محمد هاشم عبد السلام

 

من جديد يعود المخرج الإيراني المتميز أصغر فرهادي في فيلمه الآخير “البائع المتجول” ليقدم فيلمًا لافتًا فاز عنه بجائزة السيناريو بمهرجان “كان” الأخير، وكذلك جائزة أفضل ممثل، رغم أن الفيلم لم يكن بنفس مستوى القوة والعمق الذي لفيلمه “انفصال”.

في “البائع المتجول” لا يحيد فرهادي كثيرًا عن الموضوعات والأفكار الرئيسية المتكررة في أفلامه، والتي يسهل رصدها في أعماله على امتداد مسيرته السينمائية، مثل العلاقات الزوجية، والتوترات التي تنجم عنها، والسلطة الذكورية، والمسكوت عنه في المجتمع الإيراني، والحياة التي تتعطل فجأة، وتبعات ذلك من عدم ارتياح وقلق وتفسخ واضطرابات، وأحيانًا، انهيار تام يضرب العلاقات، وأيضًا خيبة الأمل التي تضع حدًا للعلاقات بين الأشخاص، وغيرها من الموضوعات والأفكار، التي تدفعك دائمًا للتساؤل، هل هو حقًا مهموم لهذه الدرجة بتلك الموضوعات والأفكار المتكررة أم أن طبيعة الرقابة المفروضة من جانب الدولة الإيرانية، والتي يُلمِّح إليها عرضًا في فيلمه هذا، هي السبب الرئيسي، حتى وإن شاء المبدع وعقله اللا وعي تجاوزها؟

منذ اللحظات الأولى التي بدأ يتصدع فيها العقار الذي يقيم فيه عماد ورنا، “عماد” (شهاب حسيني) وزوجته “رنا” (ترانة عليدوستي)، يبدو عليهما السعادة والانسجام والتفاهم في حياتهما الزوجية، وأيضًا أنهما ينتميان لنفس الطبقة الاجتماعية والثقافية وتجمعهما نفس الاهتمامات الفنية والعملية، فعماد، الذي يعمل بالتدريس، يمتهن التمثيل المسرحي وكذلك زوجته رنا، ويمثلان معًا في نفس العرض المسرحي، “وفاة بائع متجول” لآرثر ميللر، كل ليلة تقريبًا، ذلك التصدع، الذي يوضح المخرج أنه نَجَمَ عن أعمال تشييد بالأرض المجاورة لعقارهما، مَهّد لنا بما لا يدع مجالا للشك، أن ثمة ما سيُزلزل حياتهما اليومية أو الأسرية، وربما يُصيبها في مقتل، ويتركها على النحو الذي ألفينا العقار عليه، خرب وغير صالح للسكن أو الترميم.

سريعًا يمر فرهادي على محنتهما الخاصة بالعقار، لا سيما بعد أن وجدا شقة أخرى صالحة للسكن تنقصها بعض الإصلاحات البسيطة، ثم نقل الأثاث إليها، وهو ما يتم دون الكثير من المشاكل أو المعاناة. فقط، تبدأ المشكلة الأساسية أو العقدة الرئيسية التي يلعب عليها السيناريو ويطورها تدريجيًا بمنتهى الهدوء والقوة حتى يصل بها لذروتها غير المتوقعة، مع خطأ عارض ترتكبه رنا، بفتحها لبوابة العقار، ثم باب الشقة ظنًا منها أن الطارق هو عماد، الذي كان بالفعل على وشك العودة إلى المنزل. الأمر الذي يعرضها في النهاية لاعتداء من جانب أحد الأشخاص كاد يودي بحياتها. ذلك الاعتداء الغامض، الذي لم نره على الشاشة، يظل حتى نهاية الفيلم غير واضح، هل هو مجرد اعتداء جسدي على رنا أم تطور لاعتداء جنسي أم اغتصاب، خاصة وأن ساكنة الشقة السابقة كانت عاهرة ويتردد عليها الكثير من الرجال، لكن فرهادي لا يوضح لنا، ولا حتى توضح رنا هذا لزوجها عندما يسألها.

ترى رنا، من جانبها، أن ما حدث قد حدث، إيًا كانت طبيعته، وأن كشفه قد يعرض سمعتها وسمع زوجها للغط والقيل والقال، وأنه، في النهاية، لا شيء يمكنه أن يخفف عنها آثاره النفسية التي تلازمها وتؤثر على تصرفاتها، وتجعلها غير قادرة على العمل بالمسرح أو حتى الإحساس بالأمان داخل شقتها الجديدة، ولا أيضًا تطمين زوجها وتهدأته – وهي نفس الأسباب تقريبًا التي جعلتها تقنع زوجها بضرورة عدم إبلاغ الشرطة بحقيقة ما حدث – لا سيما وأن الموضوع بدأ يأخذ بالنسبة لعماد حيزًا كبيرًا من الاهتمام والتفكير والرغبة في معرفة الجاني وتعقبه والكشف عن دوافعه، وربما أيضًا عقابه جراء ما اقترفه، وأن الأمر صار بالنسبة له هاجسًا مؤرقًا غير من طبيعته أو أطلعها على جوانب من شخصيته لم تكن على دراية بها أو لم ترها من قبل.

مع هذا التطور في الأحداث وتكشف الشخصيات وعوالمها، نجد أن الفيلم حتى تلك المرحلة، منتصفه تقريبًا، يسير على نفس النمط الهادئ المتمهل، تمامًا كشخصيتي عماد ورنا، ولا تأخذ وتيرة الفيلم في التسارع والإمساك بأنفاس المشاهد إلا مع الاقتراب من الربع الأخير تقريبًا من زمن الفيلم، الذي امتد زمن عرضه لما يزيد عن الساعتين بقليل، حيث تهدأ وتيرة الأحداث تقريبًا، بعدما تبين لنا ولهما، من الذي اقترف الحادث، وما الذي وراء دوافعه، لكن من ناحية أخرى، تأخذ وتيرة الحوار والتمثيل في التزايد والسخونة والقوة والإثارة، حتى يصل الفيلم إلى خاتمته، على نحو ضبط العمل في النهاية ونجا به من الانزلاق الميلودرامي، وهنا برزت جماليات فرهادي كمخرج متمكن يعرف ما الذي يريده من فيلمه وكيف يصل إليه، والكيفية التي يعمل بها على توصيل رسالته.

إن الدافع لتحقيق العدالة، هو ما يغذيه فرهادي طوال الفيلم ويجعله الحافز من أجل دفع وتقدم الأحداث، ثم لاحقًا تحول هذا الدافع إلى تطرف شديد في رد الفعل، وأخيرًا سيطرة فكرة الانتقام وإلحاق العقاب أو الأذى. ولذا نرى تدريجيًا تحول شخصية عماد، الذي يفقد سيطرته على نفسه ومعها طبيعته الأخلاقية، تحت سمعنا وبصرنا، من إنسان غيور صاحب موقف أخلاقي وإنساني نبيل، مبعثه الكرامة وحماية الزوجة والدفاع عن الذات والأمن الشخصي، وهو ما نراه مثلا في موقفه مع الطالب الذي قام بتصويره في الفصل وهو نائم، إلى روح مشحونة بالرغبة في كشف الحقيقة، وإنفاذ العدالة بيدها مهما كان الثمن.

ثم سرعان ما نجد تلك الشخصية تجنح صوب الرغبة الحارقة في تحقيق الانتقام مهما بلغ وبصرف النظر عن العقبات أو التبعات، لدرجة تشعر معها أنه قد بات مقصودًا في حد ذاته، وأنه لولا وجود بعض العوامل الخارجية الكابحة لذلك الجموح لربما انفجر عماد فيما هو أفظع وأشنع من هذا الانتقام المُذِل والعقاب السريع للجاني. لكن، برغم ذلك، في النهاية، نجد أن الانتقام يفضي إلى الألم والمعاناة، وتهديد حياته وحياة زوجته وعيشهما معًا، ناهيك عن أنه أودى، عن دون قصد وتعمد، بحياة المُعتدي نفسه الذي كان مريضًا، وألحق بأسرته أبلغ الضرر. وهنا يقلب فرهادي الأدوار باقتدار ليتحول الجاني إلى ضحية والضحية إلى جاني، ويحول تعاطف المشاهدين منذ البداية إلى نقمة واستهجان.

من أحداث جد صغيرة، و تبعاتها غير المتوقعة بالمرة، كشف فرهادي عن بعض الجوانب الخفية في النفس البشرية، كذلك الضعف البشري والنفسي والادعاء الأخلاقي. إنها لعبة الأقنعة أو الوجوه الزائفة وما تخفيه تحتها، وكذلك تبدلها تبعًا للمواقف والأدوار، والتي يركز عليها المخرج في أكثر من مشهد من مشاهد الفيلم، ونرى إحالاتها المسرحية، حيث تُوضع وتُزال الأقنعة من على وجهي عماد ورنا، في استعارة واضحة لما عليه شخصيتهما في الحقيقة، والتي لم يكن ليُكشف هنا لولا ذلك الحادث الصادم الذي ضرب حياتهما، والذي ينسحب قطعًا، وعلى نحو اضح بالطبع، على المجتمع الإيراني وأفراده والعلاقات الاجتماعية التي تحكمه، وتحكم تعامل الشخصيات مع بعضها البعض، وعلى رأسها التواطؤ والزيف.

وقد سمح توظيف مسرحية آثر ميللر، موت بائع متجول، لفرهادي باستخدام وتوظيف تلك الاستعارة من دون أن يتهمه أحد بالزيف أو التكلف أو إقحام ما لا لزوم له، والأكثر من هذا، إكساب الشخصيات الرئيسية، لا سيما شخصية عماد، بعض الأبعاد والسمات والصفات التي لشخصية بطل المسرحية، والتي أثرت على سلوكياته وتصرفاته لاحقًا، رغم أن عوالهما ليست مشتركة ولا متداخلة.