محمد هاشم عبد السلام
20/7/2016
يعتبر فيلم “إنها فقط نهاية العالم” للمخرج الكندي المعروف كزافييه دولان، من أفضل أفلامه، وأكثرها نضجًا واكتمالا وعمقًا، على الرغم من أن الكثير من النقاد الذين شاهدوا الفيلم – الحائز على الجائزة الكبرى للجنة التحكيم بمهرجان كان هذا العام – يرون أنه ليس من أهم ولا أقوى أفلامه، بل ومنهم حتى من وصفه بأنه ليس فيلمًا، وسقطة في تاريخ الشاب الواعد في تاريخ الإخراج السينمائي العالمي المعاصر، وأنه مجرد فيلم مسرحي وقع تحت سطوة النص المسرحي المُقتبس عنه.
بداية، علينا الاعتراف بأن فيلم دولان الجديد تصعب مشاهدته بالفعل، وأنه يحتاج إلى صبر وانتظار، وقبل كل شيء، تفاعل بالأساس كي يقطف المشاهد في النهاية ثمار الساعة ونصف الساعة، التي يجلس فيها لمتابعة واحدة من أقوى المباريات الحوارية التي تدور في حيز ضيق، بين خمس شخصيات، حول موضوع شائك يمس الكثير من الأسر والمجتمعات بصفة عامة على مستوى العالم، ومن هنا جاءت صعوبة الفيلم لأنه بالأساس، مؤلم وموجع ومتشائم.
يتناول فيلم “إنها فقط نهاية العالم”، انعدام القدرة على التواصل على جميع المستويات، ففقدان التواصل بين أقرب الناس هو مربط الفرس الذي يلعب على أوتاره فيلم دولان، وقد نجح المخرج باقتدار في توصيل تلك الحالة، على الرغم من أن الجميع، منذ بداية الفيلم وحتى نهايته، لا ينقطعون بالمرة عن محاولة التواصل بالكلام. وهذا مع الأخذ في الاعتبار أن الفيلم بالأساس ينطلق من منطق لم شمل الأسرة أو إعادة الأواصر بين أفرادها، لكن حتى انتهاء الفيلم لم يتحقق هذا الغرض، وربما هنا يتضح معنى العنوان، فانعدام التواصل وصراخ كل شخص بمفرده في البرية دون محاولة للتقرب، يؤذن بالقطع بنهاية ما لعالم أصم لا يستمع فيه أي شخص للآخر، وربما يكون العكس هو المقصود، أن أحداث الفيلم تشير لضرورة البدء بمراجعة تلك الأسرة، والعالم برمته، لعلاقاته وطرق تعامله معًا على نحو مغاير مستقبلا.
لا يضيّع دولان الكثير من الوقت والجهد فيما لا طائل منه، فمن خلال لقطة افتتاحية سريعة على متن الطائرة مصحوبة بتعليق بطل الفيلم، نعلم أن أحداث تلك القصة تجري في مكان ما غير محدد وفي فترة زمنية غير معلومة أيضًا، وأن البطل عائد لأسرته بعد غياب طويل ليطلعها على خبر مهم يخصه.
على نفس هذا النهج يسير دولان طوال الفيلم، فهو على سبيل المثال، لم يخرج بالكاميرا خارج أرجاء المنزل بل وحجرات بعينها، سوى مرتين، وللضرورة القصوى، وحتى فيهما، كان التركيز أثناء تناول الطعام على الجالسين إلى المائدة فقط، دون البيئة أو حتى الأصوات المحيطة بهم. ونفس الأمر فيما يتعلق بأحد أقوى مشاهد الفيلم، ذلك الذي تدور أحداثه داخل السيارة بين البطل وشقيقه.
ومن بين السمة المميزة بل والبارزة للفيلم، على نحو جد ملحوظ، تلك اللقطات المقربة للغاية على وجوه الممثلين، والتي رصدت جميع قسماتهم وما نتج عنها من تقلصات أو انقباضات تنقل مشاعر بعينها أو انفعالات بذاتها. وكأن دولان لم يكتف بوابل الكلمات المنطلقة من أفواههم كالرصاص دون هوادة، والمُحمّلة في معظمها بفيض من الضيق والغضب والقلق والعصبية والتوتر، والتي صبّت كلها، في النهاية، في بوتقة مفادها أن تلك الأسرة المُجتمعة معًا تعاني من تفكك وانهيار هائل. وليس أدل على هذا أنه وسط كل تلك اللقطات المقربة، نادرًا ما كنا نرى لقطات أخرى واسعة تجمع أفراد العائلة معًا.
يعود الكاتب المسرحي الشاب، الذي حقق بعض الشهرة، والذي يعيش بعيدًا عن أسرته في إحدى المدن، “لويس” (جاسبار يوليل)، لأن لديه ما هو خطير يرغب في إطلاع أفراد أسرته عليه، بالطبع لم يكن من الصعوبة بمكان تخمين أن الأمر متعلق بمرض عضال يعاني منه، نقص المناعة المكتسبة أو الأيدز، وأنه على وشك الوفاة، وأن المشكلة بالنسبة له تكمن تحين اللحظة المناسبة لإخبارهم بالأمر.
تبدأ المشاحنات على الفور، منذ اللحظة الذي يخطو فيها إلى داخل المنزل، ولا تهدأ بالمرة سوى مع استعداده للخروج مع نهاية الفيلم، بقدومه نتعرف على والدته “مارتين” (نتالي باي)، التي دائمًا ما تثرثر وتبدو على قدر كبير من الخفة والتفاهة، لا يشغلها سوى زينتها وملابسها وقلاداتها، وأمور المطبخ وإعداد الطعام، والتي تُعرِبُ له عن حبها رغم أنه ليس ابنًا بارًا، على حد قولها. كذلك شقيقته “سوزان” (ليا سيدو)، العابسة، مدخة المخدرات الشرهة، والمُشتبكة دائمًا في ترهات مع والدتها، والتي يبدو أنها تعاني من مشاكل نفسية وصعوبات في حياتها الخاصة، وقد كانت صغيرة عندما غادرهم لويس، وهي تلومه على الغياب، وأنها لا تكاد تعرفه، وأنه اكتفى بإرسال بطاقات بريدية عادية في المناسبات كان بإمكان سعاة البريد قراءتها بسهولة.
أما “كاترين” (ماريون كوتيار)، فهي زوجة شقيقه التي تراه للمرة الأولى، يبدو عليها، من دون أن تشكو، كم المعاناة التي تلاقيها مع زوجها، وهي على قدر من الطيبة والحنية والهدوء، يبدو عليها الخجل واللعثمة، طوال الوقت لا تكاد تنهي جملة بأكلمها، لكنها من حركاتها ونبراتها وقسماتها عبرت بجدارة عن أنها الوحيدة التي أدركت بالفعل سر لويس، وأن الأمر له علاقة بوفاته، وهي الوحيدة، إلى جانب شقيقته، التي كان يبدو عليها التحرق شوقًا لرؤيته، وأبدت بعض الحرارة في الترحيب به.
في حين بدا التجاهل كل التجاهل من جانب شقيقه الأكبر “أنطوان” (فينسنت كاسل)، الذي رد له تجاهله بتجاهل مماثل، فكان دائمًا ما يتطلع خارج النافذة بلا مبالاة دون الاكتراث به أو بما يقوله، وهو، منذ البداية، يبدي رغبة شبة مُضمرة في مغادرة شقيقه بمنتهى السرعة، يتسم أنطوان بالفظاظة والعصبية، وهو دائم الصراخ في الجميع، وفي بعض الأحيان يأمر الكل بأن يلزموا الصمت التام. ومع ذلك يبدو رغم تصرفاته وسلوكه الذي لا يطاق، الوحيد الصادق بالفعل بين الجميع، فهو لا يُلقي بالا لما يقوله أو يفعله، فقط ينفجر بما في ذهنة في صراحة تامة تصل حد الوقاحة، دون مراعاة لأي شيء.
كل هذا برز وتطور على نحو سريع للغاية منذ الدقائق الأولى التأسيسية لاجتماع شمل تلك الأسرة الغريبة الأطوار، لدرجة تدفعك للتساؤل، ما الشرارة التي أطلقت كل هذا؟ أكان تحت الرماد وميض نار طوال تلك الفترة وكان قدوم لويس هو الرياح التي أوقدتها؟ وسرعان ما تتالى التساؤلات، هل أفراد هذه الأسرة يدركون بالفعل حقيقة مرض لويس، لكنهم لا يرغبون في سماع ذلك أو تصوره أو تصديقه، ويريدون بكل السبل الحيلولة دون سماعه؟ أم أنهم بالفعل ساهون عن هذا الأمر ويتعاملون بطبيعية وتلقائية؟
ومن ناحية أخرى، بعد غيابه عنهم لفترة طويلة تزيد عن عقد كامل، لم يكن بينهم سوى تبادل سطحي لبعض الجمل والعبارات المقتضبة المرسلة عبر البطاقات البريدية في الأعياد والمناسبات المختلفة، هل كان بالنسبة لهم ميتًا بالفعل؟ هل تحمل لويس تبعات تلك العلاقة السطحية التي راكمها عبر السنوات، أي أنه هو وحده المُلام؟ أم أن الأمر غير ذلك بالمرة، وهم من تجنبونه نظرًا لابتعاده ونجاحه وحياته الجنسية المغايرة، وغيرها من الأمور التي أزعجتهم؟
هل كان لويس أنانيًا بالفعل في زيارته لأسرته من أجل إشراكهم في محنته رغم مرور كل تلك السنوات، وأنه أخطأ في زيارته، وكان من الأفضل ألا يثقل عليهم ويلاقي مصيره بمفرده بعيدًا عنهم، كما اختار لحياته قبل سنوات؟ ولماذا يحوم الكل من حوله كأنهم يتجنبون سؤاله، في حين أنه يحاول بدوره استجماع شجاعته والتحلي بالقوة والجرأة اللازمتين من أجل إخبارهم بحقيقة محنته، والسر الذي جاء من أجل أن يطلعهم عليه. لماذا، على سبيل المثال، رغم بعض الشحوب وبوادر المرض البادية على وجه لويس، نجد والدته تخبره بأنه يبدو على نحو جيد وعلى خير ما يرام؟
ثمة بعض الغموض الكامن وراء نوبات الغضب والانتقادات اللاذعة والعدوانية واللوم من جانب الجميع تجاه بعضهم البعض، وبالرغم من هذا فثمة لحظات جد قليلة تستشعر فيها بشبه محاولات يائسة من أجل المُصالحة أو لم الشمل ورأب الصدع بين الجميع، لكن كلما حانت، تتفجر الأوضاع على نحو أسوأ من ذي قبل.
إن الكثير من الأسئلة التي تطرحها الشخصيات الخمس التي نراها على الشاشة، وتلك المواجهات الفردية والجانبية في بعض الأحيان فيما بينها، وهي بالمناسبة عصب الفيلم بالفعل، دائمًا ما يصل الأداء فيها إلى ذروته، مقارنة بأداء كل شخصية على حدة. وفي خضم كل هذا نستشعر بالفعل مدى عجز لويس عن الكلام والإفصاح عمّا بداخله، إنه فقط يحاول الإنصات والاستماع، ورسم الابتسامة على وجهه، وكبح جماح نفسه والحفاظ على رباطة جأشه أمام ما يحدث أمامه من مواقف ومشاحانات.
إن الأمر المثير فيما يتعلق بشخصيات فيلم “إنها فقط نهاية العالم”، أنه رغم كل هذه الحوارات والنقاشات والتجاذبات والمشاجرات والمواجهات العبثية بين الجميع، فقد أخفق الكل في التحدث أو التطرق مباشرة وفتح الموضوعات التي كان لا بد من التحدث فيها بمنتهى الوضوح والصراحة، من أجل حلها جميعًا ولملمة شمل الأسرة، لكن الجميع، وكأنه عن قصد وتواطؤ، تجنبوا الحديث عمّا هو مسكوت عنه.
في هذا الفيلم ثمة مخرج قدير، ببراعة ونضج وانضباط أدار طاقم التمثيل، ونجح في الوصول بكل تلك الشخصيات إلى صنع فيلم غير نمطي بالمرة يصهرها معًا.
ليس بالفيلم أي ادعاء أو افتعال، ولا الكثير من المط أو الإطالة أو الانشغال بما هو زائد، سواء على مستوى الحوارات أو رسم الشخصيات أو البيئة المحيطة أو حتى زمن الفيلم، وبالوصول بالدراما إلى ذروتها، دون الجنوح إلى الميلودرامية، وقد ساعد في وصول الفيلم لتلك الحالة المتناغمة، الاستعانة بحركات الكاميرا السريعة التي تلاحق جميع الشخصيات بمختلف الزوايا، القريبة والمفرطة القرب، وهذا الجهد يحسب للمصور “أندريه توربان” الذي اشترك مع دولان من قبل في فيلمي “مامي” و”توم في المرزعة”.