بقلم: ميشال ليشتشوفسكي*
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
كان الظلام شديد الحلكة تلك الليلة من تموز/ يوليو التي بدت أنها لن تمضي والزمن ربما يكون قد توقف. فقط الموسيقا التي كانت تنساب من راديو السيارة والصوت الرتيب للمحرك كانا يدلان على أن الوقت ينسلّ.
وصلتُ محطة “شالون سور مارن” للسكة الحديد في الوقت المناسب. كنت ممسكاً بالكتاب الذي آخذه إلى أندريه وحقيبة ظهري الصغيرة، دخلت العربة وأنا أزفر بارتياح. وطلبت من المحصل أن يوقظني في شتوتجارت، وبدأت أقرأ في الكتاب الآخر الذي كان معي. كان سيرة ذاتية بونويل، وأردت أن أحكي عنه لأندريه. شعرتُ بالنوم بعدما عرفت أن بونويل العجوز كان مخاتلاً، إذ كان يتناول شرابه الثاني من المارتيني قبل الساعة المحددة لهذه الطقوس. توافه من هذا النوع الذي يُشبع الرغبة في الضحك كانت هي من بين السمات المميزة للسنة التي تعاونت فيها مع تاركوفسكي.
شتوتجارت في ضوء الصباح كانت بشكل رئيسي مجرد لمحات في مرآة الرؤية الخلفية. كنت في عجلة للوصول إلى تاركوفسكي، لأعانقه، وفي غمرة تلك العجلة البهيجة عاودتني ذكريات قيادتنا السيارة عبر ألمانيا الغربية في سبتمبر 1985. كنا نقود بسرعة فائقة، غير معقولة وجنونية تقريباً، وكانت السيارة مُشبعة بموسيقى باخ وأرمسترونج وستيفن ووندر، بينما نتحدث عن الإيمان والسياسة، وكل تلك الأشياء التي جعلتنا قريبين أحدنا من الآخر. وبعد خمسة أشهر من العمل الشاق في غرفة المونتاج، كان بإمكاننا أن نترك الهم والقلق أثناء أسبوع رحلتنا من ستوكهولم إلى فلورنسا، وقد كان طريق ألمانيا السريع “الأوتوبان” بالنسبة لنا بمثابة الصالون الفني، حيث كان الأستاذ – وقد وجد مستمعاً مُمتناً ومتلهفًا – ينقض على موضوعات في الفن والحياة، وأحياناً يميع معالم الخط الفاصل بين الفن والحياة. بين أمور أخرى عديدة، تحدثنا عن كونراد ، الذي يبحث في مقدمة أحد كتبه في مهام الفن، وقال فيه إن البدايات الفعلية للعمل الفني تعني قطع الروابط بين الاندفاع الذي لا يرحم للزمن وأطوار الحياة العابرة، وأن توقظ في قلب القراء وعيهم بالمجتمع الآني، ولغز وجودنا، ولا يقينية الحياة. هذه مهمة الفنان التي يجب عليه تنفيذها بشكل صارم، باجتهاد وإتقان، وبوعي وإحاطة. وبذا، يمكن وصف شريحة الزمن المعطاة بإخلاص قدر الإمكان. بدأت أفكّر ملياً في هذا الموضوع أثناء عملي مع أندريه الذي كان دقيقاً جداً في وصفه للشخصيات، وعلاقاتها، والبيئة التي كانوا يعيشون فيها، والطبيعة، والضوء الملازم لأيامها ولياليها، ومطامحها، ومطالبها الأخلاقية.
آنئذ، كان أندريه يعلق قائلا إن المرء يجب أن يستسلم لهدفين رئيسيين في الفن، أولاهما، الحقيقة وتعميم الأفكار – بدون نسيان، على أية حال، أن صدق الواقع ليس دائماً هو صدق الفن في كل مرة.
بذلت كل جهد ممكن لعدم إضاعة أي وقت، فقد كنت في عجلة بالغة للقاء أندريه.
وصلت المصحة في التاسعة والنصف صباحاً، ممتلئاً بالتوقع السعيد للمقابلة الطويلة التي تنتظرني. كانت المباني على الموضة كما وصفها أندريه باستخفاف، فهو لم يكن يحتملها، كان المكان كله يشبه ثُكنات، معاقبة إلى حد كبير للرواد الشباب الذين كانت حياتهم محرومة من تصميمات أفضل. كل شيء كان مُوظّفاً ، في تلك المجموعة من الأشكال البلاستيكية الكئيبة. كانت الفكرة المريحة هي أن للمصحة سمعة جيدة في الرعاية الطبية وأنها كانت مفيدة في تحسين حالة وصحة المرضى.
عندما وصلت إلى غرفته، كان الأستاذ في السرير، بالطبع، يتحدث في التليفون مع كبير أطبائه، البروفيسور شوارتزينبيرج في باريس. ابتسم، أشار إلىّ كي أجلس على كرسي، ودعاني إلى خدمة نفسي تناول قطعة من الكيك. في مرضه، كانت سماته بادية بالكامل في عينيه: سودهما كالفحم، لمعتهما شيطانية ، تتحركان دائماً، في منتهى الحيوية. في اللحظة التي وضع فيها سماعة التليفون، وسيل من العناق والقبلات، وأسئلتي: كيف تشعر الآن، أتحتاج إلى شيء، هل لديك شيء تقرؤه. كنت سعيداً لأنني أتحدث إليه وجهاً لوجه ولأنني أراه مرة أخرى. أخرجت الكتاب من حقيبتي: تاركوفسكي، أفكار عن العودة للوطن. مختارات جديدة من عمله الذي كان قد نُشر مباشرة قبيل أخذي لإجازتي. لم يكن يعلم شيئاً عن الكتاب وكان سعيداً جداً برؤيته. لم يكن أندريه من هؤلاء المعجبون بأنفسهم الجامعين لقصاصات الصحف لكني رأيت هذا الرضا الذي أضفاه عليه هذا الكتاب، وإدراكه أن عمله قد تم استيعابه وفهمه.
لم يكن يهتم كثيراً بالحفاظ على علاقات جيدة مع وسائل الإعلام، وكان من النادر جداً أن يعطي مقابلات يختار لها الصحفيون فقد كان يجد أسئلتهم متسمة بالغرور والحذلقة مزعجة بوضوح. استثناء وحيد في هذه القاعدة كان المقابلات التي تحدث فيها عن نفسه وزوجته عندما ظلا لأربع سنوات منفصلين عن طفلهما. وقد افتقد تاركوفسكي ابنه أندريوشكا بشدة وقام بإهداء فيلم القربان إليه.
أخبرته على الفور عن معاركي مع المعامل الفرنسية لضمان جودة كافية لنسخ “القربان” الموجهة إلى الأسواق الناطقة بالفرنسية. كان أندريه يطلب بإلحاح أقصى درجة وأدق جودة في الأداء وفي التكنيك، حتى أثناء الفترات السيئة من مرضه. أتذكًر الشهور الثلاثة الأخيرة من تعاوننا، عندما اضطر إلى أن يتركنا نكمل شريط الصوت وفقاً لما صممه. كان متواجداً أثناء عملية الدوبلاج أي إعادة تسجيل أصوات كل الممثلين، ما عدا أثناء الدور النسائي الرئيسي، الذي كان بصفة خاصة دوراً صعباً. النسخة الأصلية تم تسجيلها بالإنجليزية بصوت سوزان فليتوود. وإعادة تسجيل الصوت في النسخة السويدية لم يكن فيها مشاكل كثيرة ، ما عدا مشهد هستيريا – البكاء، الصيحات المخنوقة، الصرخات المبهمة كانت إعادة تسجيله بنفس نبرة الصوت قد أثبتت أنه من المستحيل تكرار المشهد مرة ثانية بنفس “الحرارة” باستخدام ممثلة أخرى. وقد وجد أندريه ممثلة شابه صوتها صوت سوزان فليتوود، الأمر الذي سمح لنا باستخدام جزء من شريط الصوت الأصلي للمشهد، على الأقل.
لم يكن عنده، للأسف، وقت لتوجيه الممثلة. قمنا نحن بذلك بمعرفتنا وفي عجلة كبيرة، حتى يمكن في منتصف يناير 1986 عرض الحوار التزامني الكامل للفيلم على أندريه. وقد حدث في باريس بعد ذلك أن، ولأول مرة، التقيناه طريح الفراش. كان من الواضح أن المرض قد سحقه، لكن في اللحظة التي بدأنا نناقش فيها الفيلم وأدرنا الفيديو، إتكأ الأستاذ على وسادته واستأنف دوره المهني. تيارات من الطاقة فجأة تدفقت فيه. كنا كلنا سعداء لرؤيته في حالة ذهنية جيدة. أعطانا في الساعات العشرة التي عملنا فيها كل التعليمات النهائية للمرحلة القادمة من العمل.
بعد العودة إلى ستوكهولم، وبعد حديثي مع إرلاند جوسيفسون، قررت الإتصال بأندريه واقترحت أن تقوم بالدور ممثلة أخرى. كان قراره واقعياً وفورياً: كلما كانت هناك فرصة للتحسين، يجب أن تأخذها دون تردد. لذا فقد احتاجت إعادة تسيجل الصوت الخاص بهذا الجزء احتاج ثلاث ممثلات. ولدرجة إنني نفسي ليس بمقدوري أن أجزم الآن بأية عبارة أو كلمة أدتها أيُهنّ: كلهنّ كنّ متجانسات مع شخصية أدلياد.
ذهبت إلى باريس أربع مرات على وجه الحصر، لأعرض نتائج العمل على الأستاذ، كنا في سباق ضد الزمن للإكمال الفيلم. مرضه جاء فجأة، لم يكن أي فرد منا مستعداً له، لم يكن عند أي منا أدنى اعتبار لأي شيء مأساوي. عرفت هذا في ديسمبر/ كانون أول 1985 فهو لم يكن يشعر بأنه في صحة جيدة وكان قد قام بعمل فحص طبي شامل ، لكنني اندهشت عندما في ليلة عيد الميلاد ، قبل الرحيل لفلورنسا، طلب مني أن آخذه إلى المطار. في الطريق ، بد أيملي عليّ النسخة النهائية لشريط الصوت المصاحب. وطلب مني أن أغيّر إهداء الفيلم إلى: “إلى ابني أندريوشا، الذي أتركه ليقاتل بهذه الطريقة”، بهذا النص.
تجاهل أسئلتي ، وقال ببساطة أنه ربما لا تكون هناك إمكانية لعودته إلى ستوكهولم بعد الكريسماس وكلّفني بأن أتولى إنهاء الفيلم. “أحضره لي غي إيطاليا” هذا ما قاله. وفي اليوم التالي للكريسماس، علمت أن أندريه مصاب سرطان.
حشدنا كل مواردنا لإنهاء الفيلم بالتحديد تماماً كما أمرنا أندريه، كي نحصل عليه جاهزاً لنريه له ولأجل ذلك فقد كان بأكمله وبلا نقاش فيلماً تاركوفيسكياً.
لكنه في هذا اليوم من يوليو / تموز 1986 ، في ألمانيا، بدا متعافياً، وأمامه فترة للتحسن. وكانت معنوياتنا مرتفعة، نمزح كما كنا من قبل. قلت له بعض الأسرار الشخصية عن بونويل، الذي كان أندريه معجباً به وكان يرغب دائماً في مقابلته. وبلغتي الروسية العرجاء، ترجمت له مقطع من التقدم في العمر، الذي فيه ينعي بونويل فقدانه الشهية واعتزاله وتخليه عن تجاربه في ضوء الحياة الطويلة التي خلّفها وراءه.
تناول أندريه الكتاب المقدس الذي كان موضوعاً على منضدة صغيرة بجانب سريره وقرأ من سفر الجامعة :
…باطلُ الأباطيل، قال الجامعة: باطل الأباطيل، الكل باطل.
ما الفائدة للإنسان من كل تعبه الذي يتعبه تحت الشمس؟
دور يمضي ودور يجيء، والأرض قائمة إلى الأبد.
والشمس تشرق، والشمس تغرب، وتسرع إلى موضعها حيث تشرق.
…العين لا تشبع من النظر ، والأذن لا تمتلىء من السمع.
ما كان فهو ما يكون، والذي صُنع فهو الذي يصنع، فليس تحت الشمس جديد.
إن وجد شيء يقال عنه: انظر . هذا جديد فهو منذ زمان في الدهور التي كانت قبلنا…
(النص ليس سيئاً على الإطلاق، لقد قلت لك) – قال المايسترو. وبالنسبة لاستجابة عقلي الدُنيوي فإن النص ذو وقع هابط ينزع إلى نغمة حزينة وأحياناً يبدو وجودنا على الأرض مفتقراً إلى الغرض. وجاءت إجابة أندريه السريعة اللاذعة في سرعة البرق إن حياتنا هنا ليست بهذه البساطة التي تجعلنا نصنفها ونضعها في هذا المنظور الأحادي. أخذ يُقلب عدة صفحات أخرى ثم استأنف القراءة:
النور حلو، وخير للعين أن تنظرا الشمس، ولأنه…
إن عاش الإنسان سنين كثيرة فليفرح فيها كلها، وليتذكّر أيام الظلمة لأنها ستكون كثيرة. كل ما يأتي باطل. إفرح إيها الشاب في حداثتك، وليسُرّك قلبك في أيام شبابك، واسلُك في طريق قلبك وبمرأى عينيك ، واعلم أنه على هذه الأمور كلها يأتي بك الله إلى الدينونة…
لعب الدين دوراً هاماً في حياة تاركوفسكي، وكان دائماً متشوقاً لمقابلة الناس المتدينين، ليناقش معهم مشاكل الإيمان. موضوع واحد تناقشنا فيه مراراً هو الحياة وإيمان أحد عماتي. أثناء فترة مرضه اكتسب أندريه كثيراً من القوة من وجهة نظرها الخبيرة بالناس والحياة. لقد ترك دعمها الروحاني وانعكاس تدينها علامة جلية على حالة أندريه النفسية. بعد الانتهاء من الفيلم تلقيت منه “بوستر” مُهدى إلى عمتي. أعطاه لامرأة لم يقابلها أبداً لكن كان يعرف أنها كرّست له العديد من صلواتها.
اعتقد أندريه أن الناس فقدوا في هذه الأيام القدرة على الصلاة وأن هذا هو الدليل على فقرنا الروحي. وكان كثيراً ما يشعر بالرغبة في عمل فيلم يستند إلى نصوص الكتاب المقدس، لكنه اعتبر نفسه رجلاً ضئيل الشأن إزاء التصدي لمحاولة ضخمة كهذه. من إذاً غيره، رغم ذلك ، كان يمكن أن يحاول هذا؟ جئنا نتأمل مستقبلنا.
فيلم أندريه الثاني كان من المفترض أن يكون “هوفمانيانا”، عن سيناريو قديم كان قد كتبه في الإتحاد السوفيتي، ومعظم السيناريوهات الكاملة قد كتبها تاركوفسكي بينما كان في الإتحاد السوفيتي. خلال عشرون عام، وقد سُمح له أن يعمل هناك خمسة أفلام فقط ، فكرّس بقية وقته للتدريس في مدرسة السينما وفي كتابة السيناريوهات. لقد خططنا للبدء في “هوفمانيانا” في خريف 1986 – وفي الوقت الذي كان يعمل فيه أندريه في نص هاملت.
كان عملاقاً في العمل، كان مشتاقاً للعمل بجدية وللعمل بكفاءة، كان مدركاً لعبقريته لكنه كان دائماً يقول إن العبقرية واحد في المئة موهبة وتسعة وتسعون في المئة عمل. كان رجلاً منضبطاً بدرجة كبيرة، يكره الفوضى التي اعتبرها مُشتّتة في عمله، وكان لا يأتي إلى المجموعة للإعداد المشاهد، إلا بعد استعداد كبير. أنا نفسي أتصرّف بشكل عقلاني لكن غالباً ما وجدت مشقة في مجاراة هذه السرعة – البراعة أو الكفاءة – التي لن نقول بصددها أن تاركو فسكي كان يُكلّف مساعديه بمطالب غير إنسانية، لكنني أذكر هذا لإعطاء فكرة عن إيقاعه وأن الفريق بكامله كان سعيداً بالالتزام بهذا الإيقاع. عبقرية تاركو فسكي لا ترجع فقط إلى المسائل الإبداعية. أيضاً كانت واضحة في مجال حرفته التقنية التي لها أهمية كبيرة في الإنتاج السينمائي باعتبار ميله إلى الكثافة التقنية. امتلك تاركو فسكي معرفة عملية ونظرية بالسينوجرافيا، وكان يعرف أن تصميم المشاهد كان مهماً بصفة جوهرية في إبداع الشخص للغته الفنية.
قراراته الخاصة بتصميم تصوير المشاهد كانت تُتخذ بعد فترات من التركيز العميق ومناقشات عديدة مع آنا آسب (المخرج الفني). وتعاونه مع إنجر بيرسون الذي كان مسئولاً عن تصميم الملابس أثبت أن لتاركوفسكي انتباه مشابه لملابس الممثلين. كان البحث عن الأشكال والألوان صعباً، للإستقرار عليها بصورة نهائية. كان القاسم المشترك لكل تلك المجهودات الهدف الحدسي لتجسيد رؤيتنا الخاصة، كانت مسألة خضوع ديناميكي للأفكار الجديدة فور أن تخطر في البال.
تمكنت من مراقبة النظام في العمل أثناء التحرير. احتوى “القربان” على حوالي 120 مشهداً محذوفاً، لكن كل واحد منها كان عرضة للفحص النقدي العميق، حيث أن تحرير الفيلم لم يكن يعني متابعة مجموعة متفق عليها من المفاهيم بشكل أعمى. إنما كان يعني عملاً إبداعياً مُنفّذاً ضمن محاور رؤية ثابتة وضمن الديناميكيات الداخلية للمادة، كانت المحافظة على هذه المحاور شرطاً للتوصل إلى الرؤية الفنية لتاركوفسكي. وكان عدد اللقطات المحذوفة لا يعطي عن مدى الصعاب التي تم مواجهتا أثناء العملية.
في باديء الأمر، كان الفيلم 190 دقيقة. المعالجة الإضافية له أنقصت 40 دقيقة. لكن المشهد الوحيد الذي أُزيل بالكامل كان هذا الذي يكتُب فيه أليكسندر خطاباً إلى أسرته، والتقطيع الآخر تم في مشاهد ظلت في الفيلم. وقد كان تاركوفسكي يرى أن الفيلم السينمائي هو وحده الفن الذي يمكن أن يستخلص الواقع في بُعده الزمني، بحرفيته.
الفيلم هو زمن فسيفسائي، وفي مقابل هذه البنية تأتي البقية من عناصر الفيلم وهي الممثلون، حيث الاختيار يكون كيفياً من جانب صانع الفيلم. كان أندريه حاضراً في كل الأوقات أثناء العمل في تصميم المشاهد، الملابس والتحرير، لا يدع مجالاً للصدفة أو الارتجال.
نفس التفاصيل ميّزت عمله مع سيفن نيكفست. تكوين الصورة، طول اللقطة، حركات الممثل داخل الإطار، تحركات الكاميرا، إلخ، كانت جميعها في الغالب في قبضة تاركوفسكي. كان أول من يُشغّل الكاميرا ويصحح أدوار الممثلين في ضوء ما يراه أمامه. بالنسبة لنيكفست، كان هذا يعني طريقة جديدة في العمل، وقال لي أن هذا سبب بعض التضارب مع المخرج حتى أدرك أن هذا التتبُع الدقيق لصور الكاميرا لا يعكس بأي حال شيئاً من عدم الثقة بالنفس ولكنه كان في الحقيقة طريقة تاركوفسكي في العمل.
إنه أيضاً تعبير عن أنواع من متطلبات تاركوفسكي التي صنعها بنفسه وألزم نفسه بها والتي لم تؤثر بأي حال من الأحوال على تصريحه بأن الاعتماد في “القربان” كان على العمل الجماعي.
تحدثنا عن مشاكل الفيلم، عن صُناع الفيلم وعن السينما الأمريكية. أخبرت أندريه عن حفل العشاء الذي أقامه شريكنا الفرنسي في الإنتاج أناتول دومان حيث قابلت إيليا كازان ورومان بولانسكي. وخرجت بالانطباع أن الأفلام التي صنعها هذان المخرجان العظيمان كانت انعكاساً واضحاً لشخصيتيهما، هكذا كان بولانسكي يحكى النوادر والحكايات بخفة ظل، سواء كانت الحكايات حقيقية أو مُصطنعة بينما كازان يرغب من وقت لآخر في أن يتذكّر بجلال ويحلل عظماء عالم السينما. كان أندريه يستمع إلى كل هذه الأخبار باهتمام.
طبعاً بدأنا نتحدث عن السينما الأمريكية. هو لم يكن يعتبر نفسه من ضمن المعجبين بها. كان كأوروبي شاعراً بجذوره. أندريه كان متواجداً في أمريكا من قبل لكنه لم يشعر أبداً بالراحة هناك، كره صناع الأفلام التجارية ولم يكن يتعامل مع الفيلم كسلعة مُطلقاً، و بالنسبة له، كان الفيلم فناً، بكراً وخالياً من أية أثقال أو تقاليد متحجرة، وكان يشعر بالأسف على صناع السينما الأمريكان الموهوبين الخاضعين للتسلّط التجاري. وقليلون في رأيه – كازان، على سبيل المثال – الذين استطاعوا مقاومة هذا الضغط.
جذور تاركوفسكي الأوروبية لم تستطع البقاء بعد استشراء هذا النوع من الاغتراب الفني. كان أندريه على الصعيد الأدبي وريثًا لدوستويفسكي، وتشيكوف، وتوليستوي، وبوشكين. بالنسبة لرؤيته الذهنية، كان يقتدي بأمثال روبلوف، ثيوفان اليوناني، ليوناردو، أو بيرو دي لافرانشيسكا. تاركوفسكي حلقة في سلسلة الثقافة الأوروبية العظيمة. بحث عن الإلهام أيضاً في شعر وموسيقى الشرق الأقصى وكان يحلم بالذهاب للهند واليابان. كان أندريه دقيقاً في قراءاته وفي اختياره الأعمال الفنية التي أحاط نفسه بها. كان مهموماً بشأن التلوث الثقافي الذي أخذ يغمرنا يومياً بجبال من القمامة. كان حكمه أقل حدة على عالم السينما وبالفعل شاهد الكثير من أفلامها بالرغم من أن تقييمه لها كان صارماً. كانت العقول المبدعة التي تحدث عنها في أغلب المرات بيرسون، وأنتونيوني،و فيلليني، وكوروساوا، وواجدا، وزانوسي، وبيرجمان.
بهذه المناسبة، أتذكّر حادثة في نوفمبر/ تشرين ثاني 1985، عندما كنا أندريه وأنا نشاهد معرض بوسترات الفيلم في “بيت الفيلم” في ستوكهولم، لاحظت وجود بيرجمان – الذي لم تاركوفسكي قد قابله مُطلقاً، بالرغم من أنهما كانا يريدان أن يتقابلا – لاحظته يخرج من إحدى دور السينما هناك. في هذه المرة، كانت المقابلة تبدو طبيعية جداً لدرجة أن كانت تقريباً حتمية الحدوث. كان بمقدور الرجلين أن يرى كل منهما الآخر من مسافة حوالي خمسة عشر متراً. الذي أثار دهشتي: كل منهما استدار للخلف، بحدة كما لو كان يؤدي أحد التمرينات التي يتقنها جيداً، وكل سار في طريقه المنفصل. ولم يتقابلا أبداً ثانية. وهكذا انصرف اثنان من عظماء هذا العالم دون أن يتلامسا.
باختصار نعود إلى تسلسل الأفكار الذي قطعه هذا التذكّر: كونه دقيقاً جداً بخصوص اختيار عناصر بيئته المحيطة الخاصة هذا أثرى عنده التجربة الروحية، ومثل هذه الصلة مع الفنانين العظام خلال عملهم اتاحت الحوار وتبادل المشاعر والأفكار وساهمت في تكوين خيال أندريه الخصب. هذه العناصر كوّنت العدسة التي مكّنته من رؤية الواقع التي كان يقوم بوصفها وخلقها في نفس الوقت.
ذكريات من هذا النوع جعلتنا مشغولين حتى نهاية هذا الصباح من يوليو/ تموز. قُدم للرجل المريض وجبة غداء من حساء رمادي، مع بعض الحبوب الرمادية وقطعة من اللحم مطهوة جيداً. أعطاني أندريه غمزة تآمر ية وابتسم من تحت شاربه المُشذّب المتساوي، وعندما ذهبت الممرضة، لوّح بيده بإذعان على ذلك الغذاء الذي لا يمكن بأي حال أن يدعى وجبة. بإشارة نهائية، دفع الأطباق بعيداً عن الأنظار. وكان بمزيج من الحزن والأمل أن اقترحت ذهابنا إلى فرنسا، فقط ستون كيلو متر بعيداً، لشريحة لحم مناسبة. تلألأت عيون أندريه، لكنه رأى في الظروف الحالية أنه ليس في استطاعة مريض تحمل مثل هذا الإسراف. كما لو كنا نعوض عن وجبة الغداء التي ضاعت، أخذنا نتذكًر سمك شيمي النيء غير المطهي الذي اعتدنا الاستمتاع به في مطعم كوري في ستوكهولم.
كانت “طقوس العربدة الطهوية” جزءاً من وقتنا الحر أثناء عملنا معاً، بالقدر الذي سمحت لنا به جداول مواعيدنا، وكانت تصل إلى قمتها هناك في إيطاليا حيث العثور على ريستوران جيد ومع ذلك بسيط أمر ليست فيه أية مشكلة.
وقد تصادف حدوث بعض المونتاج في فلورنسا، حيث الأستاذ، موطن شرفي لهذه المدينة، وقد اعتبرها وطناً جديداً، وكانت غرفة المونتاج في المبنى الذي يقيم فيه تاركوفسكي، وفي الوقت نفسه، كانت زوجته، لاريسا، تدير نواحي حياتهما العملية فهي تقوم بإعداد البيت للانتقال إليه عندما يكون أبنهما أندريوشا الذي طال انتظارهما له قادراً على الانضمام إليهما. لاريسا امرأة غير عادية. طاقتها التي لا تنفد ساعدتهما في التغلب على العقبات قبل وبعد تركهما موطنهما. كانت لاريسا تفعل كل شيء تستطيعه لمساعدة الأستاذ في عمله، وأندريه كان يُقدّر قوتها الروحية التي دعمته أثناء سنواتهم الخمس والعشرون معاً. كان بيتهما يحمل علامات مشاعرهما الفنية، وقد وجدت بعض تجاربهما المشتركة وجدت طريقها لأفلام أندريه – والدليل على ذلك إيجاد بيت من قبل إلكسندر وأدليدا في “القربان”.
إنها قصة بيت تاركوفسكي الريفي (الداتشا)، الذي خلّفوه وراءهم في الإتحاد السوفيتي.
كانت نزهة بعد الظهر حول المصحة مقدسة عند أندريه، وفي أثنائها، كنا نتحدث عن الطبيعة المعقدة للحب الموصوفة في “سفر أيوب”، الحب الذي خضع لمثل هذه الاختبارات، في المعاناة، وفي نفس الوقت كان هو الحب الذي يُوّلد الألم والبؤس والتعاسة.
كان المشي يستغرق حوالي خمسة وأربعين دقيقة، نقطع خلالها ما يقرب من ثلاثمائة متر، وكنا نتوقف للراحة على المقاعد المبعثرة فوق المساحات الخالية وعند هذا فقط أدركت كم صار أندريه ضعيفاً. المرض نفسه في هذه المرحلة لم يكن مُنذراً بسوء، كان يبدو أن الخطر قد زال، وتفاصيل الخطط التي كان يضعها أندريه كانت تفصح عن الحماس المتفائل بالمستقبل وبحالته الصحية. أنهكه مجهود المشي، فاستلقى أندريه في فراشه وتناول الكتاب المقدس، ليقرأ ثانية من سفر الجامعة:
لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السماوات وقت
للولادة وقت وللموت وقت. للغرس وقت ولقلع المغروس وقت…
للبكاء وقت وللضحك وقت. للنوح وقت وللرقص وقت.
لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت…
“هل تتذكّر” قال أندريه، “إنني أردت لفيلمنا أن يحمل عنوان، “لتفريق الحجارة وقت ولجمع الحجارة وقت؟” إنه إلى حد ما ليس له وقع حسن في اللغة السويدية”. تمدد تاركوفسكي ناظراً إلى الأيقونة هناك على حائط غرفته في المصحة. همهمة الغابة وأصوات السنونوات حلّت محل صوت كلماته. بعد فترة، استأنف قراءته:
للمعانقة وقت، وللانفصال عن المعانقة وقت.
للكسب وقت وللخسارة وقت. للصيانة وقت وللطرح وقت.
للتمزيق وقت وللتخييط وقت. للسكوت وقت وللتكلم وقت.
للحب وقت وللبغضة وقت. للحرب وقت وللصلح وقت.
فأي منفعة لمن يتعب مما يتعب به؟
قد رأيت الشغل الذي أعطاه الله بني البشر ليشتغلوا به.
صنع الكل حسناً في وقته، وأيضاً جعل الأبدية في قلبهم
التي بلاها لا يدرك الإنسان العمل الذي يعمله الله من البداية إلى النهاية.
وضع أندريه الكتاب المقدس جانباً، جذب البطانية، وراح يُملّس عليها في آلية ورتابة، وخيّم الصمت ثانية. لم يكن صمت الفراغ ؛ كان صمتاً ملئاً بالتأمل العميق.
جلسنا في الصمت لعدة لحظات. وكان دخول الممرضة،حاملة الشاي وبعض البسكويت مع دواء أندريه، هو ما أعادني إلى الحقيقة المحزنة، التي تتحرك على إيقاع وجودها الخاص. أخذت الممرضة طبق الحساء الذي أبعده أندريه، تمنت له ليلة طيبة، وأردفت على الفور بسؤال عمّا إذا كان محتاجاً لشيء – كانت كلماتها كلها خليطاً من الألمانية، والإيطالية، والإنجليزية. أومأ أندريه برأسه، وفي نفس الوقت قال بالروسية لي بأن الشيء الوحيد الذي كان يحتاجه هو الذهاب إلى إيطاليا، كانت الراحة تبدو غير ضرورية.
عندما حان وقت رحيلي كان الظلام قد حلّ. تعانقنا وقبّل كل منا الآخر، قائلاً “أراك قريباً في إيطاليا”. وكانت هذه آخر مقابلاتنا، في 26 يوليو/ تموز 1986 .
فاذكر خالقك في أيام شبابك…
قبل ما ينفصم حبل الفضة. أو ينسحق كوز الذهب، أو تنكسر الجرة على العين، أو تنقصف البكرة عند البئر.
ليرجع التراب إلى الأرض كما كان، وترجع الروح إلى الذي أعطاها.
باطل الأباطيل، قال الجامعة: الكل باطل.
في يوم جنازته، في كنيسة القديس ألكسندر نيفسكي في باريس، كنا نحمل الشمع ونسوق تحيات الوداع للفنان العظيم. أشعل القس شمعته وأرسل لهبها إلى الناس الواقفين في الصف الأمامي.
وهم بدورهم تناقلوا اللهب، لكي يتم تتويج كل الشموع في النهاية بالأضواء الصغيرة الراقصة التي صنعت سلسلة من ذكرياتنا الخاصة بأندريه تاركوفسكي.
ستوكهولم في 26 يناير/ كانون ثان 1987
* بولندي، من مدينة ودج. يعتبر من أكبر المونترين في العالم. عمل مع عديد من المخرجين العالميين. ومن فريق العمل المصاحب دائماً للمخرج الكبير أنجمار بيرجمان. قام بعمل مونتاج فيلم “القربان” مع تاركوفسكي، وهو آخر أفلام المخرج الراحل. وساعده أيضاً في أشياء أخرى كثيرة خاصة بتنفيذ الفيلم – المترجم.