محمد هاشم عبد السلام
30/8/2017
على الرغم من أن المخرج الألماني السويسري “باربيت شرويدر”، بدأ حياته المهنية كمخرج أفلام وثائقية بالأساس، وأنجز العديد منها في بدايات مسيرته المهنية التي بدأت في ستينات القرن الماضي، لكنه هجر الوثائقي بعد ذلك، وكرس جل جهوده للأفلام الروائية التي أنجز منها الكثير، وقد تراوح مستواها بين المتوسط والجيد. لكن، حتى اليوم، تظل بصمة شرويدر السينمائية بارزة من خلال أفلامه الوثائقية بالأساس، حيث تنوع وقوة الموضوعات، وإن كانت أفلامه الوثائقية باتت جد قليلة خلال السنوات الأخيرة من مسيرته.
من أبرز الأفلام الوثائقية التي قدمها شرويدر في سبعينات القرن الماضي، ذلك الوثائقي المهم عن عيدي أمين ديكتاتور أوغندا الشهير، والذي حمل عنوان “الجنرال عيدي أمين”. كما قدم شراودر فيلمه اللافت “كوكو: الغوريلا الناطقة”، عن تلك الغوريلا التي برعت في تعلم لغة الإشارة والتحدث بها. وقبل عشر سنوات لفت شرويدر الأنظار ثانية بفيلمه السياسي المثير للجدل، “محامي الشيطان”، الذي تعرض فيه لشخصية المحامي الفرنسي الشهير “جاك فيرجيس”، الذي دافع عبر مسيرته المهنية عن العديد من المشاهير الذين اختلفت الآراء بشأنهم حول العالم، مثل جميلة بوحيرد، وروجيه جارودي، وكارلوس، ورئيس الخمير الحمر وغيرهم.
في فيلمه الأخير، الذي عُرض ضمن قسم العروض الخاصة بمهرجان “كان” هذا عام، والذي حمل عنوان “دابليو المُبجّل” (Le vénérable W)، نجد بصمة شرويدر البازرة، حيث جرأة وجدة الموضوع المطروح. في فيلم “دابليو المُبجل”، وحرف “دابليو” هو اختصار لاسم الراهب البوذي البورمي الشهير “ويراثو”، واسمه الكامل “أشين ويراثو”، و”المُبجل” هو لقبه بين أحبابه وأتباعه، ينقلنا شرويدر إلى قلب وعمق المأساة التي وقعت أحداثها خلال السنوات القليلة الماضية في بورما أو ميانمار، ولا تزال توابعها حتى الآن، وأدت إلى ما أدت إليه من مذابح وتطهير عرقي ضد أقلية الروهينجا الذين يدنون بالإسلام. ففي بورما، كما تفيد الإحصائيات، يدين قرابة تسعين بالمئة من إجمالي السكان بالديانة البوذية، في حين الأقلية الباقية تدين بديانات مختلفة، أغلبها بالدين الإسلامي الذي يمثله أربعة بالمئة من السكان. وتلك الحملة ضد الروهينجا ليست بجديدة عليهم، فهي ترجع إلى قرون ماضية، لكن الفيلم لم يتوقف عندها بالتفصيل، فقط ذكرها كمعلومة عابرة، نظرًا لأن جل الاهتمام قد انصب على الأحداث الأخيرة على وجه التحديد.
إن فيلم شرويدر يُسلط الضوء وبقوة على دور القانون والدولة، وكيف أن غيابهما يؤدي مباشرة إلى سيادة شريعة الغاب دون شك، وترك الدهماء يقتصون بأيديهم، الأمر الذي تنتج عنه تبعات لا تحمد عقباها بالمرة. كذلك، عن دور رجال الدين، أي تأثيرهم واستغلالهم لشعبيتهم الجارفة وحب الناس لهم، من أجل التلاعب بأتباعهم ومحبيهم وتسييرهم وفق مصالحهم وأهوائهم ومطامحهم وجنون عظمتهم. كذلك، تلك العلاقة التي تربط بينهم وبين السلطة بصفة خاصة، وأيضًا السياسة بصفة عامة، وهي ليست خفية بالمرة، ولها جذور في بورما، كما في أنحاء العالم. وهنا، الممثل البارز لها في تلك الحالة، هو الراهب البوذي المُتعصب “ويراثو”، الذي لا نجد أدنى شك في رؤية مدى عصبيته وتعصبه وتعطشه للقوة والسلطة، وتسببه في كل ما آلت إليه الأمور مؤخرًا، وكيف أنه لم يكن هناك بد من إلقاء القبض عليه وإيداعه السجن، لكن هيهات.
“ويراثو” المُجبل، هو راهب بوذي له تقديره واحترامه وتأثيره البالغ في بورما، استطاع من خلال كلامه وأحاديثه تأجيج نار الفتنة وتبديل الصور السمحة المُسالمة المعروفة عن الرهبان البوذيين بصفة خاصة، ومعتنقي البوذية بصفة عامة. يُجزم “ويراثو” بالتفوق الديني والعرقي لأتباعه، ويحط بالمقابل من شأن أهل بلده من أتباع الدين الإسلامي، ويصفهم بالمُلوَنين، ويصمهم فوق ذلك بعدم الولاء، وأنهم دخلاء لا ينتمون للبلد الذي يعيشون فيه، ويتهمهم بمحاولة أسلمته، على النحو ذاته الذي يرغبون فيه في أسلمة العالم. بالإضافة إلى، على حد قوله، سيطرتهم على التجارة في البلاد، واغتصاب النساء، وإحراق منازلهم عمدًا للحصول على منازل، ومساحات أكبر شاسعة من الأراضي.
لم يكتف ويراثو بكل هذا الخطاب العدائي، الذي بدأه منذ تسعينات القرن الماضي، بل أوغل في التحريض والعداء بتأسيس حركة تدعي “969”، مناهضة للإسلام والمسلمين ومقاطعة محلاتهم والتعامل معهم وكل ما يمت للمسلمين بصلة، ولطردهم وتطهير المجتمع منهم. وقد حظرتها الحكومة فيما بعد، لكنه أسس غيرها مؤخرًا، وراح يُشعل المزيد والمزيد من النيران، بدلا من إعمال العقل والقانون، عقب قيام ثلاثة مراهقين من الروهينجا باغتصاب وقتل امرأة بوذية. وقد ألقي القبض على ويراثو، نظرًا لخطابه العدائي وبثه الكراهية ودعوته للتطهير العرقي والدعوة العلنية للعنف العنصري والديني في المجتمع البورمي، عام 2003، كما أودع السجن عام 2012، لعدة سنوات، ثم خرج بعفو عام. وكرمز عالمي للتعصب والكراهية والعنصرية، وضعت مجلة التايمز صورته على غلافها عام 2013، وتحتها عنوان “وجه الإرهاب البوذي”. لافتة النظر إلى أنه يمثل كل ما هو نقيض للقيم الأخلاقية السمحة التي نسمع عنها ويعرفها العالم عن البوذية.
ينقسم الفيلم إلى ما يمكن أن نطلق عليه جزأين منفصلين إلى حد ما، الأول عن قصة هذا الراهب وحياته وواقعة الاغتصاب التي حدثت وتبعاتها من وجهة نظره. ثم، لاحقًا الوجه الآخر للحقيقة وتبعات ما حدث وتعرض المسلمون له هناك. ومن خلال هذا التضاد الذكي، الذي يظنه المرء في البداية محض انحياز سافر من المخرج ضد الأقلية المسلمة، حاول شرويدر إنصاف الأقلية المُسلمة، وتسليط الضوء ولفت أنظار العالم إلى ما وقع لها من بشاعات، بسبب تحريض “ويراثو”، على يد تلك العُصبة المُتعصبة في بورما، والتي تدين بالبوذية. وبالطبع، أبرز شرويدر إدانته وبقية الأطراف بالفيلم لذلك الحادث الأليم، الذي أشعل فتيل كل تلك الوقائع الدموية الأخيرة، والذي تسبب فيه ثلة من المجرمين المسلمين. ولم ينس مناقشة موضوع انتشار الإسلاموفوبيا في الغرب، لا سيما في فرنسا وأمريكا، وارتفاع نبرة التحريض والعنف مؤخرًا بتلك المجتمعات.
وقد استعان شرويدر في تنفيذه للفيلم بتقنية التعليق الصوتي، لفترات زمنية طويلة، في حين ترك مساحات لا بأس بها للصمت كتعليق فارق على الأحداث المُرعبة الماثلة على الشاشة أمامنا، حيث القتل والحرق والإبادة والتدمير وتشويه الجثث، وحرق الأحياء وبتر أعضاء إلى آخره. وفي الفيلم، الذي امتدت زمن عرضه لقرابة الساعتين، استعان المخرج بالكثير من اللقطات الأرشيفية والأحاديث والشرائط التي تم تسجيلها أو كانت مُسجّلة من قبل للراهب “ويراثو”، كذلك بعدد قليل من اللقاءات لرهبان يتسمون بالاعتدال وإدانة سلوك “ويراثو”، وشخص واحد من الروهينجا، وزمرة من الصحفيين الدوليين الذين سلطوا الضوء على ما حدث في بورما، ونقلوا تلك الأحداث الساخنة، في وقتها، إلى العالم كله.
هذا إلى جانب توظيفه لعدة لقطات تبرز واقعة الاغتصاب مُسجلة على نحو مشوش بتليفون محمول، يُشار في الفيلم إلى إنها ليس للواقعة الحقيقة، وإنما هي إعادة تمثيل لما جرى، تمّ بإيعاز من “ويراثو” لإلهاب وتأجيج حماسة أتباعه من أجل الثأر والانتقام. بالإضافة إلى استعانة شرويدر بالعديد من لقطات اليوتيوب، التي سُجلت بوسائل مختلفة، ورصدت عمليات الحرق والسلب والنهب والانتقام والتعذيب إلى آخره من مشاهد بالغة الصعوبة ومُفرطة في دمويتها. وبالطبع، لجأ المخرج أيضًا إلى توظيف أعمال الجرافيك كي يشرح العديد من الأرقام والبيانات الخاصة بالتعداد السكاني والتحولات الديموجرافية وأعداد النازحين أو إحصائيات بأعمال العنف أو توضيح الأماكن والطرق التي سلكوها أثناء انتقالهم. كذلك أماكن وأعداد المنازل والأراضي التي تم إحراقها أو تهجير السكان منها، كل هذا بالطبع على خلفية مُكبَّرة لخريطة بورما.