محمد هاشم عبد السلام

 

السبت 3 يناير 2015

 

اقتبس المخرج اليوناني المخضرم بانتيلس فولجاريس فيلمه الأخير “إنجلترا الصغيرة” عن رواية صدرت بنفس العنوان عام 1997، وتصدّرت قائمة أفضل المبيعات، والرواية من تأليف الكاتبة اليونانية “إيوانا كريستياني”. وقد اشتركت “إيوانا كريستياني” مع فولجاريس في كتابة سيناريو الفيلم، الذي يبدو الطابع الأدبي طاغياً عليه، خصوصاً في جمله الحوارية المنطوقة على لسان الشخصيات.

وقد حاولت المؤلفة أن تصوّر عبر السيناريو معاناة المرأة اليونانية بكل ما تحمله كلمة معاناة من معنى، وذلك عبر سردها لأحداث قصة تدور حول العشق والعائلة والفقدان، لتهديها إلى زوجات رجال الملاحة البحرية الذين يتركون بيوتهم خلفهم، واللاتي ينتظرن رجالهن ربما لسنوات طويلة، يسعين خلالها للمحافظة على استمرار ترابط عالمهن الخالي من الآباء أو الأزواج أو الأشقاء أو الأبناء، الذين هم في عرض البحر. الأمر الذي يخلق واقعًا على الأرض تكون الغلبة والهيمنة فيه للسلطة الأمومية المتحكمة في كل شيء.

ويبدو أن النساء وقد استوعبن هذا الدور الذي فرضته الظروف الاجتماعية عليهن، كونهن مجرد وسيلة للجنس والحمل والإنجاب ثم تحمل المسئولية وتنشئة الأبناء، وكذلك الإخلاص والوفاء والانتظار، وأيضًا الصبر والتحمل في حالة الموت، إلا إن العجز إزاء تغيير هذا كله أو حتى التمرد عليه خلق لديهن بالطبع قدر من التسلط، وجعلهن أسيرات هذا الطابع المذموم، بل والأدهى أن يتحول كل هذا بجانب الإحباط والكبت إلى صور متعددة من الانتقام ضد أنفسهن في المقام الأول، وضد الأبناء والرجال بصفة خاصة.

تدور أحداث الفيلم الملحمي، الذي يمتد لنحو ساعتين ونصف الساعة، ويفتتح بمشهد بانورامي ساحر للبحر ويختتم به، خلال عقدي الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، بجزيرة “أندروس” اليونانية، وهي الجزيرة المُلقبة محلياً باسم “انجلترا الصغيرة” لقدرتها على منافسة صناعة الشحن البريطانية الضخمة، وتتميز الجزيرة بطابعها الخلاب الذي يمزج بين العصور الوسطى والكلاسيكية الجديدة.

والجزيرة في جوهرها متمحورة بالطبع حول البحر والحياة البحرية وروح البحر. ومنذ اللحظة الأولى ولعدة مرات يحلق بنا فولجاريس في لقطات علوية فوق الجزيرة ويسمعنا صوت الأمواج التي تلطم اليابسة والرياح العنيفة التي تهب مُنذرة بالأخطار المهددة لتلك اليابسة ذات الطبيعة البكر الشديدة الجمال والرومانسية.

وقد تركز الفيلم بالأساس، الحاصل على “الجائزة الكبرى” بالدورة الأخيرة لمهرجان “شنجهاي السينمائي” الدولي، والفائز بعدة جوائز في مهرجان “السينما اليونانية”، والمُحقق لأعلى المبيعات بشباك التذاكر المحلي، والذي مثل اليونان في المنافسة على جوائز الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، حول مثلث أنثوي الأضلاع، يرصد المخرج من خلال علاقاته عائلة تجسد إلى حد كبير مثيلاتها بالمجتمع اليوناني في تلك الفترة.

وتأتي على رأس هذا المثلث الأم “مينا” (أنيزا بابادوبلو) والشقيقتين سالتافيرو: “أورسا” (بينلوبي تسيليكا) ذات الشعر الأسود وهي في العشرين من عمرها مع بداية الفيلم، و”موسكا” (صوفيا كوكالي) ذات الشعر الأحمر، لا تزال في طور المراهقة. الشقيقتان اتحدتا وافترقتا بسبب حدث رهيب تمثل في حبهما لنفس القبطان البحري “سبيروس” (أندرياس كونستانتينو).

في البداية، كان حب “أورسا” و”سبيروس” سريًا لفترة، ولم يتجاوز في علاقته البريئة مجرد القبلات البريئة، وعندما بعث سبيروس ليطلب يدها من والدتها، رفضت الوالدة لتدني وضعه الاجتماعي والمالي، فرحل سبيروس واعدًا أورسا بالعودة للزواج منها بعدما يصير قبطانًا كبيرًا ويمتلك من المال ما يكفي. بعد ذلك، وبقرار صارم من الأم القاسية غير المؤمنة بالحب، والتي تدرك في ذاتها أنها تحقق بهذا مصلحة ابنتها ومصالح العائلة وتأمن مستواهم المادي، تتزوج أورسا من القبطان المرح اللطيف صاحب الثروة والمكانة “نيكوس” (مكسيموس موموريس). ومع اقتراب الفيلم من ثلثه الأول تعود أورسا من أثينا بعد الولادة لتكتشف أن والدتها قد اختارت لشقيقتها خطيبًا قبطانًا ذي ثروة ومكانة، وهو سبيروس الذي عاد بالفعل، لتصبح موسكا الوحيدة التي لا تعلم شيئًا عن علاقة الحب، بالإضافة بالطبع إلى نيكوس زوج أورسا.

تمضي الأمور، وتُفتن موسكا بسبيروس وسرعان ما يتزوجا. ولجعل الأمور أكثر إيلامًا، وبناء على طلب الأم ليجتمع شمل العائلة، يكون المهر بيتًا يضم الجميع، وبالفعل تعيش أورسا وأولادها بالطابق السفلي والعروس موسكا وسبيروس بالطابق العلوي، لتتعذب أورسا كل يوم بسماع كل خطوة وهمسة تند عن شقيقتها وحبيبها، فيزداد تمزقها وكراهيتها للبيت ولأمها ولكل من حولها. لكنها، مع ذلك، تسيطر على نفسها وتكبح جماح مشاعرها ولا تسمح لها أبدًا بالانفجار.

وقد أجاد فولجاريس وطاقمه ومونتيره في رصد تلك التقلبات النفسية التي تصاعدت فيها حدة المشاعر أو خفتت مع إيقاع الحياة ومرور الزمن والانشغال أكثر بالحياة الأسرية، ثم فترة الحرب ومن غاب ومن عاد ومن فُقد، حتى تنفجر الأمور مع فقدان وغرق “إنجلترا الصغيرة” سفينة سبيروس، والتيقن التام من وفاته. فتنقلب الأمور رأسًا على عقب، إذ لا تستطيع أورسا، بعد كل تلك السنين، أن تكبح جماح مشاعرها لأكثر من هذا فتصرخ بعد ضحكة هستيرية تشنجية “حبيبي… سبيروس حبيبي!” وإذ بشقيقتها تعلم السر، فينشب بينهن عراك دام، تمرض على أثره أورسا، التي تلزم بيت زوجها القديم ولا تخرج منه ولا ترى والدتها ولا شقيقتها لثلاث سنوات. الأمر الذي يضطر زوجها لاصطحاب أولادهما والهجرة لأمريكا، على أمل أن تلحق بهما. ومع تفاقم حالتها المرضية، تتقرب منها شقيقتها موسكا، وتتصارحان بحبهما للفقيد، دون أن تطلب إحداهن من الأخرى أن تسامحها وتغفر لها، فثمة حاجز نفسي منيع قد انتصب يحول دون التقاء الشقيقتان إلى الأبد. ولولا مرض أورسا الخطير، الذي سرعان ما يجعلها تُسلم الروح، لما اجتمعتا جسدياً.

القصة مبنية هنا على الخيارات الفعلية للأفراد التي تربطهم وتقرر مصيرهم إلى الأبد، على الرغم من أنهم يعرفون أنهم على خطأ باتخاذهم أو رضوخهم لتلك الخيارات منذ البداية. ومن هنا نجد أن ثمة مسحة خفية من القدرية والاستسلام تجاه عاطفة القهر المُسيطرة تسود الشخصيات النسائية. والفيلم، من بين أمور كثيرة يمسها، يطرح على نحو غير مباشرة مأساة الفشل الفردي والألم النفسي وتبعات كل هذا على الأشخاص الذين لم يتجرأوا على مواجهة ظروفهم وقوانين مجتمعهم التي تقهرهم وتتحكم فيهم.

وقد قصد المخرج، في تخل تام عن الأشكال الحداثية أو حتى ما بعد الحداثية في السرد السينمائي، أن يأتي الفيلم على نحو شديد الكلاسيكية من كافة النواحي في تناوله لتلك الدراما التقليدية، بما في ذلك الإخراج وزوايا الكاميرا وأحجام وطول اللقطات، التي تميزت عن بعضها البعض بمجموعة من الألوان الرائعة وإن غلب عليها اللونين الأزرق والبنفسجي، وترك اليد العليا للدراما لتجعل الكاميرا تتنقل لترصد الأحداث الواقعية سواء بالخارج في المشاهد المفتوحة أو بالداخل حيث الحجرات المغلقة.

ونجح المونتاج التقليدي السريع في نقل تلك المتوالية على نحو طبيعي غير مُربك، ترك الجمهور ينغمس في الفيلم ويتوحد مع الشخصيات المقدمة على الشاشة، والتي جاء أداؤها التمثيلي على قدر كبير من المسرحية البالغة، ومع ذلك فيلم يكن الأداء منفرًا، ربما لأن الثلاثي الذي اضطلع بأداء الأدوار النسائية على وجه الخصوص كان متميزًا ويعتبر دون شك أحد أبرز نقاط القوة بالفيلم، لا سيما من جانب البطلتين “بينلوبي تسيليكا” و”صوفيا كوكالي” اللتين قامتا بدور “أورسا” و”موسكا”.

وبالطبع كان بإمكان المخرج فولجارس أن يستغل ذلك العداء العاطفي العنيف والتقلب النفسي الحادث بين الشقيقتين كي ينسج عليه ويمدده ويعمقه إلى أقصى حد ممكن، لكنه لم يفعل. لكنه نجح على أية حال، من خلال اهتمامه بكافة التفاصيل الصغيرة بالفيلم، في أن يجعلنا على امتداد ساعتين ونصف نعيش أجواء الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، ونتحمل ذلك طوال الفيلم جنبًا إلى جنب مع الدراما التقليدية المقدمة، دون أي إحساس بالملل، وإن كان ممكنًا بالطبع أن يخرج الفيلم أقصر من هذا زمنياً.

ولد بانتيلس ڤولجاريس عام 1940. درس في مدرسة “ستاڤراكو” للسينما. عمل بعدها كمساعد مخرج ثم قام بأخرج أول أفلامه القصيرة فى عام 1965. وهو يعد واحدًا من أهم مخرجي اليونان بين أبناء جيله. أخرج فولجاريس العديد من الأفلام التسجيلية للتليفزيون اليونانى وأيضا أخرج فيلمًا تسجيليًا عن الشاعر “يانيس ريتسوس” للتليفزيون الألماني، كما أخرج أيضا للمسرح.

في عام 1972 أخرج فيلمه الروائي الأول “خطوبة أنا” والذي حصل عنه على جائزة النقاد وشهادة تقدير في مهرجان “برلين” عام 1974. وفي عام 1973 أمضى 6 أشهر في المنفى أثناء حكم المجلس العسكري لليونان. ثم أخرج فيلم “أغاني الحب الكبرى” وهو فيلم تسجيلي مأخوذ عن مؤلفات الموسيقار ومُنظر الموسيقا اليوناني “مانوس هاتزيداكيس”. وفي عام 1977 أخرج فيلمه الرمزي السياسي المثير للجدل “يوم سعيد” وفي عام 1980، أخرج فيلمًا مأخوذًا عن حياة الزعيم السياسي اليوناني “إيلفتيريوس فينزيلوس”.

أما فيلمه “السنوات الحجرية” الذي أخرجه عام 1985، فمأخوذ عن قصة واقعية، ويحتوي على دراما شعورية قوية في أوقات مضطربة سياسيًا، وقد حصل عنه على جائزة أحسن ممثلة فى مهرجان “فينيسيا” وحقق نجاحًا تجاريًا كبيرًا. وقد حصل عن فيلمه “أيام هادئة فى أغسطس” عام 1992 على شهادة تقدير من مهرجان “برلين”. وفي عام 2004 حصل فيلمه “عرائس” على جائزة أحسن فيلم يوناني في مهرجان “سالونيكي“.