محمد هاشم عبد السلام

 

فيلم “الجانب الآخر للأمل“، هو أحدث أعمال المخرج الفنلندي الشهير “آكي كوريسماكي”، صاحب العديد من الأعمال المتميزة والمسيرة السينمائية الحافلة بالعديد من الجوائز، والتي كان آخرها فوز فيلمه “الجانب الآخر للأمل” بجائزة أحسن إخراج في مهرجان برلين السينمائي الدولي الأخير.

مع مطلع التسعينات، وبعد إخراج آكي للعديد من الأفلام القصيرة والتسجيلية المتميزة بالفعل والفريدة في أسلوبها وتنفيذها وموسيقاها، بدأت سينما آكي الروائية تتميز بأسلوب غاية في الأصالة والتفرد مما منح صاحبها بصمة خاصة لا تُخطئها عين المتابع لسينما آكي والسينما الاسكندنافية والعالمية بصفة عامة، حتى وإن تداخل الأسلوب بعض الشيء وسينما روي أندرسون الروائية أو أورليش زيدل التسجيلية. لكن في فيلم “الجانب الآخر للأمل”، برزت مشكلة الأسلوب على نحو غريب للغاية، وبدلا من أن يكون ميزة وبصمة خاصة مميزة للفيلم، صارت عبئًا ملحوظًا على الفيلم، وشكلت مُعضلة بالفعل بالنسبة للفيلم وتلقيه سواء على مستوى البنية الفنية الزمنية أو تكوينه البصري على الشاشة تحديدًا.

فمنذ “فتاة مصنع الكبريت”، أحد أهم وأقوى أفلام آكي كوريسماكي، وأسلوبه يعتمد بشكل أساسي على الكاميرا الثابتة خلال معظم فترات الفيلم، إن لم يكن الفيلم بأكمله، والإيقاع الزمني البطيء نسبيًا، والكادرات البسيطة، والديكورات غير المتكلفة، والمونتاج العادي، كذلك الإضاءة الشاحبة في معظم الأحيان، وغلبة التصوير الليلي والداخلي في أحيان كثيرة، ناهيك بالصورة التي تبدو باهتة لونيًا وفقيرة في أغلب الأفلام، وكذلك الأداء شبه الآلي للممثلين، حتى فيما يتعلق بطريقة نطقهم للجمل الحوارية، إلى جانب اعتماد آكي على مجموعة ثابتة من الممثلين لم يتخل عنهم قط على امتداد مسيرته الفنية، وعلى رأسهم بالطبع الممثلة القديرة والرائعة “كاتي أوتينن”.

كل ما ذكرناه من ميزات أسلوبية خاصة ومتفردة بأفلام آكي كوريسماكي، من المفترض أنها تشكل طابعًا جماليًا مميزًا ولا تستدعي أي قدر من الغرابة أو العبء أو تأثر بالمرة على المستويات الفنية بالفيلم، لكنها أثرت بالفعل كما ذكرنا من قبل، فما السبب؟ السبب يرجع إلى أن ذلك الأسلوب المميز الذي انتهجه آكي على امتداد مسيرته طبع أفلامه بميزة كونها تدور في سياق زمني ثابت يكاد يكون خارج السياق الزمني المعاصر، سياق زمني خاص بتلك الأفلام على حدة، حتى مع فيلم مثل “جحا”، الصامت بالأبيض والأسود، على سبيل المثال. لكن عند التطرق إلى تناول موضوع معاصر سينمائيًا بأسلوب يميل بالأساس إلى تجميد السياق الزمني، تبرز المفارقة. واللافت هنا، أن تلك المفارقة لم تبرز على نحو جلي في فيلمه الروائي السابق “لو هافر”، بالرغم من أن الفيلم كان من أوائل الأفلام التي تناولت ونبهت لمشكلة اللاجيئن والهجرات غير الشرعية لأوروبا.

لكن مع فيلم “الجانب الآخر للأمل”، برز ذلك العيب على نحو جد صارخ، ولم يكن بإمكان المرء التغاضي عن أو ابتلاع أسلوب كوريسماركي، نظرًا لأنه بالفعل شكل عائقًا أمام تلقي الفيلم وقضيته على النحو اللائق. فمن المفترض أننا في مدينة هلسنكي، وأن الأحداث تتناول أزمة أحد اللاجئين السوريين الذي وصل حديثًا عن طريق الخطأ إلى ميناء هلسنكي، وحيث سيعمل على تقديم طلب لجوء، ومن ثم محاولة العيش والاستقرار حيث حط به الرحال. لكننا نشعر، مع الأسف الشديد، ومنذ الدقائق الأولى من الفيلم، وحتى نهايته، وكأن ثمة ستارة ما بيننا وبين عالم الفيلم تحول دون التفاعل معه أو احتضانه والاكتفاء بنوع من الفرجة البريختية الباردة غير المتفاعلة مع ما نراه على الشاشة، لأنه ببساطة شديدة، التركيبة السحرية التي دائمًا ما نجحت وبتميز في الأفلام السابقة، أتت هنا بنتيجة جد عكسية.

بنى آكي السرد الدرامي لفيلم “الجانب الآخر للأمل”، مستعينًا بخطين دراميين متوازيين يتقاطعان لاحقًا قرب منتصف الفيلم تقريبًا. الخط الأول خاص بالتاجر “فيكستروم” (سكاري كوسمانن) الذي يُصفّي ويُنهي تجارته فجأة ويهجر زوجته ويشرع في تغيير نمط حياته ومعيشته وبدء حياة جديدة، فنجده يشتري أحد المطاعم الصغيرة البائسة، الذي باعه صاحبه نظرًا لتراكم الديون من جانب الموظفين من ناحية، وقلة الدخل المادي أو العائد اليومي للمطعم شبه المهجور من ناحية أخرى. ويحاول “فيكستروم”، الذي يبدو أن لا خبرة لديه بالمرة في إدارة المطاعم، تبين كيفية التصرف في أمر ذلك المشروع، الذي يمضي كل ما فيه على نحو يبدو دون هدف أو تخطيط أو دراسة،  وحتى يبدو أن “فيكستروم” غير مهتم بنجاح المشروع من عدمه.

الخط الآخر خاص بوصول الشاب السوري العشريني “خالد” (شيروان حاجي)، والذي نعرف لاحقًا أنه قد فر من حلب، وعلق وشقيقته على أحد الحواجز بالقرب من بلجراد وانفصل أحدهما عن الآخر، وفر خالد ووجد نفسه في أحد الموانئ البولندية، وهناك تعرض للضرب والاعتداء والمطاردة، الأمر الذي دفعه إلى الاختباء داخل سفينة شحن مُحملة بالفحم، يهبط منها ليجد نفسه في هلسنكي، وهناك يقدم طلب اللجوء، الذي يُرفض لاحقًا برغم المعاملة الكريمة التي يلقها، وبعد سماع قصته المؤثرة، الأمر الذي يضطره للهرب أثناء ترحيله، بحثًا عن أمل، وحياة جديدة كريمة بعض الشيء، وإن كانت في الخفاء.

بهروب خالد، الذي كان قد تعرض لمحاولات تحرش وضرب من قبل بعض المتطرفين والمتعصبين الكارهين لوجود اللاجئين أو الغرباء بصفة عامة، يتقاطع الخطان السرديان، فيلتقي خالد بصاحب المطعم “فيكستروم”، ويتبادلان اللكمات بعدما ظن خالد أنه يتربص به ويريد إيذائه أو الإبلاغ عنه، ولاحقًا يتفاهمان ويتبناه “فكستروم” ويوظفه عنده، ويساعده في استخراج أوراق هوية مزورة، ويتعامل معه بكل الإنسانية الممكن تصورها، والتي لم تخطر على باله من قبل، وحتى يساعده “فيكستروم” في العثور على شقيقته، بعدما وردت أنباء عن أنها على قيد الحياة بأحد الأماكن، وسرعان ما يسترجعها ويحلمان ويخططان للعيش معًا.

المثير في الأمر أن فيلم “الجانب الآخر للأمل”، يتقاطع بالتأكيد مع فيلم “لو هافر”، الذي تدور أحداثه في ميناء لوهافر الفرنسي، وتتمحور الأحداث حول مشكلة الطفل الجابوني “إدريسا” الذي كان ضمن حاوية للاجئين كانت متجهة إلى بريطانيا في الطريق إلى أهله، وهروب “أدريسا” في حواري لوهافر، وإيواء الفرنسي الطيب “مارسيل” له، وبذل أقصى طاقته من أجل وضعه على إحدى المراكب المُبحرة إلى بريطانيا. أيضًا، قصة ما تعرض له خالد بطل فيلم “الجانب الآخر للأمل”، تذكرنا ببطل فيلم “رجل بلا ماض” (2002)، الذي تعرض للضرب على يد مجموعة من المتحرشين والبلاطجة الذين يتسكعون بالقرب من الموانئ ويعتدون على البشر ليلا ويسلبونهم ما يملكون، لكن في الفيلم الأخير، فقط أصيب البطل بفقدان للذاكرة، وتم التصدي من قبل سكان الحي لتلك المجموعة في نهاية الفيلم. في حين كان مصير خالد، ومن تعرضوا له، والعقاب الذي سينالونه، مجهولا.

فقد أبى آكي أن يختم فيلمه الخاتمة السعيدة المعتادة، فإذ بخالد، يتعرض للطعن على يد أحد المعصبين الذين سبق لهم مهاجمته من قبل. يسقط خالد على الأرض في خاتمة الفيلم دون أن نعرف مصيره على وجه اليقين، فقد آثر آكي ترك النهاية مفتوحة. لكن هل تعمّد ذلك ليؤكد أو حتى يُلمِّحُ إلى أن الشر سينتصر في النهاية، وأن اليمين المتطرف سيسود أو ينتصر؟ أم هي مجرد صرخة نتبيه وتحذير لأوروبا ضد مخاطر تفاقم وتعاظم قوة وخطر هؤلاء مستقبلا؟ لا أحد يعلم على وجه اليقين، ولهذا السبب كان آكي موفقًا في ترك النهاية مفتوحة لأن ما سيحدث في أوروبا خلال السنوات اللاحقة، بسبب تلك الأحداث وتبعاتها، لا يمكن لأحد التكهن به.