محمد هاشم عبد السلام

انقضاء 25 عاماً لا يُعدّ أبداً فترة طويلة في أعمار الشعوب، ولا في حسابات التاريخ. سينمائياً، وقياساً إلى عمر هذا الفن الحديث نسبياً، والتطوّرات التكنولوجية المتلاحقة فيه من دون هوادة، يُعتبر مرور ربع قرن فترة كبيرة جداً، تكاد تناهز ربع عمر السينما تقريباً.
منذ مطلع الألفية الجديدة، مرّت السينما المصرية والعربية والعالمية في تغيّرات كبيرة وكثيرة وحادّة. فبعيداً عن التطوّرات التكنولوجية، والتقدّم الرهيب في مختلف جوانب الصناعة، وليس انتهاءً بآليات المُشاهدة نفسها، مَرّ العالم في كوارث وحروب وجائحة وتضخّم، وفواجع أخرى كثيرة، لا تزال تتجدّد. ما جعل الواقع نفسه يتفوّق، باكتساحٍ مشهود، وربما لأوّل مرة، على الخيال السينمائي نفسه. انقلبت الآية، وأضحت السينما تواكب الواقع (أو تحاول مواكبته)، أو تلحق به، لانتزاع دهشة وإثارة ومتعة باتت مفقودة كثيراً.
حتّى في ظلّ أمور بدت واعدة للغاية، كانتشار الفضائيات، وسهولة توفّر الأعمال السينمائية على أوسع نطاق بمختلف الوسائل، ثمّ انطلاق شبكات البثّ الرقمي وتمدّدها، وتوغّلها السرطاني في المنازل بما فاق سرعة انتشار الإنترنت نفسه، واختراقها الإنتاج بحثاً عن نصيبها في سوق الفرجة، كانت المُحصّلة تغيّر السينما وتبدّلها كثيراً عما كانت عليه قبل ربع قرن. برزت الحاجة إلى أنواع محدّدة، وتوارت أنواع أخرى. كما تبدّلت آليات المشاهدة ومتطلباتها أيضاً. وبين إيجابيات كثيرة وسلبيات عدّة، برز فقرٌ في الخيال والتجديد والإبداع عموماً، وساد انحدار فني وجمالي وقيمي، مُقابل طفرة تقنية ملحوظة، وجودة صنعة لا يُمكن إنكارها.
بالتبعية، ورغم أنّنا على هامش هذه الصناعة وفنونها والتأثير فيها، تأثّرنا عربياً بالتقلّبات العالمية إجمالاً، وبالتطوّرات الحادّة في صميم صناعة، بتنا نحاول مواكبة ومجاراة السائد فيها قدر الإمكان. لكنّ محاولاتنا مُتعثّرة دائماً، لأسباب عدّة مزمنة تخصّ صناعتنا نفسها، زاد عليها مرور أغلب البلدان بالربيع العربي، وما تلاه من مشاكل هدّدت الأمن والاستقرار والاقتصاد قبل كلّ شيء، وبالتالي الصناعة نفسها.
ولأنّنا عرضةً لتأثيرات خارجية قسرية ولغيرها، وعوامل داخلية منها مُزمن، يبدو ألاّ سبيل إلى حلّه جذرياً، تضافرت التأثيرات كلّها في النهاية لتخلق تحدّيات وعقبات جمّة، باتت تشكّل معضلات حالت مع الوقت دون نهوض حقيقي لصناعة سينما، بمعنى الكلمة (صناعة): أنْ تقوم على أسس علمية وتخطيطية، ذات توجّهات استراتيجية طويلة الأمد لدول تضع نهوض صناعة السينما نصب أعينها فعلاً.
صدقاً، لا حاجة إلى سرد وتكرار المذكور والمشروح سلفاً عن مشاكل تأخّرنا السينمائي، لا سيما المتعلّق بأبجديات صناعة وتنفيذ، وبتكلفة وتضخّم وأسعار تذاكر وضرائب، وفنّيات كالسيناريو والتمثيل، أو الحديث الدائم عن الرقابة والمُصادرة والتضييق والحرية، وغيرها من اللافتات الكثيرة، الجاهزة كمبرّرات تُساق منذ أكثر من ربع قرن. كأنّ الأجيال السابقة، في مختلف دول العالم المُنتجة للسينما، لم تمرّ بمشاكل مماثلة، وبتضييق ورقابة ومُصادرة وحصار ومنع من السفر والعمل، ومع هذا أنتجت وأبدعت فنوناً صمدت وبقيت، وباتت مع الوقت محلّ اعتبار وتقدير.
لكنْ، بعيداً عن تكرار ما قيل عن أسباب تراجع وانحدار، هناك جديد وفادح، يستحقّ دراسته فيما يخصّ السينما العربية برمتها. إذْ سادت في العقدين الماضيين تقريباً حالة تعمّد ملحوظة، ترمي إلى تقليص أيّ مساحة للإنتاج الفني الجاد أو المستقل، والتحكّم فيه لئلا يخرج عن حدود المساحة الممنوحة له سلفاً. الهدف يتكامل ومختلف الوجهات السلطوية في مجتمعاتنا: خلق جموع يسهل تسطيحها وتدجينها، تحكّماً وتوجيهاً.
آلية لم تكن موجودة بفجاجة على هذا النحو سابقاً، عالمياً ومحلياً، لكنّها آخذة عندنا في التطوّر صوب تدهور غير مسبوق، يصعب تحجيمه وتداركه، سيّما أنّ التجهيل في مجتمعاتنا بات يُسهم فيه الجمهور بنفسه، بتقبّله الطوعي للتسطيح والتتفيه، بغية الهروب من واقع قاسٍ، عوضاً عن الاشتباك معه وتغييره. من هنا، كان انتشار وذيوع وتصعيد وتسييد كلّ سطحيّ وتافه وعقيم، باسم الفن. وخلق نخبة من أشباه الفنانيين وأنصاف المثقفين، لنشر/زيادة التجهيل والخواء وشيوع التفاهة باسم الفن، وما من وسيلة أسرع وأسهل وأضمن من استغلال السينما في هذه المهمة.
أدّى هذا التدهور المفزع والمقصود، ليس في السينما فقط بل في مختلف أوجه الثقافة، إلى تدهور فاضح في ذوق الجمهور وذائقته، وإلى خلق أجيال مُسطّحة، جاهلةً أصلاً معنى السينما ومفهومها بوصفها فنّاً وترفيهاً، وإلى قطيعة معرفية شبه تامة وتاريخ السينما، محلياً ودولياً، بل هوّة معرفية شاسعة بين الأجيال. وذلك رغم تواصل واحتكاك هذه الأجيال بأحدث إنتاجات السينما العالمية والمحلية، المُتاحة بسهولة ويسر، مقارنةً بأجيال سابقة.
من بين تبعات الفقر المعرفي والسينمائي، وانحدار الذوق والقدرة على النقد والتقييم، أنّه بات الآن يُنظر إلى الماضي القريب، كمّاً وكيفاً، بفخر وانبهار، كأحد أجمل وأزهى عصور السينما العربية المجيدة. بينما النظرة النقدية الأمينة والفاحصة تثبت العكس تماماً، وعلامات الانهيار الراهن كانت كامنة في الماضي القريب، ويسهل رصدها.


المحزن أنّ الرؤية النقدية المنصفة لجوانب في هذا الماضي، فنياً ومهنياً واحترافياً، تميل إلى صالح القديم، وإنْ مالت الرؤية إلى ترجيح تفوّق الإنتاجات العصرية تقنياً، يتعيّن أخذ تطوّرات العصر وضرورته في الاعتبار. الدليل أنّه، بخلاف بعض الجودة التقنية المتحقّقة في أعمال قليلة، هناك هوة ضخمة مع أبجديات صناعة سينمائية جادة ورصينة، حتى على المستوى الترفيهي. فضلاً عن شبه قطيعة مع السينما الفنية بمختلف مدارسها، وعجز كلّي عن إبداع فنون السينما نفسها وتطويرها.
إذاً، سنظلّ دائماً نسمع عن سنوات ازدهار/تدهور الإنتاج في بلدٍ ما، لا عن مراحل وعقود مستمرة من النهوض الحقيقي. سنسمع عن فيلمٍ يخطف الأنظار ويفرض نفسه، بعد انطلاقه أصلاً في مهرجان دولي، أو حصوله على جائزة مرموقة، وليس عن مدرسة أو تيار أو مشروع سينمائي.

عن مخرج/مخرجة يَعدان بالكثير، قبل أنْ يطويهما النسيان، أو يكون العمل اللاحق لهما أضعف أو أقل من السابق، أو الانسياق للسائد وآليات السوق. وهكذا دواليك، لتتوجّه الأنظار سريعاً إلى اسمٍ آخر وفيلمٍ جديد، أو أفلام عدّة تبرز فجأة في هذا البلد أو ذاك المهرجان.
هكذا نعاود الكَرّة نفسها، سنوات تلو أخرى، من دون تقدّم فعلي، أو ثبات ملحوظ، أو مواصلة ومراكمة على ما تحقّق، فضلاً عن استثماره والاستفادة منه. كأنّ الأفلام اللافتة أو الأسماء الواعدة أو المشاركات والجوائز الدولية انتصارات وفتوحات بحدّ ذاتها، وليست بديهيات عصر ما بعد الحداثة والعولمة. المؤسف أنّها باتت مبلغ آمال أمّة، تعدادها يُقدّر بمئات الملايين، وليست مدعاة حسرة وتأمّل ومراجعة للنفس، ولأسئلة مستفزّة وممجوجة، كـ”أين السينما العربية والأفلام والمخرجين العرب من المحافل الدولية والتمثيل العالمي؟”، أو السؤال السنوي: “متى سيفوز العرب بـ”أوسكار“؟”.

بصرف النظر عن المبرّرات، والتماس الأعذار، وتفنيد المسبّبات، وتحليل إيجابيات وسلبيات ما أنجز في ربع قرن، الأجدى فعلياً، بدلاً من تكرار الكلام نفسه بعد ربع قرن مقبل، مواجهة أنفسنا بصراحة وصدق بالغين، بأنْ ليس هناك “صناعة سينما” في عالمنا العربي. بمعنى صناعة استراتيجية ذات خطط وأهداف مستقبلية واضحة. هناك “سينما”؟ نعم، صحيح. هناك “أفلام”، بالتأكيد، وبعضها لافت ويستحقّ الإشادة. هناك “إنتاجات” في هذا البلد أو ذاك، قطعاً. من حين إلى آخر، لدينا “مواهب” جديرة بالانتباه، طبعاً. لكنْ، ليس أكثر من هذا.
لذا، وبمنتهى الأمانة، سنظلّ نمضي في هذا الانحدار “المسبوق” لفترات طويلة، على ما يبدو.