير لإعاقتها. وقد تشاجر الزوجان كثيرًا وبصورة وحشية، وفي بعض الأحيان كان شجارهما ينفجر في شكل عنف جسدي، في إحدى المرات، قامت جوزفين بعض يد هوبر حتى العظم. لكن، من ناحية أخرى، كان وجود جوزفين بالنسبة لهوبر شيء أساسي وضروري لعمله، وقد استعان بها في كثير من الأحيان كموديل للشخصيات الأنثوية التي قام برسمها، وقد اكتسبت خبرة كبيرة في أداء الأدوار المختلفة التي كان يطلبها.

تغير مصير حياة هوبر المهنية منذ زواجه. فمعرضه الثاني المنفرد، والذي أقيم في قاعة “رين” في نيويورك عام 1924، بيعت فيه لوحاته كلها دون استثناء. وفي السنة التالية، قام برسم لوحته الشهيرة “منزل بجوار السكة الحديد”.

قام هوبر برسم الفنادق والموتيلات والقطارات والطرق السريعة، وأيضًا أحب رسم الأماكن العامة وشبه العامة حيث يتجمع الناس: المطاعم، والمسارح، والسينمات، والمكاتب. لكن حتى في هذه الصور أكد على موضوع الوحدة الأثير لديه. وبينما توالت السنوات، وجد هوبر أن الموضوعات المناسبة التي يتناولها في لوحاته صعبة الاكتشاف بشكل متزايد، وكثيرًا ما كان يشعر بالعزوف عن الرسم وعدم القدرة على ممارسته له. وقد ترسّخ هذا عندما وجد أن الرابطة بين العالم الخارجي الذي لاحظه والعالم الداخلي، عالم المشاعر والخيال، قد انكسرت، ووجد نفسه غير قادر على الإبداع.

وعندما ذاعت الطريقة التعبيرية التجريدية في الرسم وتسيدت في تلك الفترة، وكان هوبر رافضًا لجوانب كثيرة فيها، وجد نفسه وقد تم إهماله فنيًا. وعلى الرغم من أن أعماله ظلت خارج الاتجاه التجريدي السائد في منتصف القرن العشرين، إلا أن أسلوبه البسيط كان أحد التأثيرات الأكثر نفوذًا على المصورين اللاحقين له وعلى حركة “البوب آرت”.

يتمتع هوبر بموهبة فذة في توظيف العناصر التقليدية في براعة وحرفية بالغتين، مثل الخط والشكل والإيقاع والوحدة، بغرض التواصل مع المشاهدين على المستوى العاطفي. استخدم هوبر الكثير من الطرز المعمارية في أعماله، وقد أمدت قوة الخطوط الأفقية والرأسية لوحاته بإيقاع خاص بها. وكان قادرًا، بصورة مثيرة للدهشة والتعجب، على إضفاء شخصية على مبانيه من خلال اختياره للألوان والبيئات المحيطة بها. ولوحته التي تحمل عنوان “منزل بجوار السكة الحديد” (1925)، تعتبر واحدة من أفضل الأمثلة على شيء غير حي يعبر عن العاطفة خير تعبير. فالوحدة وتقريبًا العزلة المخيفة التي عليها المنزل تم تحقيقهما من خلال التخلي عن، بدلا من إضافة، التفاصيل. فقد أزال جزءًا كبيرًا من المنزل الفعلي وأسقط البيئة المحيطة بكل ما فيها، باستثناء خطوط السكة الحديد، التي أضفت معنى التجاهل والوحدة وعمقته في اللوحة. ولتحسين أو ترقيه العاطفة الخاصة بالعمل، قام هوبر باستخدام الظلال لتغطية المدخل الأمامي للمنزل بالكامل تقريبًا، مضفيًا عليه وجودًا مشؤومًا ومظلمًا. كتب الشاعر “مارك ستراند” عن هذه اللوحة قائلا: “المنزل تشع منه رائحة الخاتمة… مثل النعش”. وبإمعان النظر أكثر، يبدو المنزل فعلا كمكان للموت أكثر منه مكانًا للعيش. وقد لاقت هذه اللوحة تقدير الكثير من المخرجين ورسامي الكاريكاتير على وجه الخصوص، وأصبحت لوحة هذا المنزل نموذج يحتذونه للمنازل في أعمالهم. وقد تم توظيف نسخ مختلفة من هذا المنزل في فيلم”العملاق” لجورج ستيفن، وفي فيلم “سايكو” لألفريد هيتشكوك، وفي كاريكاتير “عائلة آدامز” لتشارلز آدامز.

عمل آخر من أعماله القوية يحمل عنوان “حجرة في نيويورك” (1932). ويظهر لنا العمل زوج وزوجة من خلال نافذة كبيرة، إضافة إلى جزء من المبنى يظهر في أسفل اللوحة والجزء الأيسر منها. الرجل مستغرق في قراءة جريدته، بينما المرأة تلعب بسبابتها اليمنى بشكل عرضي لاه على البيانو. وعلى الرغم من أنها تعزف على البيانو، إلا أن اتجاه الجزء الأسفل من جسدها، وكذلك، انتباهها يبدو موجهين نحو الرجل. اللون الدافئ الذي استخدمه هوبر لثوبها يزيد الوهم بأنها شخصية لطيفة محبة تتوق لعاطفته أو انتباهه، بينما هو بألوانه الغامقة التي يرتديها، يبدو غير متجاوب. يخلق هذا الوضع لدى المتلقي إحساسًا بنوع من التجاهل أو الصمت المطبق، ولا يخترق ذلك الصمت إلا صوت القطعة أو المعزوفة التي يبدو أنها تعزف بحزن وفي غير اهتمام على البيانو من جانب المرأة. وبالإضافة إلى العزلة والحزن اللذين يبرزهما العمل نرى جزءًا من حجارة المبنى بلون رمادي غامق وأسود يظهر في الخارج يقيدهما أو يحبسهما معًا داخل الحجرة الصغيرة. وعلى الرغم من أن اللوحة تؤكد على عزلتهما، إلا أن الفنان والجمهور يشعران بأن ثمة نموذج مثالي من الانسجام والاتحاد في العمل من حيث التركيب والتقنية. يفضل هوبر استخدام المربعات والمستطيلات والإطارات بصفة عامة ليس فقط من أجل جعل الموقف دراميًا، وربط تلك الأطر بالعزلة، وإنما أيضًا لجعل الشخصيات في اللوحة أو المشهد أكثر قربًا بالنسبة للمشاهد، وهذا أيضًا من السمات المميزة جدًا التي نجدها على سبيل المثال في سينما المخرج الإيطالي “مايكل أنجلو أنطونيوني” أو الفرنسي “روبير بريسون”.

من أكثر الأعمال التي ساهمت في التعريف بهوبر وذيوع شهرته هو لوحته المعنونة بـ “السهارى” (1942). ونرى فيها زبائن مقهى – ثلاثة على وجه التحديد رجلين وامرأة – في وسط المدينة يعمل طوال الليل. والمقهى تضيئه أضواء كهربائية قاسية شديدة مقارنة بالليل الرقيق الناعم في الخارج، والمكان نراه عبر نافذة زجاجية كبيرة جدًا في ناصية شارع خال تمامًا، ومن دون أدنى إشارة أو تلميح إلى حياة أو حركة خارج المقهى. ويبدو من اللوحة أن الثلاثة قد لجئوا إلى أمان المأوى المنار ببهاء من التعذيب أو التمزق الذي يجلبه الليل بظلامه ووحدته. والسبب في انجذاب الناس إلى هذا العمل هو التفسيرات الممكنة التي يتيحها، فالناس يستمتعون بالتفكير والتخمين في قصة كل زبون من الزبائن على حدة، بالإضافة إلى الجرسون. إن القدرة التي يتمتع بها هوبر على سرد قصة أو حكاية كاملة من خلال لوحته وخلق انفعال أو عاطفة عبر لوحة بسيطة يجعله يحظى بالتقدير والإعجاب. يبدو أن الزبائن في حالة من الصمت الغريب، كل منهم في انتظار وقته الخاص للعودة إلى البيت أثناء جلوسهم إلى البار، فهم منشغلون بالقليل من المحادثات، هذا إن كانت هناك من الأساس. وكل زبون يبدو أنه يحاول الهرب من الألم الذي يسببه الليل بوحدته وحزنه. ومرة ثانية، يقدم هوبر وحدته الخاصة وعزلته موظفًا المباني والمنشآت والألوان الغامقة في الخارج لترسيخ الحالة المزاجية الكئيبة والموحشة للعمل. قال هوبر عن هذه اللوحة: “لم أراها علامة على الوحدة بصفة خاصة… ربما، بلا وعي تقريبًا من جانبي، كنت أرسم وحدة المدينة الكبيرة”.

جدير بالذكر أن هذه اللوحة قد أوحت للمخرج الألماني “فيم فيندرز” بمحاكاتها في فيمله “نهاية العنف”، كما أكد فيندز على فضل الكثير من لوحات هوبر في إلهمامه بأماكن ومواقع التصوير وغيرها من التميات الخاصة بالنوافذ والأبواب والمدن الخالية وحالات الصمت والاغتراب التي يرجع الفضل فيها إلى لوحات هوبر.

والتحدث عن الجوانب الاغترابية والقاتمة وعن الصمت والوحدة في لوحات هوبر لا يعني على الإطلاق إن أعماله لا تتوفر على ما هو مشرق، على العكس فهوبر يتمتع بقدرة مدهشة على إنتاج المشهد الطبيعي الخاص بضوء الشمس في أوقات متفاوتة وأيضًا على التلاعب به كما يشاء سواء كان يرصده من مكان مفتوح أو من داخل إحدى الحجرات. ويؤكد هذا إبداع هوبر للكثير من الأعمال التي احتفت بالضوء وتأثيراته على موضوعاته وشخصياته المرسومة. كما أن للضوء بصفة عامة وضوء الشمس بصفة خاصة استخدام خاص من أجل خلق الخطوط والأشكال التي تساعد في تأسيس الإيقاع في لوحاته. وقد تسببت هذه التعلق بالشمس في إنتاج مجموعة من القطع الفنية مثل “شمس الصباح” (1952)، و”امرأة في الشمس” (1961)، و”الشمس في حجرة فارغة” (1963)، وتبدو كلها صورًا طبيعية للأنماط التي يخلقها ضوء الشمس في الصباح. لكن على الرغم من هذه الاحتفاءات بالشمس، إلا أنها تظل محتفظة بالقاسم المشترك فيما بينها، ألا وهو الوحدة والعزلة. وسواء قام هوبر برسم منزل بجوار السكة الحديد، أو زوج في حجرة، أو حتى حجرة ممتلئة بضوء الشمس، فإنه قادر على إبداع صور بسيطة ظاهريًا، لكنها عميقة وموحية وذات دلالات خفية مضمرة.

وهوبر الذي يرسم بشكل متكرر شوارع مهجورة، وبيوت فارغة، وقطارات غير متحركة، وأجزاء غير مسكونة في المدن والبلدات، ومصانع لا تعمل، ينفي الألفة والعادية عما هو مألوف وعادي عن طريق، من بين أشياء أخرى، مطالبتنا بملاحظة السمات الأكثر عادية في مجتمع ما في وقت أو وضع نادرًا ما نلاحظ معه هذه العادية، ولذا تصبح غير مألوفة، كما لو أنها أصبحت أيضًا هادئة بشكل غريب. كما أن السكون، الذي يرجع بشكل واسع إلى التأكيد على ضخامة واستقرار المباني، يعمل على تعزيز الصمت وتكثيف حالة السكون. إن التوليفة أو التركيبة التي يرسمها، والمكونة من الترتيب والإضاءة والسكون والتجريد، نادرًا ما توجد في الحياة هكذا، رغم محاكاة اللوحات للحياة.

وهناك طريقة مذهلة يجيد هوبر استخدامها، وهي استخدام منظور للرصد، من جانب المشاهد، غير بشري في العادة. بمعنى، أن الأماكن التي تتم منها مشاهدة أو رصد عدد من الأوضاع أو الأماكن لا يمكن أن تكون في العادة مشغولة بأناس حقيقيين، فمشاهدو بعض لوحات هوبر، وبخاصة تلك اللوحات الخاصة بالأماكن الداخلية، يجدون أنفسهم موجودين في مكان غير مريح وغير عادي للنظر منه إلى موضوع اللوحة. في واحدة من هذه اللوحات يشعر المشاهد بأنه معلق في الخارج على مسافة عدة أقدام من نافذة شقة علوية، ليلمح مؤخرة مخفية بشكل جزئي لسيدة ساهية أو غير منتبهة له، وفي لوحة أخرى يقوم المشاهد بعمل تحليق فوق شارع لكي ينظر بحدة شبه عمودية نحو الأرض إلى مربية تدفع عربة طفل أمامها، وفي لوحة ثالثة، يتموضع المشاهد أو يتمركز قرب سقف مقر مكتب إداري ذو جدارن عالية في الليل، ليحدق في الرجل الجالس إلى مكتبه وسكرتيرته الواقفة. وقد لوحظ تلصص هوبر الظاهر بشكل متكرر من جانب نقاده. إن هوبر يتطفل حقًا على الحياة السرية للناس الآخرين، وحتى في بعض الأحيان على الحياة السرية للمباني والحجرات الخاوية.

لوحات عديدة لهوبر، بما هي عليه من صمت وسكون، توحي بأوضاع درامية. والدراما بشكل جزئي تشكل جانبًا من الغزارة المعهودة غالبًا في أعماله، ويتم تحقيق هذا الجانب من خلال التناقضات اللونية الحادة، والضوء المتألق أو الظلام التام، ومن خلال زوايا للرؤية مدهشة، ومن خلال الإبراز المفاجئ وغير المتوقع، والهندسة المقحمة. إن المباشرة والوضوح يجعلان بالتأكيد أعمال هوبر تبدو كأنها أعمالا سهلة، لكنهما يسهمان في دقتها المحيرة وغموضها. يجعلنا هوبر محبين للاستطلاع، وينشأ حب الاستطلاع من التوتر الدرامي والقلق الدرامي (ما الذي يحدث؟ ما الذي حدث الآن؟ ما الذي سيحدث بعد ذلك؟ ما الذي أراه؟).

وقد عرف هوبر بازدرائه للفن التجريدي، يستطيع المرء تخمين المأخذ الكبير الذي أخذه هوبر على الفن التجريدي (يسميه “فن الزينة”)، حيث أن الغموض الذي يخيم على تلك الأعمال هو أول ما يصادف المشاهد. بالتأكيد في الفن التجريدي يجد المشاهد نفسه في خضم اللغز ويصارع ويجاهد من أجل تحقيق الوضوح واستجلاء المعنى. لكنه، في شغل هوبر، يطالع شكلا واضحًا، وهذا الوضوح يؤدي على الفور إلى ارتباك مكاني وزماني للمشاهد. ومن هذه النقطة يقوده هوبر إلى الشكوك الأخرى: ما هو المقصود، ما المغزى؟

في بعض الأحيان يشبّه هوبر، الذي أحب السينما كثيرًا، أعماله بالإطار الواحد للفيلم السينمائي، الكادر بلغة السينما، وخصوصًا إطار أزيل عن طريق المونتاج من تسلسل من عدة مشاهد جرى التقاطها بواسطة كاميرا متحركة. على سبيل المثال العديد من أعماله، مثل “جسر مانهاتن” و”شقق ليلية”، نجد في مقدمتها أن الجزء العلوي من سور الجسر يمتد بشكل أفقي من إحدى الحواف إلى الأخرى. ومن الشائع عند هوبر توظيف أوضاع أفقية صارمة، مثل حاجز، قضبان سكة حديد، أو سور، عند أو قرب قاعدة لوحاته. وهذه الخطوط يقطعها إطار اللوحة ظاهريًا، لكنها على  صعيد الخيال ممتدة إلى ما لا نهاية. والمشاهد التي تظهر فيها تلك الخطوط تبدو مستأصلة بشكل تعسفي من فيلم سينمائي تم تصويره بكاميرا متحركة في اتجاه أفقي. وفي الغالب التحرك الرأسي للكاميرا المتخيلة يكون أقل في لوحاته، كما في “بيت في الغسق”، والتي نرى فيها فقط الطوابق العليا من مبنى سكني.

وهكذا فإن تقنيات الإطار غير التقليدية التي نجدها عند هوبر، جنبًا إلى جنب مع تركيزه ووضوحه، تحيّرنا وتربكنا. هذه التقنيات بدلاً من أن تخفي التزييف في الزمان والمكان، تبالغ فيه. والحقيقة أنها تستغل التناقضات المتأصلة في الفن البصري كله عن طريق إظهار أن البساطة يجب أن تكون معقدة، وأن الظاهر يجب أن يكون مخفيًا، وأن المنفصل يجب أن يكون متصلاً، والنشيط يجب أن يكون مكبوح الحركة.

في لوحة “الشمس في حجرة فارغة”، والتي ترجع إلى عام 1963، أكثر لوحات هوبر صمتًا وفراغًا. ثمة حجرة، ونافذة، وغابة، وضوء، وظل، ولاشيء غير ذلك. إن صمتها وخواءها يحققان تمامًا ما ألمح إليه أو توقعه هوبر في الكثير من أعماله – الإبادة الكاملة للحياة البشرية. بطريقة أخرى، إن لوحة “الشمس في حجرة فارغة”، هي اختزال هوبر إلى جوهره أو ماهيته، وليست تحقيقه لجوهره أو لماهيته. تخبرنا اللوحة بمعنى “الكينونة” بالنسبة للفنان. لو أن اتجاه مهنته وقصة كل لوحة من لوحاته عبارة عن عملية إقصاء متتال، فهاهي اللوحة التي لم يتبق شيء فيها سوى الضوء، والفضاء، والطبيعة. إنها تكشف عن، احتفاظ هوبر بالطبيعة، على الرغم من أنها مستبعدة تقريبًا من هذه اللوحة.

يقول الكاتب والمحلل الأمريكي “جي. إيه. وارد” في كتابه “أشكال الصمت الأمريكي”، عن لوحات هوبر الصامتة: “تنقل إحساسا بسكون غير طبيعي وهذا الصمت أكثر فعالية منه سلبية، لأنه يوحي بقليل من الهدوء، بينما لا تعدو أن تكون الضوضاء في أعمال هوبر تخفيفًا من حدة التوتر بدرجات محبذة”.

استمر هوبر في ممارسة الرسم حتى مرحلة متقدمة من عمره، مقسمًا وقته بين مدينتي نيويورك وماساتشوسيتس. وتوفي في الخامس عشر من مايو عام 1967، بشكل منعزل إن لم يكن منسيًا، في الاستديو الخاص به بالقرب من ميدان واشنطن، في نيويورك. وقامت زوجته، الرسامة جوزفين نيفيسون، التي ماتت بعده بعشرة أشهر، بتوريث أعماله إلى متحف “ويتني” للفن الأمريكي. والأعمال ذات الأهمية الكبيرة إلى “متحف الفن الحديث” في نيويورك و”معهد شيكاغو للفنون”.