أجراه: ولفجانج نيهوس

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

 

فريدريك جيمسون، أستاذ الأدب المقارن واللغة الفرنسية بجامعة “ديوك” في درهام بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو معروف جدًا بتحليلاته لثقافة ما بعد الحداثة. وبخاصة نصه “المنطق الثقافي للرأسمالية الأخيرة”، الذي كتبه عام 1984، والذي كان له أثر كبير على الدراسات الثقافية في جميع أنحاء العالم. وقد أجريت معه هذه المقابلة في الخامس من فبراير عام 2001، عندما حل ضيفًا على معهد الدراسات المتقدمة للعلوم الإنسانية في “إسين”، بألمانيا.

من بين كتبه الحديثة: “غرابة الحداثة” 2002، “بريخت والمنهج” 1998، “أصل الزمن” 1994.

ولفجانج: كنت منبهرًا جدًا بأطروحتك التي قررت أن “المدى المبالغ فيه لما بعد الحداثة” قد جاوز القدرات الفردية على الفهم. وأن عقولنا قد لا تكون قادرة على “تصور أبعاد الهويات العالمية الكبيرة عابرة القارات متعددة الجنسيات والعلاقات اللامركزية التي ألفينا أنفسنا مأسورين فيها أو مصابين بها كأشخاص تابعين وخاضعين”. أعتقد أن وصفك لـ”الفضاء العالمي” الجديد للرأسمالية باعتباره عالمًا بلا آفاق كان بالفعل شيئًا جديدًا في مطلع الثمانينات. ما هو رأيك الآن في هذه الميول بعد مرور السبعة عشرة سنة الأخيرة؟

جيمسون: أعتقد أن هذه الآراء مميزة جدًا حيث كنت في تلك الأيام قد قلت “عابرة القارات ومتعددة الجنسيات”، لأنه حتى ذلك الحين لم تكن أية كلمة جديدة قد ظهرت وربما لم تتمكن ظاهرة الكيانات عابرة القارات من بلورة نفسها بشكل كلي إلى ما نقول عنه الآن “العولمة”. وعلى الرغم من أن بعض توجيهاتي، على سبيل المثال، “فضاء المتاهة” و”اللامعرفانية”، مالت إلى هذا الاتجاه، إلا أنني أعتقد أنه الآن، أنه على الرغم من أن لدينا اصطلاح “العولمة” والظاهرة نفسها، إلاّ أننا باستطاعتنا الآن، بالإضافة إلى ذلك، الفهم بشكل أفضل، ما الذي تنتسب إليه ثقافة ما بعد الحداثة، وكيف أنها تحديدًا هي ثقافة العولمة.

ولفجانج: الكثير من النظريات التي تناولت موضوع ما بعد الحداثة تتعامل مع مفاهيم الذاتية، وبخاصة مع اللامركزية (على سبيل المثال ميشيل فوكو وجيل دولوز). هل ظهرت هذه الإمكانيات الجديدة يف أثناء تناول ذلك الموضوع من أجل فهم واستيعاب نظام العولمة برمته؟

جيمسون: هذه النظريات الخاصة بفوكو ودولوز مالت كلها نحو المبدأ الثالث الخاص بي، وهو عدم إمكانية شرح أو توصيف الذاتية والتعبير عنها. لست متأكدًا إن كانت “اللامركزية” تعني بالضرورة أي شيء من الناحية الفلسفية. ظّل فوكو حداثيًا وكانت لديه رؤية صوفية جدًا فيما يتعلق بهذا اللاوعي الخاص باللغة الذي نصل إليه، عندما نترك الوعي والذاتية المركزية خلف ظهورنا. لدى دولوز مفهوم شيق لنشر الذاتية أو الذاتيات بهذه الطريقة اللامركزية، لكنني شعرت دائمًا أنه كان ثمة طريقين لتحقيق اللامركزية. أحدهما يتجه نحو هذا التصور الفرداني للذات المنعزلة، والتي هي خارج المركز. والآخر يمضي في اتجاه الجماعة. يتراءى لي الآن أن بإمكاننا الفهم أكثر عن طريق العولمة، لكن أيضًا باستخدام التكنولوجيا الجديدة، كيف أن الذات لا تذوب بشكل تام وكلي، وإنما تمتد إلى داخل عدد لا نهائي من شبكات العلاقات المتداخلة، التي هي على وجه التحديد تلك الذاتيات الأخرى للذوات الأخرى. وفي الحقيقة ربما حتى ذواتنا نحن الفردية هي فعلاً ظاهرة جماعية. لذلك سأمضي بهذا الوصف للذاتية المعاصرة لما بعد الحداثة في اتجاه ما هو جمعي أكثر مما سوف أذهب بهذه الذاتية المعاصرة نحو الذات المنعزلة الفردية اللامركزية تلك.

ولفجانج: مفهوم “الذات المنقسمة” هو محاولة إضافية لوصف العمليات والتطورات التي تعتري الذاتية.

جيمسون: حسنًا، هذا هو المفهوم الآخر الذي ينبغي على المرء التحدث بشأنه. ما كان مفيدًا في فترة البنيوية التحليلية في فرنسا كان بداية حديثهم عن أوضاع الذات. ثم فجأة أدرك الناس أننا جميعًا نشغل عددًا لا حصر له من الأوضاع الذاتية. ذلك أنه على سبيل التحدث في السياسة مثلاً: نجد أن شخصًا أسود في الولايات المتحدة ليس مجرد شخص أسود، بل أيضًا امرأة، وربما هناك أشياء أخرى جنسية، وأشياء لها علاقة بالنوع والعرق وهكذا. نحن جميعًا نشغل بذواتنا أوضاعًا ذاتية متعددة ومتنوعة. أجد أنه وصفًا مفيدًا جدًا أيضًا.

ولفجانج: لك بعض المحاولات في وصف “منطق” التمثيل أو الوصف والتمثل الجمالي للرأسمالية الأخيرة. كيف يعمل مثل هذا التصوير أو التمثيل أو التصور الذهني ذو الأشكال الجديدة في رأس المال التمويلي؟

جيمسون: أعتقد أن هذا يدور في فلك “التجريد”. كان التجريد شيئًا هامًا جدًا في فترة ما بعد الحداثة أيضًا، إلاّ أن ذلك التجريد كان انطلاقًا من الموضوعات المرئية كما في التكعيبية وما إلى ذلك. يُخيّل إليّ أننا نعرف عن طريق رأس المال التمويلي شكلاً جديدًا من أشكال التجريد هو مثل الصورة عن طريق التجريد عن الواقع. العودة الظاهرة لما بعد الحداثة إلى مزيد من أنواع الفن الواقعية في مقابل عظمة الفن الحديث تلك ليست حركة بعيدة عن التجريد، إلاّ أنها تتجه نحو نوع جديد كلية من التجريد هو التجريد المتعلق بالصورة. يبدو لي أن هذا سيصبح القضية المركزية والظاهرة السائدة لفن ما بعد الحداثة. لهذا السبب لم يعد يوجد هناك الكثير في فنون اللغة من هذه التجريدات، لكنها موجودة في الفنون المرئية والفنون الفراغية أو المكانية.

ولفجانج: واحد من مصطلحاتك المبكرة هو “التنظيم المعرفي الخرائطي”. بإمكانك هذه الأيام العثور على اتجاه شائع نحو بناء النماذج وضروب المحاكاة. هل تحب التعليق على هذا؟

جيمسون: أعتقد بما لا يدع مجالاً للشك أن ثمة علاقة ما، ربما كان مصطلحي الأصلي قد تم اختياره بشكل سيئ، لأننا نقوم بالتخطيط، ووضع خرائط بالفعل، كانت وجهة نظري أنه لا يمكن أن نضع تنظيمًا خرائطيًا معرفيًا، لأن رسم الخرائط نفسه ليس تمثلاً أصيلاً، إنه يقوم مقام التمثل وينوب عنه. كل هذه النماذج التي نتحدث عنها هي محاولات للتغلب على مشكلات التمثيل أو التصوير اللغوية عن طريق شيء ما يكون ظاهرًا ومرئيًا.

الذي قصدته أصلاً بعولمة التنظيم الخرائطي كان العقلنة أو الفهم، كيف يتماسك هذا النظام الجديد لكي يبدو بطريقة ما اقتصاديًا أو حتى سياسيًا واجتماعيًا شاسعًا جدًا. يمكن أن يكون لدى المرء فكرة واضحة عن آلية عمل الأشياء أو جريان الأحداث في عصر الدولة القومية أو في عصر الشبكات الإمبريالية. كان يمكن للمرء أن يجد الأحداث أمامه أو يمكنه البحث عنها وعمل نماذج أكثر واقعية. أو يمكنك النظر إلى تكنولوجيا ما بعد الحداثة. تكنولوجيا الحداثة مرئية. إنها المحركات، الطائرات إلخ. لكن تكنولوجيا الكمبيوتر ليست مرئية، ليس هناك شيئًا بإمكان المرء النظر إليه. إن كتّاب روايات الخيال العلمي المعاصرين – أتصور أن الناس يعرفون “الخيال العلمي”، إنها كتب ممتعة جدًا – وهي تحاول بطريقة أو أخرى التغلب على عدم قابلية هذا العالم القرية السيبرناطيقية الجديدة على التجسد ومن ثم عدم قابليته للتمثل الذهني. ومثل كل الأعمال الفنية، هناك النجاحات وهناك الإخفاقات.

ولفجانج: أريد العودة إلى مفهومك عن التجريد. أتصور أنه بالإمكان ملاحظة الاتجاهات المختلفة المتعلقة بـ “ما وراء الجماليات” (ما وراء الإعلام، ما وراء الدراما وما إلى ذلك) في الإنتاج الثقافي المعاصر. إن إنتاج أو إبداع عمل فني هو في حد ذاته تيمة هذا العمل. ما رأيك في هذا؟

جيمسون: أعتقد أن على الفرد أن يميز ذلك من هذا الذي يطلق عليه انعكاس للأعمال الحديثة القديمة، التي تحدثت غالبًا عن نفس الكتاب الذي تتم صياغته، تلك الأعمال التي تطرح نفسها باعتبارها أعمالاً فنية. وهي حين تطرح نفسها هكذا تدرك أنها كمضامين، في عزلة اجتماعية بعينها، وكان عليها أن تصنع دعايتها الخاصة، وترشح نفسها كإنتاج فني جديد. الشيء الذي تم تدميره، هو فقط إطار عرض العمل الفني نفسه. كل هذا يتحطم ويتبدد في العالم. ولذلك فإن الهيمنة لن تكون تصويرية، لن تكون القشرة الخارجية، بل ستكون التركيب على سبيل المثال. تلك الأعمال تنحو أكثر وأكثر منحى الأعمال الفنية الفراغية، التي تتدفق أو تنسكب إلى الخارج إلى اتساع العالم الخارجي كله، والتي لا تعرف فعلاً تمييزها الداخلي المستقل جماليًا عن بقية العالم الذي تتواجد هي فيه. يعتبر هذا إلى حد ما – وهذه ليست بالفكرة الجديدة – انهيارًا للعمل الفني كمضمون أو مادة وتبعثره في أرجاء سياقه.

ولفجانج: عالجت كتاباتك التكنولوجيا باعتبارها تجسيدًا لشيء آخر، ومن ناحية أخرى قمت بتحليل مستوى جديد من التجريد، الذي قدمته التكنولوجيات الجديدة. هل لك أن تشرح لنا هذا بشيء من التوسع من فضلك؟

جيمسون: غالبًا ما اتخذ الكثير من تواريخ الأفكار التكنولوجيا أو العلم كفيصل أو كمطلب نهائي. أعتقد أن هذا خطأ في الفهم حيث أننا دائمًا بطريقة خفية سرية، ربما دون أن ندري، نفكر في التكنولوجيا، كوجه أو استعارة للعلاقات الاجتماعية. ويمكن أن تكون هذه الاستعارات ذات أنواع مختلفة، نجد أن فترة الحداثة بالذات أن الطائرة، والسفينة البخارية، والأوتوموبيل، كانت تجسيدات للطاقة الهائلة. اليوم تكنولوجيا الكمبيوتر تتمثل بالذات في هذه التجسدات من الشبكات. لكنني أعتقد أيضًا أنها تعني دائمًا نموذجًا جديدًا من العلاقات الإنسانية. على المرء أن ينظر دائمًا إلى تفاصيل وضروب التكنولوجيا المختلفة بهدف اكتشاف تلك الطبقة المجازية الخاصة بالعلاقات الاجتماعية التي هي بالضرورة، بالنسبة لي، دائمًا ما تكون مشمولة داخل التكنولوجيا.

ولفجانج: بالمناسبة ما هو مفهوم الإنترنت عندك؟

جيمسون: بالتأكيد ظهور نوع جديد من الجماعية. أي نوع، كيف يتعامل المرء معه، لا نعرف. نحن فقط في فترة الانتقال، في لحظة الانبثاق. لكن هذا بالتأكيد يجعل كل أنواع الأشياء ممكنة ومتاحة، تلك التي كان من المحال تمامًا التفكير فيها خلال فترة الحداثة. إن الإنترنت نوعًا مختلفًا من السلطة أو الصفة الزمنية العالمية. هناك استعاد فوري لإلغاء حدود المكان. إنها تجعل المعاملات المالية وتحويلات الأموال متاحة. إلاّ أنها أيضًا تجعل كل أنواع العلاقات الجماعية ممكنة وهي لم تكن كذلك من قبل. فيما مضى، إذا عنّ لك تفكير في الجماعية، كان عليك التفكير في جماعة من الناس معًا بطريقة ما في مكان ما أو ربما متصلين عن طريق جهاز الراديو. لكن الآن هناك مجموعة جديدة كاملة من العلاقات، ونحن لم نبدأ بعد في استكشاف ما الذي يعنيه هذا بالنسبة لنا، سواء بمعناه الجيد أو السيئ.

ولفجانج: يتحدث بعض علماء الثقافة عن النهاية القادمة لما بعد الحداثة وميلاد ثقافة “التكنولوجيا الحديثة”، تحول ثقافي جديد يقوم على أساس التجسيدات الجديدة التي لم تظهر بعد للتكنولوجيا، نظام كلي من العلاقات التكنولوجية المستقبلية في المجتمع. إذا قرأت الرواية الجديدة “لوليام جيبسون”، (كل أفواج الغد)، سيتولد لديك انطباع بأنه مغرم جدًا بفكرة ما يسمى “غرابة التكنولوجيا”. إنه مفهوم تخميني جدًا عن اختراع الذكاء الاصطناعي الحقيقي وآثاره المجهولة على المجتمع.

جيمسون: أنا ماركسي، وأعتقد أن الحقائق المطلقة هي الحقائق الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا أرى أن التمجيدات التكنولوجية من هذا النوع أيضًا كاستعارات أو رموز لبعض الأشياء الاجتماعية. عندما يقول الناس أن ما بعد الحداثة قد انتهى، فإنهم يقصدون بذلك أنواعًا بعينها من ما بعد الحداثة تم التخلي عنها وطرحها وراء ظهورنا. لكنني سأقول إن ما بعد الحداثة قد بدأ لكي يتطور فقط، وجيبسون يصف جزءًا من هذا ويحاول إبرازه وتجسيده بشكل فني.

ولفجانج: بإمكانك الحديث عن التناقض بين الاقتصاد والتكنولوجيا، حيث يصبح النظام الرأسمالي للاقتصاد أكثر قيدًا وعائقًا في طريق تحقيق الإمكانات الكامنة في حقل التكنولوجيا. ما هي رؤيتك للتضمينات الطوباوية للتكنولوجيا؟

جيمسون: بالطبع، الكلمة المفتاحية هي “التناقض”. أي وكل هذه النظم، ونظامنا بصفة خاصة، يعرف تناقضًا بعينه، ذلك الذي يحاول حلّه، وهو يصارع من أجل حلّه. تحاول القوى التقدمية حله بطريقة جماعية، بينما تحاول القوى الأخرى حله عن طريق الثروة ورأس المال. النقطة الحاسمة هنا ستكون ببساطة الملكية الخاصة للمعلومات. إنه من الصعب جدًا الآن امتلاك الملكية الفكرية في هذا العصر المعرفي السيبرناطيقي. هذا تناقض جوهري جدًا للرأسمالية. عليهم أن يحاولوا عن طريق سلطة الدولة التحكم في ملكية هذه الأمور، وإلاّ ستصبح هذه قوة تحطم ذلك المتاح وفي الواقع وبطريقة معينة سوف تلغى هذه الملكية الخاصة. وعليه فإن هذا هو التناقض المثير جدًا، الذي لا يلوح في الأفق حلّه ولو بشق النفس.