محمد هاشم عبد السلام
22/1/2015
من يعرف أن النزعة الاستهلاكية والشيوعية قد سارتا ذات يوم جنبًا إلى جنب ويديهما معقودتين معًا؟ وذلك، دون وجود لأي تناقض يذكر بين النزعة الاستهلاكية ابنة الاقتصاد المفتوح والسوق الحر، والشيوعية ذات الاقتصاد الموجّه والسوق المغلق والنهج التقشفي الصارم. وهذا ما يثبته لنا الفيلم الإستوني الفنلندي الإنتاج “الأيدي الذهبية” من إخراج “كيور أرما” و”هاردي فولمر”، على مدى أربعة وسبعين دقيقة هي زمن هذا الفيلم المشوق والممتع في نفس الوقت، رغم تمحوّره كلية حول الإعلانات التجارية.
يتناول فيلم “الأيدي الذهبية” نشأة وتألق ثم انهيار الإمبراطورية الصناعية لاستوديوهات السينما الشهيرة بالاتحاد السوفيتي السابق “إستي ريكلام فيلم”. وهي الشركة الوحيدة لإنتاج الإعلانات في الاتحاد السوفيتي، والتي كانت توفر العمل لمئات الأفراد من العاملين في هذا المجال غير المطروق آنذاك. والغريب في الأمر أن هذه المؤسسة الاشتراكية التي عملت في ظل قوانين الاقتصاد الموجه، استطاعت أن تُحقق أرباحًا أسطورية ونجاحًا باهرًا على امتداد سنوات عملها، بالرغم من أن مجرد كلمة “إعلان” كانت لها دلالة لدى آلاف الموظفين الرسميين في الدولة، وحتى المواطنين، تماثل مفردات مخيفة وغير مرغوبة مثل “المخابرات الأمريكية” أو “كوكا كولا”. وكان على رأس تلك الإمبراطورية ومؤسسها وقائد نجاحها المخرج السينمائي والمنتج والمدير الإستوني الناجح “بيدو أويما”.
كانت فكرة ذلك الاستوديو من بنات أفكار “بيدو أويما”، الذي ظهرت عنده روح المبادرة في سن مبكرة عندما بحث عن الأجزاء المهملة من نيجاتيف فيلم “طرزان” ثم قام بطباعتها وبيعها على هيئة صور فوتوغرافية لأصدقائه بالمدرسة. ثم سرعان ما عمل بيدو كمراسل لصحيفة “إيفننيج بوست”، ثم بعد ذلك كصحفي يقوم بتغطية الأفلام من داخل الاستوديوهات أثناء صناعتها.
وبعدما انتهى بيدو من دراسة السينما، راح يُنفِّذ بعض الأفلام القصيرة التجريبية له ولأصدقائه بنفقات جد محدودة، اقتدى فيها بذلك النهج الذي تسير عليه الإعلانات التجارية التي كان يشاهدها بالتليفزيون الفنلندي، حيث كان الإرسال يصل لبعض المناطق الشمالية من إستونيا دونما رقابة تذكر من جانب الروس. وقد سعى بيدو في أول الأمر لتنفيذ الأمر بإستونيا، وأسّس استوديو خاص به هناك، “إستي ريكلام سينما”، وأنتج بعض الدعايات البدائية به. وبداية من عقد الستينات فصاعدًا اعتُبر بيدو أويما، الرائد الإستوني لتلك الصناعة الوليدة، شخص شديد البراعة لدرجة أنه في إعلاناته: “بمقدوره أن يجعل أهل الإسكيمو يرقصون البولكا!”.وعندما سمح الاتحاد السوفيتي وأعطى تصريحًا لصناعة الإعلانات التجارية المُصورة، كانت استوديوهات “إستي ريكلام فيلم” هي الوحيدة الموجودة والتي في الصدارة، فبدأت إعلاناتها في التدفق مع مطلع عام 1967.
وقد ظلّ الاستوديو يتبوأ تلك المكانة حتى استقلال إستونيا، وتفككه مع انهيار الاتحاد السوفيتي بعد أربعة وعشرين عامًا من تواجده بمفرده بالسوق السوفيتية، صنع فيها الاستوديو ما يزيد عن أحد عشر ألف فيلمًا على مدى سنوات إنتاجه، شاهدها الملايين، وفاز أحد المخرجين العاملين به على جائزة “أسد كان الذهبي” في المهرجان الدولي للدعاية بمدينة كان الفرنسية، والذي تحول اسمه الآن إلى المهرجان الدولي للإبداع بكان.
هذا كله دار على أرض الاتحاد السوفيتي السابق، في وقت لم تكن للإعلانات التجارية بالتليفزيون أي وجود أو حتى أي أهمية تذكر نظرًا للنقص الشديد أو حتى ندرة المنتجات والبضائع والسلع التي يتم الإعلان عنها، لا سيما في ظل كل تلك القيود والقوانين الباطشة من جانب الرقابة الحكومية. ناهيك عن القدرة الشرائية لدى المواطنين العاجزة عن تسديد قيمة المشتريات نقدًا. وبالطبع لم يكن الجمهور الذي يلتهم كل تلك الإعلانات المُبهرة والمُذهبة لعقله يدري أنها لمنتجات غير موجودة في الأغلب الأعمّ أو لكماليات لا لزوم لها، وأنه خاضع لسطوة رجل كان مخوّلا له بيع، ما لا حاجة له لمن ليسوا بحاجة إليه. لكن لماذا اللجوء من جانب الدولة لمثل هذه السياسة، ولماذا كان يبيع الفنان أويما الهواء للجمهور عبر الإعلانات التي تنتجها استوديوهاته؟
تأتينا الإجابة المثيرة للدهشة عبر متابعتنا لأحداث الفيلم، فندرك أنه في ظل كل تلك القيود والقواعد والقوانين الصارمة المتحكمة، كان هناك قانون بعينه يفرض على الشركات حتمية أن تخصص ما يساوي نسبة واحد بالمئة على الأقل من ميزانيتها للإعلانات التجارية. في حين أن معظم تلك الشركات لم تكن بالفعل في حاجة لمثل تلك الإعلانات لأن منتجاتها كانت بالفعل تنفد من الأسواق قبل حتى الإعلان عنها. وثمة شركات أخرى لم تكن بعد قد أصدرت منتجاتها أو استوردتها وبالتالي كانت تأمل أن يكون الإعلان متواكبًا وقت عرض أو نزول السلعة إلى الأسواق. أما بعض الآلات العجيبة المعروضة فكانت محض اختلاقات زائفة وليست اختراعات حقيقة. ومع وجود هذا النقص في كل شيء، حتى قبل البريسترويكا، لم يتوقف المعلنون عن تسويق المنتجات التي لم تكن موجودة، لأن الإعلان عنها كان أيسر كثيرًا من إنتاجها. لكن السؤال الآخر هنا، لماذا سمحت الدولة، بصرف النظر عن وجود ذلك القانون، بهذا القدر من الكذب أو الزيف؟
وتأتينا الإجابة على النحو التالي: للمساعدة في إدامة بعض الأوهام، مثل الطلب المتزايد على المنتجات أو السلع حتى تلك التي كانت تنتجها الدولة. في حين تجعل من ندرة الزبدة والسكر والزيت التي تباع من فورها دون الحاجة لدعاية أمرًا مبررًا، وتخلق في الوقت نفسه، مع تواجد السلع، صورة زائفة عن مجتمع الوفرة والاقتصاد الكاسح المُنتج لكل وأي شيء. والمثير في الأمر أن الحزب الشيوعي الحاكم بسياساته القابضة ورقابته الصارمة حتى على البرامج التليفزيونية العادية وما كان يقدم بها من مادة، كان متحررًا تمامًا ولم يكن يبالي بالمرة بما تُروّج له الإعلانات من منتجات أو حتى مطبوعات جنسية، وما يظهر بها من موديلات عارية أو شبه عارية.
وقد جمعت إعلانات الاستوديو بين المظهر أو الأسلوب الذي للإعلانات التجارية الغربية والمحتوى أو الحسّ الاشتراكي، الأمر الذي أدى في النهاية لخروج محتوى إعلاني غريب الأطوار بعض الشيء، لكن له عشاقه. ومع ذلك يحسب للمخرجين بهذه الإعلانات، تقديم محتوى موسيقي جذاب في إعلاناتهم. كما برزت الحرفية الشديدة في المونتاج، وجرأة الأفكار وجدّتها ومضمونها أحيانًا. ولولا الحفاظ على كم كبير من تلك المادة الإعلانية ونجاتها من التدمير بعد إغلاق الاستوديوهات، لما صار سهلا بالمرة صناعة مثل هذا الفيلم الرائع، القائم بالأساس على تلك المادة الأرشيفية المثيرة والمبهجة والمتنوعة في حد ذاتها على نحو بالغ الثراء، والتي يغلب على معظمها الطرافة والجدة والجرأة في الطرح، وعلى البعض الآخر أثر الزمن وسذاجة التنفيذ والإخراج.
يظهر بيدو أويما، الذي توفي قبل أشهر قليلة، على فترات بالفيلم في مراحل عمرية مختلفة عبر لقطات أرشيفية مُسجّلة بالأبيض والأسود أو معلقًا بصوته أو مُتحدثًا مباشرة للكاميرا. كما نراه لمرتين أو ثلاثة، خصوصًا مع نهاية الفيلم، وهو جالس على كرسي متحرك بإحدى دور العرض الخاوية يشاهد مجموعة من الإعلانات التي أخرجها ونفذتها استوديوهاته على مدى مساره المهني. كما يظهر على فترات بالفيلم مجموعة من المخرجين الذين عملوا معه أو خبراء في صناعة الإعلانات أو كُتّاب سيناريو شاركوه العمل أو موديلات أو مغنيين اشتغلوا بالعديد من إعلاناته التجارية.
وقد هدف المخرجان من وراء فيلميهما إلى السخرية من النظام الشيوعي وتلك الحقبة برمتها، عبر فضحهما للإعلانات التي كانت تروج آنذاك، والتي في نفس الوقت، باعتبارها وثائق تسجيلية في حد ذاتها، رصدت دون أن تدري التطورات الاجتماعية والاقتصادية والتاريخية التي مرّت بها البلاد خلال أكثر من عقدين تقريبًا هي عمر تلك الاستوديوهات. وكذلك تتبُّع مسار التطورات الفنية والسينمائية التي كانت رائجة في ذاك الوقت والتي خرجت من رحمها الكثير من الإبداعات الحالية في سوق الدعاية الإعلانية في عصرنا الحالي، والتي يرجع الفضل في معظمها لذلك الرائد الشديد التميز في مجاله.
ومن ثم، أثبت هذا الفيلم أن تلك المادة ممكن أن تكون مسلية وممتعة جدًا في زمانها في حين تصبح لاحقًا شديدة الإفادة لدراسة جوانب كثيرة اجتماعية واقتصادية وتاريخية وسياسية وفنية.
ولد المخرج “كيور أرما” في الخامس والعشرين من يونيه عام 1975، وهو صحفي في التليفزيون الإستوني، وتخرج في جامعة تارتو عام 1997، وعمل أيضًا ككاتب سيناريو ومنتج، وهذا الفيلم هو أول أفلامه كمخرج.
ولد المخرد “هاردي فولمر” في عام 1975، وهو مغني في فرقة روك “سنجر فينجر”، وأيضًا كاتب ومخرج سينمائي. ومن بين أفلامه القصيرة، “لا أحد حتى الآن” (1996)، و”كل ما لدي عن لنين” (1997)، و”بربري” (2003)، و”صور حية” (2013)، وهذا هو فيلمه الأخير.