برلين – محمد هاشم عبد السلام

 

لا يتوقف القائمون على إدارة السياسات العامة والتنفيذية لـ”مهرجان برلين السينمائي الدولي” عن إدهاشنا، العام تلو الآخر، بمواقف مُفاجئة وغير مُنتظرة بالمرة، تخلط، عن عمد أو حُسن نية، بين السياسي المحض والفني الدعائي. وذلك بفجاجة تُثير النفور فعلا، وقد تدفع البعض مُستقبلا إلى ردود أفعال أو نتائج عكسية تمامًا.

كانت البداية مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والتضامن السياسي والفني مع أوكرانيا، بكل السبل، ومع تواصل الحرب الأوكرانية دون نتيجة تُذكر، ومع خفوت الحضور الدولي للحرب على الساحة الدولية هذا العام، مُقارنة بالعام الماضي، لم يجد المهرجان ما يفعله أكثر في هذا الصدد خلا عرض حفنة أفلام، هنا وهناك في أقسامه، أو ضم الكاتبة الأوكرانية أوكسانا جابوجكو، المجهولة، إلى لجنة تحكيم “المُسابقة الرئيسية”. ولم يجد القائمون على المهرجان أكثر من هذا للقيام به تجاه أوكرانيا.

في المُقابل، وبعد اندلاع الأحداث في غزة، اكتفى المهرجان، مُمثلا في إدراته الثنائية بقيادة ماريت ريسينبيك وكارلو شاتريان، في آخر دورة لهما، وأثناء انعقاد المُؤتمر الصحفي للإعلان عن الأفلام المُشاركة وتفاصيل برنامج المهرجان، بالإعلان عن أن المهرجان ساحة لعرض جميع الأفكار، والتقارب بين الشعوب والثقافات، والدعوة لنبذ العنف والكراهية والعنصرية، إلخ. وعلى عكس ما حدث بخصوص أوكرانيا، لم تُعلن الإدارة عن أية وقفات تضامنية مع غزة أو مُناهضة للحرب أو حتى مُؤيدة لوقف إطلاق النار، على البُساط الأحمر. وذلك على غرار ما حدث العام الماضي بخصوص أوكرانيا. وإن جرى الإعلان، من ناحية أخرى، وعلى استحياء، عن عقد ورشة أو ندوة أو مُنتدى لتقريب وجهات النظر والدعوة إلى النقاش والحوار الفلسطيني الإسرائيلي. ومن ناحية أخرى، اختيار الوثائقي “ما من أرض أخرى” لباسل عدرا وحمدان بلال ويوڤال أبراهام وراشيل شور، للعرض في قسم “البانوراما”.

ورغم غرابة الموقف، إلا أنه لم يكن مدعاة لدهشة كبيرة. أخذًا في الاعتبار السياسة المُعلنة والتصرفات السافرة من جانب الحكومة الألمانية خلال الأشهر الماضية. ما أثار بعض التفاؤل كان إعلان المهرجان عن إلغاء دعوات حزب “البديل من أجل ألمانيا”، اليميني الشعبوي، لحضور حفل افتتاح المهرجان. وذلك بعد تظاهر مئات الآلاف في ألمانيا تنديدا بأفكار الحزب المُتطرفة. وكان الإعلان عن توجيه الدعوات إلى هذا الحزب قد أثار احتاجات في الأوساط السينمائية والثقافية الألمانية، والكثير من الاضرابات واللغط، والتوقيع على بيانات مُناهضة. ما دفع وزيرة الثقافة وإدارة المهرجان، في النهاية، إلى التراجع عن الدعوة. ما أثار غضب أعضاء الحزب، واعتبروا الأمر من قبيل المُصادرة وتكميم الأفواه إلخ.

بعد حفل افتتاح مر بسلام إلى حد كبير، ولم إن لم يخل البُساط الأحمر من رفع لافتات صغيرة، تدعو لوقف الحرب وإيقاف إطلاق النار، وفي المؤتمر الصحفي للجنة التحكيم قالت المُمثلة لوبيتا نيونجو، وهي أول سمراء تترأس لجنة تحكيم المهرجان العريق، بعد طرح وتوجيه الأسئلة لها حول الحرب بين إسرائيل وحركة “حماس” في غزة، وحرب أوكرانيا، والسياسة الألمانية، وغيرها، تهربت نيونجو وبقية أعضاء لجنة التحكيم من الرد المباشر على الأسئلة، أو اتخاذ أو إبداء أية مواقف.

دعوات قليلة، لم تلتف الانتباه، لوقف إطلاق النار

وبعد عرض الوثائقي “ما من أرض أخرى”، وأثناء الأسئلة والأجوبة التي تلي عروض الأفلام عامة، جرى الكثير من اللغط والتلاسن والهجوم، بسبب القضية الفلسطينية، والاحتلال الإسرائيلي، وما يحدث في غزة من حرب تطهير لا نظير لها منذ عقود. أما على امتداد أيام المهرجان، فلم يحدث ما يلفت الانتباه، وكانت الأمور تجري على نحو غاية في الطبيعية والهدوء، وكأن شيئًا لم يكن. ربما، باستثناء وقفة تضامنية ليلية مع غزة، قام بها بعض النشطاء على مسافة غير بعيدة من قصر المهرجان، للمُساندة والدعم وجمع التبرعات. ولم تلفت الأنظار كثيرًا ولم تتحول إلى مُظاهرة أو ما هو أكبر.

في حفل ختام المهرجان، ومع الصعود المُتكرر للفائزين على خشبية مسرح البرليناله لتسلم جوائزهم، وإلقاء كلمات شكر قصيرة مُعتادة في هذه المُناسبة، فوجئ القائمون على أمر المهرجان وعمدة برلين ووزيرة الثقافة، بأن أغلبية من صعدوا إلى خشبية المسرح، أعربوا بكلمات حماسية جادة ومُخلصة وصادقة فعلا عن، إن لم يكن التضامن الكلي، فعلى الأقل، المُناداة بوقف فوري لإطلاق النار، وضرورة إنهاء الحرب في غزة.

وخلال تسلمهما لجائزة أفضل وثائقي في قسم “بانوراما”، عن “ما من أرض أخرى”، اتهم المُخرج الفلسطيني باسل عدرا دولة الاحتلال بارتكاب إبادة بحق الفلسطينيين وانتقد بيع ألمانيا الأسلحة لإسرائيل. قال عدرا: “إنني أحتفي بالجائزة هنا، ولكن في الوقت نفسه من الصعب جدًا بالنسبة لي أن أقيم احتفالاً، فعشرات الآلاف من الناس يُقتلون من قبل إسرائيل في غزة”، مُضيفًا: “أريد شيئًا واحدًا فقط من ألمانيا، وهو احترام نداءات الأمم المُتحدة والتوقف عن إرسال الأسلحة إلى إسرائيل”.

فيما قال أبراهام: “أعيش في ظل نظام مدني ويعيش باسل في نظام عسكري. في حين أنه يفصل بين مكاني إقامتنا 30 دقيقة فحسب. أتمتع بحق التصويت، أما هو فلا، ويُسمح لي بالتحرك بحرية في هذا البلد، في حين أن باسل، مثل ملايين الفلسطينيين، مُقيد في الضفة الغربية المُحتلة. يجب أن تنتهي عدم المُساواة هذه بيننا”.

هذه المُطالبات، التي جاءت في أغلبها غير مُباشرة وفي أشكال وصيغ مُختلفة أو مُخففة، من جانب باسل أو أبراهام، وغيرهما، بسبب حساسية الموضوع في ألمانيا من ناحية، وحتى لا يتم توجيه التُهمة الثابتة الجاهزة، أي العداء للسامية، فوجئ المُخرج الإسرائيلي، اليهودي الديانة، يوڤال أبراهام، باتهامه، حتى في إسرائيل نفسها، وبعد بث التليفزيون لكلمته، بمُعاداة السامية. وذلك على نحو مُثير للكثير من العبث والسخرية، والحُزن أيضًا، خاصة بعد تهديدات له بالقتل.

لم يمر ما حدث على خشبة المسرح ليلة ختام البرليناله مرور الكرام. إذ كتب عمدة برلين كاي فيجنر على صفحته على موقع تويتر/ (X)، مُعلقًا على إبداء الكثير من الفائزين لتضامنهم مع فلسطين، وإدانة العنف والقتل وضرورة وقف الحرب، وعلى رأسهم ماتي ديوب الفائزة بالدب الذهبي، كتب: “إن ما حدث ليلة ختام البرليناله كان لا يُطاق. لا مكان لمُعاداة السامية في برلين، وينطبق هذا أيضًا على المشهد الفني. أتوقع من الإدارة الجديدة للبرليناله أن تضمن عدم تكرار مثل هذه الشيء مرة أخرى. لدى برلين مواقفها الواضحة عندما يتعلق الأمر بالحرية. برلين تقف بقوة إلى جانب إسرائيل. ليس هناك شك في ذلك. إن المسؤولية الكاملة عن المُعاناة العميقة في إسرائيل وقطاع غزة تقع على عاتق حماس. وهي وحدها القادرة على إنهاء هذه المُعاناة بإطلاق سراح جميع الرهائن وإلقاء أسلحتها. ولا مجال للنسبية هنا”.

بتصريح مُخيف جدًا مثل هذا، وفي رسالة واضحة، لا لبس، فيها لمُديرة المهرجان الجديدة الأميركية تريشيا تاتل، يرقى إلى حد التهديد، وقمع الأصوات، والحجر على حرية الرأي والتعبير وإبداء التضامن، بل والترهيب المُسبق لمن سيقف العام القادم على مسرح البرليناله لينال جائزة أو يتم تكريمه أو غيره. أمور كهذه، لا تُؤكد على تسييس “البرليناله” فحسب، بل تدق نواقيس خطر مُنذرة بهاوية ينزلق إليها المهرجان بُسرعة صاروخية، ولن تنقذه منها أية إدارة كانت، ومهما بلغت احترافيتها، وقدرتها على جلب أروع الأفلام، وأعظم السينمائيين، ما لم يتم تدارك الأمر، وذلك بالفصل الفوري وفض الاشتباك، على نحو لا رجعة فيه، بين المهرجان والسياسة.

ردًا على تصريحات عمدة برلين، على الأرجح، فوجئت إدارة المهرجان بقرصنة صفحة قسم “البانوراما” على موقع “إنستجرام” الشهير، ونشر ما يُشبه البيان على الصفحة، وقد رد فيه ما يلي: “الإبادة الجماعية هي إبادة جماعية. كلنا متواطئون”. “ردًا على الإجراءات المُستهدفة للمُؤيدين لحق فلسطين في البرليناله 2024، وفي ضوء الصعود الشديد لليمين المُتطرف في ألمانيا، فإننا نعترف بأن صمتنا يجعلنا مُتواطئين في الإبادة الجماعية الإسرائيلية المُستمرة في غزة والتطهير العرقي لفلسطين. وبعد مُناقشات داخلية طويلة، قررنا أخيرًا التخلص من فكرة أن “الذنب الألماني” يُعفينا من تاريخ بلادنا، أو جرائمنا الحالية كأمة. إننا نرفع صوتنا للانظام إلى الملايين حول العالم الذين يطالبون بالوقف الفوري والدائم لإطلاق النار، ونحث المُؤسسات الثقافية الأخرى في ألمانيا على أن تحذو حذونا”. “من ماضينا النازي المستعص على الحل إلى حاضر الإبادة الجماعية، كنا دائمًا على الجانب الخطأ من التاريخ. ولكن لم يفت الأوان بعد لتغيير مُستقبلنا”.

سرعان ما التفتت إدارة المهرجان إلى ما حدث، وإلى تلك التصريحات الخطيرة المجهولة، غير الموقعة من قبل أي تنظيم أو جمعية أو حتى فرد، فقامت بالتنويه على جميع صفحاتها على وسائل التواصل عن أن التصريحات المنشورة ليست من جانب المهرجان، ولا مُعبرة عن توجهاته وسياسته، وأن الصفحة جرت سرقتها. وحذفت المنشورات على الفور. ولم تكتف الإدارة بهذا، بل اضطرت اليوم الثلاثاء 27 فبراير/ شباط إلى الخروج بتصريح أو بيان رسمي، ورسالة إلى الصحفيين تؤكد ما جرى إعلانه من قبل على وسائل التواصل، وتضيف أنه، رغم الجهل بمن يقف وراء ما حدث أو كيفية حدوثه، إلا أن المهرجان في سبيله لاتخاذ كافة الإجراءات الأمنية والقضائية لمُلاحقة الفاعل.

المهرجان ينفي مسؤوليته عما ورد على صفحته

وفي ضوء ما سبق وأكثر، من أخبار وموضوعات ومقالات تتناول كل ما أحاط ويحيط بالبرليناله حتى اللحظة، وتصريحات وزيرة الثقافة الألمانية، وكذلك عمدة برلين، وإدارة المهرجان، السافرة المُنحازة إزاء الحرب في غزة، هل سيؤثر كل هذا على مستقبل المهرجان بصفة خاصة، والشؤون الثقافية عامة في برلين وألمانيا؟ أخذًا في الاعتبار مُبادرة سابقة، مجموعة من الفنانيين، من بينهم الكاتبة الفائزة بجائزة نوبل آني إرنو، لشن حملة مُقاطعة ضد المُؤسسات الثقافية الألمانية المُتهمة بحجب الأصوات الفلسطينية. فهل ستتطور الأمور جراء البرليناله لأكثر من هذا، خاصة لو اشتعلت الحرب أكثر في غزة خلال الأسابيع القادمة؟!