محمد هاشم عبد السلام
في أحدث أفلام المخرج الكرواتي الشاب داليبور ماتينيتش، والذي يحمل عنوان “الشمس الحامية” (Zvizdan)، يقدم لنا المخرج أحد أهم الأفلام التي تتناول تيمة الحرب، ولكن بعيدًا عن ساحات المعارك والأسرى والجرحى والقتلى. فتناول “داليبور ماتينيتش” للحرب في فيلمه الأخير البديع حقًا “الشمس الحامية”، والذي يسلط فيه الضوء على الحرب الكرواتية الصربية وتبعاتها، يأتي من منظور إنساني عاطفي بحت. وذلك عبر ثلاث قصص مختلفة، مُفعمة بالمشاعر والأحاسيس العميقة للغاية، تدور كلها بشكل أساسي حول تيمة الحب، الذي جمع بين بطلين، من قريتين حدوديتين، ينتميان لمعسكرين مناوئين.
في ثالوثه القصصي الذي يُشكِّل قِوام الفيلم، آثر مخرج فيلم “الشمس الحامية”، الذي يتجاوز زمن عرضه ما يزيد قليلا عن الساعتين، أن تدور كل قصة من القصص الثلاث في فترة زمنية مختلفة تفصل بينها عشر سنوات على وجه التحديد. فنجد القصة الأولى سابقة على بدء الحرب، والثانية عقب انتهاء الحرب مباشرة، والثالثة حديثة بعد عشر سنوات تقريبًا من انتهاء الحرب. وبالرغم من تعمّد المخرج “داليبور ماتينيتش” أن تتمحور كل قصة من قصص الفيلم حول تيمة الحب، لكنها ليست هنا هي التيمة الوحيدة التي يطرحها المخرج عبر السيناريو، الذي قام أيضًا بكتابته. ففي قصصه الثلاث وفيلمه إجمالا، تبرز تيمات أخرى لا يمكن تجنبها، مثل الشهوة والعاطفة والكراهية والتشتت والتسامح والغفران.
بالرغم من أن تيمة قصة الحب التي ينتمي طرفيها إلى فريقين مناوئين ترجع جذورها إلى دراما شكسبير، وعلى وجه التحديد إلى مسرحيته الخالدة “روميو وجوليت”، وبرغم أنه لم يعد ثمة ما هو جديد يستجوب إعادة استحضارها أو استلهامها، إلا إنها في فيلم “الشمس الحامية” تدب فيها الحياة فعليًا وتكتسب شكلا مغايرًا بحق، ويصبح استحضارها ضرورة تنتفي معها أي شبهة للتكرار أو أو الافتعال أو حتى الانتحال والملل، لا سيما وأنها قد وُظِفت على نحو جيد للغاية في السيناريو الذي كتبه المخرج ببراعة، وتم تقديمها بصريًا على نحو شديد الجمال من جانب مدير التصوير “ماركو بردر”، واتسم الأداء التمثيلي لها بالجودة البالغة حقًا من جانب البطلين، الممثل (جوران ماركوفيتش) والممثلة (تيانا أزوفيتش)، اللذين اضطلعا ببطولة كل قصة من القصص الثلاث، وإن حملا في كل منها أسماء مختلفة، وأديا في كل واحدة منها أداء غاية في الإقناع، تقمصا فيه شخصيتي كل قصة، ولم يدفعانا بالمرة للخلط بين ظهورهما المتكرر في القصص الثلاث أو في أي لحظة من لحظات الفيلم، وتلك مهارة تحسب لهما بالطبع ولبراعة مخرج الفيلم في إدراتهما.
تدور أحداث أولى القصص في عام 1991، بإحدى القرى الساحلية بالبلقان، حيث التوتر على أشده بين الصرب والكروات في بداية ما يعرف بحرب “الاستقلال الكرواتية”، والتي نشبت بين القوات المُوالية للحكومة الكرواتية التي أعلنت استقلالها عن يوغسلافيا، وبين الجيش الشعبي اليوغسلافي الذي يسيطر عليه الصرب. وقد استمرت تلك الحرب خلال الفترة من عام 1991 وحتى عام 1995. نرى في القصة الأولى، الفتاة الصربية “يلينا” والفتى الكرواتي “إيفان”، ونتبين طيبعة العلاقة التي تجمع بينهما وتبعاتها على كلا الجانبين، لا سيما من جانب أهل الفتاة، الذين حاولوا إثنائها وإبعادها عن ذلك الشاب، لكن المحاولات باءت بالفشل، حتى بعد تدخل شقيق “يلينا”، الجندي بالجيش الصربي، وتعديه عليها بالضرب المُبرح. تتأزم الأمور مع رغبة “يلينا” و”إيفان” في مغادرة القرية، والذهاب إلى “زغرب” ليبدءا معًا حياة جديدة بعيدًا عن أجواء الحرب التي بات اندلاعها وشيكًا في الأفق، لكن حبهما يُجهض وتموت أحلامهما بسبب رصاصة في الرأس من جانب شرطة الحدود الصربية.
تتناول القصة الثانية، التي تدور أحداثها في عام 2001، قصة الشابة اليافعة “نتاشا” ووالدتها “إيفانوفا”، واللتين عادتا لتوهما إلى قريتهما المُدمرة تمامًا بشوارعها المُقفرة، وتتوجهان إلى بيتهما الذي دمرته الحرب، وتحاولان بعث الحياة فيه من جديد. ولأجل هذا تستعين والدة “نتاشا” بالعامل الحِرَفي “أنته”. وفي الوقت الذي تعامله “إيفانوفا” ببعض التسامح والود، تتعامل معه “نتاشا” على مُغاير تمامًا، في حين أنها تدريجيًا تظهر عليها المعاناة من مغبة الحرمان العاطفي والجنسي والشهوات والعواطف المكبوتة، التي يعانيها “أنته” بدوره، وتدفعهما في النهاية إلى ممارسة محمومة للجنس، الناجم عن الشهوة بالأساس وليس الحب أو التقبل أو حتى التقارب الإنساني. فالفتاة “نتاشا” لم تستطع بعد التغلب على جراحها التي تسببت فيها الحرب بمقتل شقيقها الوحيد، ولا “أنته” تجاوز بعد فقدانه لأبيه بسبب الحرب، وافتراضهما أن شقيقها ربما يكون قد قُتِل على يد والد “أنته” أو العكس.
القصة الثالثة تدور أحداثها في فترة حديثة نسبيًا، وبالتحديد في عام 2011، وبطليها هما “لوكا” و”ماريا”، حيث يعود “لوكا” إلى قريته التي كان قد هجرها بسبب الدراسة والجامعة، وللوهلة الأولى نظن أنه عاد للالتقاء برفاق الصبا، وقبل هذا أحضان والديه. لكننا نفاجئ بالشاب “لوكا” يعامل والديه بمنتهى القسوة والجفاء ويرفض حتى البقاء في المنزل لبعض الوقت أو تناول الطعام ويُخبرهما بمغادرته القرية على الفور. وبالفعل يترك كل شيء ويتوجه إلى قرية أخرى ويطرق باب “ماريا”، ويطلب منها رؤية الطفل، ابنهما، الذي أجبرته الحرب والعائلة والقرية على التخلي عنه، وهجر حبيبته الصربية. يحاول “لوكا” أيضاح الأمور وإبداء بعض الندم والرغبة في التكفير وطلب الغفران والسماح، ويبقى الأمر في النهاية بيد “ماريا”، التي تشرع باب منزلها جزئيًا.
إن كل جزء من أجزاء الفيلم “الشمس الحامية”، كما لاحظنا، يعتبر مستقلا بذاته، ويمكن أن ينفصل بمفرده عن الآخر كفيلم روائي قصي مُكتمل، لكن القصص الثلاث تنسج معًا فسيفساء مُتداخلة ومُنسجمة على نحو مُترابط وسلس يُشكل في النهاية القِوام أو الهيكل الخارجي للفيلم، وينقل وحدته الموضوعية وأفكاره الرئيسية بمنتهى القوة والوضوح. في القصة الأولى نرى على نحو جلي، الألم الجسدي الخارجي الواقع على الشخصيتين، وفي القصة الثانية نلمس الجرح النفسي الباطني وقد انعكس خارجيًا على البطلين، وفي الأخيرة نعاين أصداء الوجع الخارجي وتبعات الألم الداخلي، ونرصُد إما مُحاولة التجاوز والشفاء أو الموت بفعل الداء.
من اللافت في الفيلم أن تشابه تيمة القصص الثلاث، وتطابق الأبطال أو الممثلين، مع اختلاف الأحداث والأسماء والتواريخ بالطبع، يشير إلى ضرورة الاستفادة من دروس التاريخ، ويُلفت النظر، من بين أمور أخرى كثيرة، إلى مغبة الوقوع في أسر الماضي، وتبعاته، وعدم نسيان ما حدث، والاتعاظ منه، وتبني فكرة الغفران والتسامح. مثل هذه الدروس والقيم، التي ينشدها المخرج في فيلمه، ربما لم يكن ليأتي على ذكرها لو كانت الأمور قد استقرت في تلك المنطقة، وصار كل شيء على خير ما يرام، لكن كونه يستشعر أن تحت الرماد وميض نار، هو ما جعله يقدم على إخراج مثل هذا الفيلم، ليوقظ سكان المنطقة، ويلفت انتباههم إلى ما كانوا عليه من كوارث قبل خمسة وعشرين عامًا.
كما أنه، أيضًا، يدق ناقوس خطر الوقوع في أسر التعصب والكراهية وعداء الآخر مستقبلا، سواء في تلك المنطقة على وجه التحديد أو بصفة عامة. ذلك، لأن الفيلم هنا ليس عن شعبين على وجه التحديد، بقدر ما هو رسالة عالمية عن الحب والكراهية وأثر التاريخ أو الماضي والزمن ومروره على البشر والمجتمعات والسلوكيات في كل مكان. ولذا، لم يكن مُفاجئًا فوز الفيلم بالعديد من الجوائز من كبرى المهرجانات التي شارك فيها، فقد فاز بجائزة “لجنة التحكيم الخاصة” بقسم “نظرة ما” بمهرجان “كان الماضي”، كذلك بالجائزة الكبرى في “مهرجان جينت” ببلجيكا، وأخيرًا جائزة “أحسن مساهمة فنية” بمهرجان القاهرة السينمائي.