محمد هاشم عبد السلام
يُعدُّ المُخرج الأميركي وودي آلن، المُتعدد المواهب، أحد أكثر المُخرجين المُعاصرين غزارة وشهرة وتأثيرًا في جيله. والمُؤكد أن أفلام آلن، رغم تفاوت مُستوياتها، أتت ببصمات فارقة في تاريخ السينما ستظل حيّة في الذاكرة لفترة طويلة، وستستمر في إمتاع الجمهور لسنوات مقبلة. الأسباب عديدة، مُرتبطة بما طرحه من موضوعات غزيرة، فكرية ونفسية واجتماعية، وحتى سياسية. وذلك بأساليب فنية وطرق إبداعية واشتغالات جمالية خرجت كثيرًا عن السائد، وتركت بصمتها الخاصة المميزة. لكن، هل توفر فيلمه الأخير “ضربة حظ” (2023)، المعروض مؤخرًا في الدورة الـ80، لـ“مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي“، على أي من هذه الأساليب أو الفنيات، على غرار أفلامه القديمة أو القوية والعميقة التي صنعت مجده؟
سمات أفلامه
تميز عدد من أفلام وودي آلن، وشخصياتها الرئيسية، بنوع ملحوظ من الهوس بالسخرية اللاذعة، والتحلي الدائم بروح الدعابة، وإطلاق النكات. السبب أن أغلب الشخصيات عُصابية، وعصبية، ولا تشعر بالأمان، ومهووسة بمشاكلها الخاصة، وتُعاني دائمًا من القلق والشك بالنفس. إنها قلقة باستمرار بشأن نفسها وعلاقاتها ومِهَنِها ومكانها في العالم. ولذا، غالبًا ما تسعى للعثور على معنى لحياتها. تستكشف فلسفات وأديان وعقائد مختلفة، لكنها لا تجد إجابة سهلة، في الغالب. ومن هنا يأتي إحباطها. لذا، في مواجهة عبثية الحياة، والكفاح من أجل التأقلم معها، تتحلى شخصياته بروح السخرية. وتمزج بين التهكم على الذات والسخرية المريرة من الواقع، حتى وإن انتهت دعاباتها على نحو سوداوي للغاية. ومن هنا، كانت أصالة وجدة وطرافة وصدق الكوميديا في أفلام آلن.
إضافة إلى الحضور القوي للكوميديا في أفلامه، أخرج آلن أيضًا عددًا من الأفلام الجادة جدًا. مثلًا، “جرائم وجنح” (1989)، وهو أول فيلم جدي تأمل فيه صراحة المأزق البشري في عالم بلا نظام أو قوانين أو عقائد. وأيضًا، فيلم “الحب والموت” (1975)، وغيرهما من أفلام تطرقت إلى موضوعات أكثر قتامة، مثل الموت والفناء والصدفة والحظ وطبيعة الخير والشر. وإلى جانب شهرة أفلام وودي آلن ذات الموضوعات الفكرية والفلسفية الفكاهية الصادمة، وشخصياتها الغريبة، أو الشاذة، الواقفة على شفا الجنون، نلاحظ أيضًا مدى براعة الحوارات في أفلامه، وحِدتها وسرعتها، وأيضًا عمقها الحامل لأكثر من وجه ومعنى. حوارات تنطق بها شخصيات غالبًا ما تكون ذات بديهة سريعة، وموهبة لافتة في صياغة عبارات ذكية.
![](https://cinarts24.com/wp-content/uploads/2023/10/images.jpeg)
وذلك لأن الشخصيات، عادة، على قدر كبير من الوعي والعلم والثقافة، أو من المثقفين والفنانين الذين يتصارعون مع الأسئلة أو الأفكار التأملية الكبرى في الحياة. ومن هنا، أيضًا، نلمس مدى مناسبة وملائمة الحوار للشخصيات، وأنه ليس موضوعًا على لسانها بطريقة مُتصنعة. ولهذا، يُعد الحوار، في أغلب أعمال وودي آلن، أحد أهم الفنيات التي تجعل مشاهدة أفلامه مُمتعة ومثيرة ومشوقة للغاية، وقبل كل شيء، دافعة ومحفزة على التفكير والتأمل.
إلى جانب براعته في رسم الشخصيات، وأستاذيته في كتابة سيناريو مُتقن ومُقنع، وموهبته اللافتة في صياغة الحوار، يأتي فكر آلن الإخراجي والجمالي ليخدم ويُبرز كل هذا. مثلًا، عادة ما تكافح السينما، خاصة سينما هوليوود التقليدية، للإيهام بأن العالم الذي نُشاهده حقيقيًا، أو واقعيًا. في حين تعمد وودي آلن العكس في كثير من أفلامه. ونجح في هذا بقوة وفنية وبراعة، وحتى طرافة لافتة للانتباه بشدة. المُحزن أن تلك السمة الفنية الفارقة، أو المُميزة لأفلامه، لم تعد موجودة الآن في أعماله الحديثة. وربما لم تعد تشغله بالمرة. لهذا ليس غريبًا أن آلن بات، منذ سنوات، يصنع أفلامًا تُوحي أو تخلق إيهامًا بأن العالم الذي نُشاهده حقيقيًا. والأنكى أنها باتت تُصنع على النمط الهوليوودي التقليدي الذي كثيرًا ما سخر منه بشدة.
أيضًا من أهم النقاط التي تُحسب لسينما وودي آلن عبقريته وصدقه في التركيز على العلاقات الإنسانية، خاصة بين الجنسين. سواء في إطار التعارف المُؤدي إلى علاقات حب وغرام وارتباط، واستكشاف حدود الرومانسي، أو الأفلاطوني منها. وفي ما يتعلق بالعلاقات داخل إطار مُؤسسة الزواج، أو أي صيغة أخرى للعيش المُشترك، أو تكوين أسرة بالمعنى النمطي. ترتب على هذا طرحه المتكرر العميق لكل ما يتعلق بتحديات العلاقات الثنائية المعاصرة. ولذا دائمًا ما تسود أفلامه قضايا مثل الانفصال، والعلاقات الفاشلة، والخيانة الزوجية، والطلاق… إلخ. وغالبًا ما تتعرض شخصيات أفلامه للخيانة. في “جرائم وجنح” (1989)، مثلًا، نجح آلن إلى حد كبير جدًا في ترجمة هذا الموضوع. حيث يفلت البطل ببساطة من قتله لعشيقته. ليس فقط لأن الشرطة لا تشتبه في ضلوعه في الجريمة، وأنه رتب لها، بل أيضًا لأنه، بعد فترة قلق قصيرة، لم يعد يشعر بأي ذنب بالمرة. وبات يحيا حياة سعيدة وراضية وغنية تمامًا. موضوع تماس، وتكرر، في أكثر من فيلم من أفلامه، بتنويعات مُختلفة، آخرها “ضربة حظ”.
أيضًا تناول آلن موضوع أو تيمة الحب المُجهض، بعمق شديد، ومُؤلم أحيانًا. كما تعمق في رصد موضوع الحب المُستحيل، أو حالات الحب المُتبادل التي لا تجلب التحقق والامتلاء، بل الاختناق. وذلك بطرق ساخرة ومريرة، ومُشوقة أيضًا، في أفلام مثل “الحب والموت” (1975)، أو حتى “آني هال” (1977). من هنا، كان تناول آلن العميق جدًا لموضوع خطير ومُهم للغاية مُتعلق باستمرار الأمل الزائف لدى البشر في علاقاتهم ببعض، رغم الطبيعة غير المنطقية والمجنونة والمريضة والعبثية لبعض العلاقات.
![](https://cinarts24.com/wp-content/uploads/2023/10/ملصق-فيلم-آني-هال-225x300.jpg)
ونقصد العلاقات المتعددة، سواء بين الأحبة، أو الزملاء، أو الأصدقاء… إلخ. وكيف أنه من دون ذلك الوهم، أو الأمل الزائف، ستكون الحياة شديدة الحزن والوحدة بدرجة لا تطاق. وأننا جميعًا بحاجة إلى الخيالات، أو الأوهام التي تجعل الحياة مُحتملة. وأن كل ما نحن مُضطرين للمُضي، أو الاستمرار، فيه، هو محض أوهام وزيف.
لكن، رغم نغمة السُخرية القاتمة، أو المريرة، الناضحة من موضوعات وشخصيات ومُعالجات أفلامه، إلا أن وودي آلن مُتفائل في نهاية المطاف. أفلامه، إجمالًا، تحتفي بالروح الإنسانية. بمُرونتها والأمل الذي يحدوها، حتى في مُواجهة النكبات. ويُمكن اعتبار كثير من أفلامه بمثابة تذكير بأنه، حتى في أحلك الأوقات، هنالك دائمًا ما يدعو للضحك والمقاومة والمُواصلة، أو الاستمرارية.
“ضربة حظ”
في جديده الرومانسي، “ضربة حظ“، تدور الأحداث حول فاني (لو دو لاج)، شابة عصرية رقيقة وجميلة جدًا تعمل في مجال تنظيم المعارض الفنية والمزادات. مُتزوجة وسعيدة، بعد تجربة فاشلة أفضت إلى طلاق، من جون (ميلفي بوبو). وهو رجل أعمال ثري، ناجح جدًا، مهووس بالامتلاك والتملك. رغم الخلاف الكبير بينهما، عمريًا وماديًا واجتماعيًا، إلا أنهما على قدر كبير من الانسجام والتفاهم معًا، بل والاقتناع بأن أحدهما يحب الآخر فعلًا.
تمضي الحياة بينهما على نحو عملي روتيني طبيعي إلى أن تلتقي فاني، مُصادفة، بصديق دراسة قديم، آلان (نيلز شنايدر). يتبادلان أرقام الهاتف. يتحدثان مرة بعد الأخرى. وببساطة، يتفقان على اللقاء من حين إلى آخر، ولو لتناول الغداء فحسب. إلا أن الأمور تتطور تدريجيًا، وبسرعة، إلى علاقة غرامية مُلتهبة. وسرعان ما يعلقان، بصدق وبقوة، في علاقة حب أفلاطونية مُتأججة، يصعب التخلص منها. سيما وأن فاني تجد أن شخصية آلان على النقيض تمامًا من زوجها. إضافة إلى رومانسيته، وحبه الصادق، يتسم بالتواضع والمرح والتلقائية. يكتب روايته الأولى، ويُحاول التحقق كأديب. وفي الوقت ذاته يعيش حياة بسيطة، تكاد تخلو من الهموم والعُقد النفسية والتعقيدات الحياتية.
![](https://cinarts24.com/wp-content/uploads/2023/10/من-فيلم-ضربة-حظ-300x200.jpg)
بطبيعة الحال، وببساطة بالغة، يكتشف جون العلاقة، لكنه لا يُواجه زوجته بالأمر، ولا يفضح كذبها. وفوق ذلك، لا يرغب في الانفصال عنها لفرط حبه لها. إلا أن جرحه الذكوري يدفعه إلى تصرف إجرامي، بغية الانتقام، والتخلص من أمر غريمه آلان. ينجح الأمر، ويستأنف جون حياته العادية الطبيعية مع فاني، وكأن شيئًا لم يكن. لكن بمحض الصُدفة، أيضًا، تكتشف والدة فاني، كاميل مورو (فاليري ليميرسييه)، الأمر. وذلك بعد شك واسترابة في تصرفات جون وسلوكياته السابقة. ما يضطر جون، حماية لحياته ومصالحه وزواجه، إلى اتباع الطريقة الإجرامية نفسها تقريبًا مع حماته. إلا أن الطريقة السهلة والناجعة، المُنفذة من قبل، ينقلب سحرها ضده، هذه المرة، بمحض الصُدفة، أو سوء الحظ. ويختتم آلن الأحداث العادية المُكررة للفيلم بهذه المُصادفة، الغريبة، غير المُقنعة بالمرة، حتى من حيث تنفيذها سينمائيًا.
يطرح آلن في “ضربة حظ” أحد الموضوعات التي طرحها من قبل في أكثر من فيلم، حيث يحاول استكشاف مزيد عن موضوع الصدفة. وكيف أن الصدفة تتضمن أو تحتوي على أكثر مما نراه. طوال الفيلم، تتشكل حياة فاني وجون من خلال سلسلة من المُصادفات، الجيدة والسيئة. في إشارة إلى أن الصُدفة ليست مُجرد حدث عشوائي، بل قوة تلعب دورًا مهمًا في حياتنا. وأيضًا، على أننا لا نستطيع أبدًا التنبؤ بمصائرنا، أو التحكم فيها. ويؤكد مُجددًا، من ناحية أخرى، على أنه حتى أقوى الزيجات يُمكن أن تكون عرضة للإغراء، أو الخداع، أو الخيانة.
تحدثنا عن مدى براعة وودي آلن في رسم وإبداع شخصيات حية فعلًا، يُمكن تصديقها والتواصل معها، على نحو مُقنع في أفلام كثيرة، وشخصيات “ضربة حظ” ليست استثناء. إذ أنها، كعادة الشخصيات في أفلامه، تتخذ خيارات غريبة، لكنها مفهومة رغم غرابتها. تقترف حماقات عجيبة، أحيانًا، تُكسب الفيلم بعض الواقعية والجاذبية. أيضًا يُمكن القول عن سيناريو “ضربة حظ” إنه جيد وذكي. وإن لم يستطع آلن، كعادته، أن يبث فيه أفكاره وفلسفته وبصماته المُعتادة، بعمق وإقناع، رغم المُحاولة. كما أن تطور الحبكة، بالأساس، مُتوقع إلى حد كبير. لذا لا يصل التشويق، أو الإثارة، أو المتعة، في الفيلم، إلى ذورتهما أبدًا. المُشاهد الخبير بعوالم وشخصيات وحبكات أفلام وودي آلن سيُدرك سريعًا أنه يُعيد حرث الأراضي القديمة. أفلام مثل “جرائم وجُنح” (1989)، و”نقطة المُباراة” (2005)، و”رجل غير عقلاني” (2015)، وغيرها، يتردد صداها هنا، وبقوة. إن الرجوع الدائم إلى طرح ومُعالجة الأفكار نفسها ليس مُشكلة بالمرة، ولا يعيب أي فنان، بصفة عامة. إلا أن العودة إلى تكرار لا يُضيف الجديد أبدًا، بل ينتقص من الرصيد، يُعد مُشكلة فعلًا، مُشكلة وقعت فيها أفلام وودي آلن، مُؤخرًا، أكثر من مرة.
من هنا يُعد “ضربة حظ”، إجمالًا، من أعماله البسيطة. لا يجب التوقف عنده كثيرًا في مسيرته الإخراجية الكبيرة، والمُهمة. يسهل نسيانه، لكنه لا يزال فيلمًا مُمتعًا ومُسليًا، رغم أنه ليس مُعقدًا ومُثيرًا للتفكير كثيرًا، مُقارنة بأعماله السابقة. استطاع آلن، الذي لا يتحدث الفرنسية، وليس خبيرًا في إنجاز وتحقيق الأفلام في فرنسا، التقاط أجواء باريس الجميلة، والروح الباريسية، على نحو جيد وجميل، بفضل مُدير تصويره العبقري فيتوريو استورارو. لكن، بصفة عامة، ليست باريس في الفيلم سوى خلفية، كمُدن أوروبية أخرى صوَّر فيها آلن أفلامه. إذ أن قلب آلن النابض، وبيئته الناضحة بالحياة والحيوية هي نيويورك، وتحديدًا، مانهاتن، حيث دارت أحداث كثير من أعماله، “آني هال” (1977)، و”مانهاتن” (1979)، و”الياسمين الأزرق” (2013)، و”مقهى المُجتمع” (2013)، و”يوم مُمطر في نيويورك” (2020)، على سبيل المثال.