محمد هاشم عبد السلام

 

6/10/2016

 

بعد أكثر من عشر سنوات قضاها المخرج الأمريكي “كيث ميتلاند” في البحث والتحرّي والتقصي، كشف فيلمه الجديد، “البرج”، النقاب عن التفاصيل الدقيقة لأول حادث إطلاق نار جماعي في تاريخ الجامعات الأمريكية، قبل خمسين عامًا. وقد آثر كيث أن يخرج فيلمه الصادم إلى النور هذا العام، ليواكب ذكرى الحادث، الذي وقع في شهر أغسطس من عام 1966، وليُذكّر المجتمع الأمريكي بأهواله، لا سيما وأن الحادث مع الأسف لم، ويبدو أنه، لن يكون الأخير.

في جامعة تكساس بأوستين عاصمة ولاية تكساس، وفي صباح الحادي من أغسطس عام 1966، كان الحرم الجامعي لجامعة تكساس يعج بالكثير من الطلبة والطالبات الآمنين، وساحة الجامعة الفسيحة لا تكاد تخلو من المارة والجالسين في سلام وطمأنينة. ربما لم يتطلّع سوى نفر قليل من هؤلاء الطلبة إلى ساعة ذلك البرج الشاهق، المنتصب في نهاية ساحة الجامعة. كان الجو قائظ الحرارة، ولذا ذهب العديد من الطلاب إلى الكافيتيريا التماسًا لقدر من الظل وبحثًا عن مشروب ما يطفئ ظمأهم.

من باب الكافيتيريا، وبعد دقائق قليلة من محادثة بينهما وبين زملائهما، وعن طريق التعليق الصوتي، نتعرف على “كلير ويلسون”، وهي في الثامنة عشر من عمرها وحامل في شهرها السادس، وصديقها الجديد “توم إيكمان”. سرعان ما يستأذن كلير وتوم من زملائهما للمغادرة، وبالفعل نراهما مباشرة يقتربان من الفناء، ولكن قبل أن يصلا حتى لمنتصفه نسمع دوي طلقة رصاص لا نعرف أين مصدرها، فقط نرى “كلير” تسقط على الأرض، فيحاول “توم” تفقدها، لكنه ينطرح فورًا على الأرض بعد سماع دوي الرصاصة الثانية التي استقرّت في رأسه، ويظل توم ينزف تحت الشمس الحارقة لما يزيد عن الساعة حتى يفارق الحياة، ويكون الضحية الأولى.

كان “تشارلز ويتمان”، الضابط السابق بالبحرية الأمريكية، وهو في الخامسة والعشرين من عمره وقد أنهى دراسته الجامعية في مجال الهندسة بنفس الجامعة، قد أجهز لتوه على زوجته ووالدتها قبل توجهه إلى أعلى البرج، المكون من سبعة وعشرين طابقًا، ومعه بندقية القنص وما يقرب من ثمانية صناديق من الذخيرة الحية، بعدما زعم للبائع أنه ذاهب في رحلة صيد للخنازير البرية. ومن موقع جد حصين هناك، يصعب على أحد إصابته، نظرًا لارتفاع البرج وعلو الشمس في السماء وزاوية التصويب، راح يصطاد المارة عشوائيًا بدلا من الخنازير البرية.

الكثير من الأشخاص والطلاب أصيبوا بالذهول وهم يحاولون تبين ما الذي يحدث وكيف سينتهي أمره وأمرهم، وقبل كل شيء الاحتماء بأي ساتر قريب يقيهم من تلك الطلقات، التي اصطادت لتوها ذلك الطفل اللاتيني “أليك هيرنانديز” الجالس فوق دراجة قريبه ويلقي بالجرائد موزعًا إياها من فوق الدراجة حيث عتبات البيوت والشرفات القريبة، فيسقطان على الأرض وتنزف الدماء على أسفلت الطريق، بالرغم من أن الصبي لم يكن قريبًا من ساحة الحرم الجامعي. لكن، حسبما يقول الراوي في الفيلم، “حيثما يمكنك رؤية البرج، يمكن للقناص أن يراك”. ومن ثم، فإننا نشهد بالقرب من الجامعة ومحيطها العديد من الطلقات الطائشة والإصابات والضحايا، رغم أن التركيز الأكبر للقناص كان على طلاب الجامعة المتواجدين بالساحة.

بطبيعة الحال، ومنذ بداية الفيلم، يستطيع المشاهد بسهولة الوقوف على وجه النظر التي تبناها المخرج ومال إليها. فقد انحاز ميتلاند في صناعته لفيلمه إلى المستوى الأرضي الخاص بالضحايا والجرحى وتصرفات البشر وردود أفعالهم إلى آخره، في حين أنه كان بإمكانه أيضًا أن يصنع فيلمه عن ذلك الجزار الذي اقترف تلك الجريمة، متحريًا جذوره ومحللا دوافعه النفسية وغيرها من الأمور التي كان من الممكن أيضًا أن تساعده على الخروج بعمل ممتع ومشوق.

ومع التعمق في وجهة النظر التي اختارها ميتلاند في فيلمه “البرج”، وانفصال المرء عن الجريمة ودوافعها ومبرارتها وأي أسباب منطقية تقف وراءها، والتركيز فقط على البشر، الضحايا والجرحى والعالقين بمحيطها، نجدد أننا بإزاء كنز خفي من الحالات التي لم يتسن بعد دراستها ودراسة ردود أفعالها على جميع المستويات، وبالأخص المتسوى النفسي، وكيف يتصرف بعض البشر في أقصى حالات الخطر وفي ظل المفاجأة والحيرة والارتباك.

بالطبع مع امتداد زمن الحادث، الذي استمر لما يقترب من ساعة وخمس وثلاثين دقيقة على وجه التحديد، تمكن الكثير من الناس، العالقين بمحيط إطلاق النار أو من سمعوا به عرضًا، من تمالك أنفسهم ومحاولة التفكير باتزان نفسي وبمنطقية من أجل إنهاء أو المساهمة في إنهاء تلك الأزمة.

وهو ما نراه على سبيل المثال متجسدًا في تلك الفتاة الشجاعة التي افترشت الأرض، بعد نص ساعة تقريبًا من إطلاق أول رصاصة، لتتمدد بجوار “كلير”، ولم يكن بينهما أي سابق معرفة، لتتحدث معها حتى لا تفقد الوعي، وتظل على قيد الحياة. كذلك، نرى كيف هرع شابان، “جون فوكس” و”جيمس لاف”، إلى الساحة، بعدما كانا يمارسان لعبة الشطرنج بمنزل أحدهما، بعدما سمعا بما حدث عن طريق الراديو. وهما من ساهما، دونما ادعاء لأي تضحيات بطولية زائفة وبمعزل عن التفكير في تبعات أو عواقب ما سيحدث لهما، في إنقاذ بعض الجرحى ومنهم الفتاة كلير، وحمل عدة جثث بعيدًا عن الساحة رغم عدم توقف إطلاق النار.

في حين نرى الشرطي “راميرو مارتينيز” ينطلق من منزله في يوم عطلته، ويتوجه الشرطي “هيوستن مكوي”، وأيضًا مدير المكتبة الجامعية “ألين كرام”، دون سابق إعداد أو تنسيق بينهم إلى حيث الساحة. وقد نجح الثلاثة في اجتيازها، والوصول إلى حيث الطلاب العالقين هناك والاطمئنان عليهم، ثم الصعود إلى حيث يوجد القناص بأعلى برج الساحة، والاقتراب رويدًا رويدًا، وسط بعض الجثث التي خلفها القناص بالمبنى، إلى السطح حيث يتمركز، ومن جهتين مختلفتين أطلق الشرطيان النار على “تشارلز ويتمان” فأردياه قتيلا، لكن بعد وفاة 16 شخصًا، وجرح ما يزيد عن تسعة وأربعين.

على مستوى السرد، آثر المخرج إلى أن يسير فيلمه على نحو خطي يتتبع بمنتهى الدقة والواقعية ما حدث بالضبط في ذلك اليوم، الأمر الذي أدى إلى أن يمتد زمن عرض الفيلم إلى ما يزيد عن الساعة ونصف الساعة وهو نفس زمن وقوع الأحداث، وحتى تصفية القناص. من حيث الأسلوب التقني أو التنفيذي، اعتمد المخرج كيث ميتلاند على عدة أساليب، بخلاف اعتماده القليل على استخدام التعليق الصوتي بصوته الخاص، فقد اعتمد بالأساس على جعل الشخصيات ذاتها تتحدث عما حدث لها على وجه الخصوص في ذلك اليوم، وذلك عبر الاستعانة بأصوات العديد من الممثلين للقيام بأدوار تلك الشخصيات.

وقد رأى كيث أن يخرج فيلمه بالأساس وقد عولج بصريًا بتقنية “الروتوسكوب” (Rotoscope)، وهي إحدى تقنيات تنفيذ الأفلام باستخدام الرسوم المتحركة، حيث يتبع المخرج الشخصيات والمواقف والأحداث ويصورها بالضبط مثلما حدثت في الواقع وليس على نحو كرتوني متخيل. وتلك التقنية الجذابة والممتعة بصريًا أضفت قوة وإثارة وتشويق للقصة وأسهمت بالفعل في الارتفاع بمستوى الفيلم فنيًا. وبالإضافة إلى تلك التقنية، أدخل كيث بعض المقاطع التسجيلية القديمة التي أمكنه العثور عليها، وسُمِحَ له باستخدامها، والتي التقطت وقت وقوع الحادث. هذا إلى جانب الاستعانة ببعض المقاطع التسجيلية الأرشيفية والمقابلات التي كان قد صورها مع بقي من أبطال ذلك الحادث الأليم على قيد الحياة، ومنهم الفتاة كلير التي فقدت جنينها في الحادث، وكذلك القدرة على الإنجاب، وتوفيت قبل شهور من انتهاء الفيلم.

فيلم “البرج”، إلى جانب ما يطرحه من قضية تذكر بمثل تلك الحوادث، وتنبه لضرورة عدم التغافل عنها، هو في النهاية، فيلم أراده كيث ميتلاند أن يكون بمثابة صرخة تحذير مدوية، على أمل أن تجد أي صدى في الوقت الحاضر أو لاحقًا، ضد امتلاك المواطنين الأمريكيين للأسلحة، والسهولة البالغة في بيعها وشرائها وحملها واستخدامها، إذ، وفقًا للفيلم، تقدر الإحصائيات عدد الأسلحة التي يمتلكها السكان بمئتين وسبعين مليون قطعة سلاح، أي أن ما يقرب من أربعين بالمئة من حجم السكان مُسحلين بمختلف أنواع الأسلحة، ويختتم الفيلم بالتنويه إلى أن النصب التذكاري لضحايا تلك المذبحة سوف يزاح عنه الستار خلال الأول من أغسطس هذا العام، تخليدًا لموتى ومصابي ذلك الحادث الأليم.