محمد هاشم عبد السلام

 

عن الأحداث الدامية التي تشهدها سوريا، جاء أحدث أفلام المخرج البلجيكي “فيليب فان ليو”، والذي حمل عنوان “إنسريتيد” (INSYRIATED)، الذي فاز بجائزة الجمهور عند عرضه بمهرجان برلين هذا العام في قسم البانوراما. والعنوان الذي اختاره المخرج هنا لا يُفصِحُ للوهلة الأولى عن أي دلالة خلفه، لكن بعد مشاهدة الفيلم يمكن الاستنتاج أنه قد يكون نوعًا من المزج بين الكلمتين “سوريا” و”محشور”. وربما هذا الأقرب، نظرًا لأن عنوان الفيلم بالألمانية هو “حياة بالداخل”، أي أن المقصود هو الحياة المحصورة أو المحشورة أو العالقة داخل حيز أو مكان ما ضيق.

من بين الأسئلة الكثيرة التي يثيرها فيلم “إنسريتيد”، بعيدًا عن محتواه الفني والجمالي، ذلك المتعلق بسبب أو أسباب فشلنا الدائم في التعريف بمآسينا أو مناقبنا، عندما يتطلب الأمر ذلك. وكيف أنه دائمًا ما يأتي التعريف بنا وبمشاكلنا بصفة خاصة أو إلقاء الضوء عليها أو حتى التعريف بحضارتنا وتراثنا وتاريخنا والغوص فيها وفك رموزها إلى آخره، دائمًا ما يأتي ذلك، في أفضل وأدق وأتقن صوره، على يد الغير، وليس على يد من يبزغ من بيننا. وفيما يتعلق بمصدر قوة وفنية فيلم “إنسريتيد”، الذي يُعتبر من أفضل وأهم وأقوى الأفلام التي تناولت الأزمة السورية منذ اندلاعها، على الأقل فيما يخص السينما الروائية، فالسبب ليس راجعًا بالتأكيد إلى قضية التمويل الجيد أو غير الجيد أو انحياز أو عدم انحياز المخرج، الأمر ليس كذلك بالمرة.

فيما يتعلق بفيلم “إنسريتيد” هناك سيناريو مكتوب بدقة وحرفية عالية على يد السيناريست ومخرج الفيلم “فيليب فان ليو”، وهو ليس مخرجًا في الأصل ولكنه أتى للإخراج من مهنة التصوير السينمائي، وإلى جانب السيناريو المتميز والإخراج الرائع، ثمة رؤية جد مُقنعة ومُستوعبة للأوضاع بسوريا، ولمدى صعوبتها وتداخلها وتشابكها على نحو يندر توفره لأعين تطل على المنطقة من الخارج. وربما لأن عيني فليب ليو تطل، بالأساس، من الخارج، وليست محسوبة على أي طرف من الأطراف المشتبكة أو المتورطة في الحرب، ولفرط ابتعاده عن أي انحياز، باستثناء انحيازه الآدمي والإنساني وتعاطفه مع ما يحدث هناك، فقد غاص فيلمه بصدق فيما تحت الجلد، وكشف لنا، دون أي ادعاء أو تهويل أو تضخيم أو الوقوع في فخ صنع فيلم سياسي فج، عمق وفداحة ما حدث ويحدث بسوريا، وأثره النفسي المُدمِّر للإنسان، حتى وإن لم نر على الشاشة أي أثر لطلقات رصاص أو مدافع أو اشتباكات أو قتلى وجرحى.

والأدهى، أن كاميرا فيليب ليو لم تخرج قط طول الفيلم، الذي امتد زمن عرضه لما يقترب من التسعين دقيقة، إلى خارج الشقة التي تدور فيها أحداث الفيلم منذ الصباح الباكر وحتى ما يقرب من منتصف الليل، وذلك ربما باستثناء مشهد ليلي يتيم، مُصوّر في الظلام الدامس، ولم يستمر لأكثر من دقيقة تقريبًا. ومن ثم، فقد استطاع فليب ليو، باقتدار واحتراف فني، من أن يحصرنا طوال تلك المدة داخل مساحة محدودة زمنيًا ومكانيًا، لكنها أيضًا مفتوحة على تساؤلات رحبة ومتنوعة وعصية على الإجابة، بقدر ما شاهدنا على الشاشة من شخصيات، سواء كانت رئيسية أو ثانوية. وذلك، مع الأخذ في الاعتبار بالطبع أن فيليب ليو، ليس أول ولا آخر من يخرج فيلمًا، وقد بناه كلية من الألف للياء، ضمن ذلك الإطار المحصور والضيق لشقة سكنية أو لمكان مُحدد بعينه تدور فيه الأحداث.

وبالطبع يُحسب لفيليب ليو، من ضمن الفنيات الكثيرة بالفيلم، أنه لم يسقط بالمرة في الفخ الأهم، والذي عادة ما يفرضه هذا النوع من الأفلام التي تختار مسرحًا مغلقًا بذاته لتدور فيه الأحداث، ألا وهو فخ المسرحة، أي، أن يتحول الفيلم في النهاية إلى مجرد مسرحية مُصورة سينمائيًا، فقط مجموعة من الأشخاص تتبادل فيما بينها مجموعة من الحوارات، بصرف النظر عن عمقها أو جديتها من عدمه. وقد تطلب هذا بالطبع، من ضمن أمور أخرى كثيرة، الانتباه كلية أثناء كتابة حوار الفيلم، ولكيفية وضع كل جملة من الجمل على لسان كل شخصية.

بإحدى البنايات الموجودة بحي حلبي، حيث تعمد الفيلم عدم الإشارة لمكان بعينه، وبطابق منخفض من تلك البناية، تسكن عائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، يبدو أنها الوحيدة التي ظلت بالبناية، التي خلت من كل سكانها، طوعًا أو كرهًا. يتمترس بالشقة، خلفة الباب السميك المُدعّم بالحواجز والمصاريع، “أم يزن” (هيام عباس)، وابنتها “يارا” (إليسار كاغادو)، وشقيقتها “عاليا” (نينار حلبي)، وصبيها “يزن” (محمد جهاد)، ووالد زوجها “أبو منذر” (محسن عباس)، والخادمة الآسيوية “دلهاني” (جوليت نافيز). وإلى جانب تلك الأسرة، نجد جيرانهم الذين تركتوا شقتهم بالطابق العلوي، بعدما طالها القصف، ويعيشون ويختبئون عندهم بصفة مؤقتة، وهم عبارة عن أسرة صغيرة مكونة من “حليمة” (ديامان أبو عبود)، وزوجها “سليم” (مصطفى الكار)، ومولودهما. كذلك، تواجد هناك بمحض الصدفة أحد الأقرباء، وهو الشاب “كريم” (إلياس خاطر)، الذي عجز عن مفارقة الشقة بسبب إطلاق النيران بالخارج، والذي يهيم حبًا بالفتاة يارا.

نرى مع بداية الفيلم، ما يبدو أنه أحد الأيام الطبيعية في حياة تلك الأسرة، وذلك منذ الصباح الباكر حيث الاستعدادات للاغتسال وبداية اليوم، وكيف أمست حياة السكان داخل تلك المنازل أو الشقق عبارة عن حياة تشبه تلك التي بداخل السجون، وكيف أنه في أوقات الحروب تتحول أبسط مفردات الحياة إلى جحيم، ومن بينها على سبيل المثال، شح المياه، وصعوبة الحصول على مياه نظيفة تكفي الأسرة لمجرد استخداماتها الآدمية. ومن خلال حوار بسيط ندرك أن “سليم”، بسبيله للخروج من المنزل لإنهاء بعض الإجراءات المتعلقة بهروبه وزوجته وطفلهما من سوريا عبر بيروت. ومع خروج سليم من المنزل تبدأ أحداث الفيلم في التأزم، إذ تشاهد الخادمة دلهاني بمحض الصدفة، سليم، بعدما سقط على الأرض بفناء البناية، عقب اصطياد أحد أفراد القناصة له من مكان مجهول.

ربة البيت، القوية المُتحكمة، الآمرة الناهية فيما يتعلق بكل شيء، والتي تتحمل العبء الثقيل، المتمثل في الحفاظ على حياة أفراد الأسرة، بمفردها، “أم يزن” – الممثلة الرائعة هيام عباس، في أحد أفضل أدوارها –  تأمر الخادمة بإخفاء الأمر عن الزوجة. في البداية لتشككها، ثم لتطور الأحداث مع محاولة مجموعة من أفراد النظام أو غيرهم الهجوم على المنزل، ومعرفة من فيه والقبض على الرجال إن وجدوا، وبالمصادفة تكون “حليمة”، في سبيلها لغرفة طفلها لحمايته، عندما يدخل المعتدون المنزل من شرفته، بعدما عجزوا عن دخوله عبر الباب، وبوقوعها في يدهم، تنال حليمة كل صنوف العذاب، وينتهي الأمر باغتصابها، دون أن تبدر منها ولو إشارة استغاثة أو استنجاد بمن بالمنزل أو الإتيان بأي بادرة تنم عن أن ثمة أفراد غيرها بالمنزل، وبعد انصرافهم، يدرك الجميع مدى فداحة ما نالته حلمية من أجل الحفاظ عليهم.

وهنا، تحاول أم يزن التحلي بكل أنواع الإنسانية والتعاطف، بينما ينهشها الشعور بالذنب وتأنيب الضمير لعدم القيام بأي شيء من شأنه إنقاذ حليمة. وفي الوقت نفسه لا تجد مفرًا من إبلاغها بحقيقة ما جرى لزوجها، وتحاول أن تبرر لحليمة، التي يزداد انهيارها وتصاب بهياج هيستيري، لماذا أخفت عنها الخبر طوال ساعات النهار، وكيف أنه لا بد من انتظار هبوط الليل حتى يستطيعون الاقتراب منه، ومعرفة إن كان لا يزال على قيد الحياة أم فارقها. وبالفعل يتسنى لهم بصعوبة إحضار جسد سليم، الذي لا يزال على قيد الحياة، إذ لم تصبه الرصاصة في مقتل. ومن ثم محاولة الاتصال بمجموعة من الرفاق المتعاونين مع زوج أم يزن، الذين يأتون في النهاية ليأخذونه للعلاج، في حين تظل الأسرة في محاولات مُضنية للاتصال بالأب وانتظار عودته للمنزل مع اشتداد القصف.

من بين الأسئلة الكثيرة التي يطرحها الفيلم عن حياة البشر اليومية، وتأثرها بكل ما يحدث هناك من انتهاكات نفسية، وغيرها من الأسئلة الأخلاقية والمنطقية والوجودية، تلك المتعلقة بالتضحية والإيثار أو الأنانية، كذلك الشجاعة أو الخوف أو الجبن وغيرها، وذلك من خلال تصرفات شخصية أم يزن الشديدة التركيب. ربما تبدو تلك المرأة، للوهلة الأولى، بكل حزمها وصرامتها، بالغة القسوة والعنف، لكن مع التمعن في تصرفاتها، ندرك أنه لولا تلك الصفات على وجه التحديد لربما ما استطاعت العائلة النجاة أو البقاء على قيد الحياة للحظة. وقد تبدى هذا على نحو جلي مع مشهد الاغتصاب الفارق في الفيلم، حيث السؤال الوجودي والأخلاقي المتعلق بمدى صواب إنقاذ حليمة من عدمه أو التضحية بها وتركها تغتصب، من أجل إنقاذ حياة الجميع. وبصرف النظر عن تقييم موقف أم يزن أو ما أقدمت عليه حليمة، فليس ثمة شك أن المرأة دائمًا، حديدية كانت مثل أم يزن أو مُرهفة مثل حليمة، هي من تدفع الثمن، في المِحَن والأزمات والحروب، ودائمًا ما يقع على عاتقها، في النهاية، العبء الأكبر.