محمد هاشم عبد السلام

 

30/11/2016

 

بالرغم من أن قضية اختفاء شريط السينما التقليدية لم تعد تشكل هاجسًا مؤرقًا للعديد من الفنانين والمخرجين والمهتمين بالفن السينمائي بشكل عام في الآونة الأخيرة، لكن بين الحين والآخر نجد قلّة من المهتمين تُعيد طرح هذا الموضوع، وتتناوله في أفلام تلفت النظر إلى تلك الظاهرة، وإن كانت كل هذه المحاولات في النهاية تعتبر مجرد رثاء على ما آل إليه حال الشريط المعروف بمقاساته المتنوعة منذ بداية صناعة السينما في مطلع القرن الماضي. ومن بين هذه المحاولات ذلك الفيلم الإسباني المتميز، الذي عُرض مؤخرًا ضمن القسم الخاص بمسابقة الأفلام التسجيلية في الدورة الحادية والخمسين من مهرجان كارلوفي فاري، والذي حمل عنوان “الصيف الأخير”، للمخرجة والمنتجة الشابة “ليريا أبيليانيز” في أول أفلامها التسجيلية.

قبل عام تقريبًا، هنا بموقع الجزيرة الوثائقية، كنا قد تناولنا بالنقد والتحليل الفيلم المتميز “جنبًا إلى جنب” للمخرج الأمريكي الشاب “كريستوفر كينيلي”، والذي طرح فيه على لسان النجم الأمريكي الشهير كيانو ريفيز، العديد من الأسئلة، التي وجهت لكبار المخرجين وصناع السينما حول العالم، حول مستقبل صناعة السينما ومصير الشريط السينمائي أو ما يعرف بشريط السيلولويد، ومدى فعاليته وأهميته وصموده في ظل التطور التكنولوجي المتسارع وتقنية الديجيتال، وإن كان في طريقه إلى الزوال أم لا؟ وقد اتفق العديد من السينمائيين الذين ظهروا في ذلك الفيلم المهم أن الشريط السينمائي قد مات بالفعل.

على نفس النهج تقريبًا، وإن على نحو مختلف تمامًا، مضت المخرجة “ليريا” لتطرح نفس السؤال حول الشريط السينمائي ومصيره القاتم، ولكن عبر اختيارها لأحد أهم العاملين المخضرمين بإسبانيا، والذي عمل طوال حياته، ما يزيد عن ثلاثين عامًا، في مجال عرض وتشغيل الشرائط السينمائية، في مختلف الساحات والميادين في إسبانيا، وهو المدريدي “ميجيل أنخيل رودريجيز”. على النقيض من فيلم “جنبًا إلى جنب” لا تطرح المخرجة ليريا أية أسئلة في فيلمها، ولا تستعين بأية شخصيات سينمائية شهيرة أو من العاملين في المجال لاستطلاع آرائهم، فقط تدعنا منذ البداية إلى النهاية نتابع رحلة ميجيل أنخيل، وتنقلّه في أرجاء إسبانيا طوال شهور الصيف من أجل عرض الأفلام.

وعلى نحو يستدعي إلى الذهن، ويكاد يتماثل إلى حد كبير مع شخصية “برونو فينتر”، التي قام بها النجم الألماني الكبير “روديجر فوجلر”، في أحد أفلام ثلاثية الطريقة للمخرج الألماني القدير فيم فيندرز، والذي حمل عنوان “ملوك الطريق”، نجد أن ميجيل أنخيل بطل فيلم “الصيف الأخير”، يسلك نفس الدرب، ويقوم بنفس المهمة التي كان يؤديها روديجر فوجلر في “ملوك الطريق”، الذي أخرجه فيندرز عام 1976. في فيلم فيندرز، نتعرف على برونو الذي تتمثل وظيفته في كونه يعمل كعارض سينمائي ومسئول تركيب وتشغيل الأفلام ونقلها، وكذلك عن صيانة الماكينات. وعن طريق خريطة موضح بها جميع دور العرض التي يتعين على برونو التوجه إليها، أدخلنا فيندرز، عبر فيلمه الروائي البديع، في صميم العمل الفني لأصحاب تلك المهنة، التي هي في سبيلها إلى الزوال الآن.

في فيلمها “الصيف الأخير”، الذي يمتد زمن عرضه لما يتجاوز الساعة ونصف الساعة، تتبع ليريا نفس النهج تقريبًا، وإن في قالب تسجيلي بحت. نتابع منذ البداية خروج ميجيل من دورة المياه، بإحدى الكافيتريات المقامة على الطريق السريع بالقرب من مدينة “ألماريا”، ومحاولته الإصلاح من هيئته بتهذيب لحيته وشاربه وشعره وضبط ملابسه. ربما كان في استراحة من رحلة سابقة قد قطعها أو يستعد لبداية يوم عمل جديد يقطع فيه الطرقات بين المدن الإسبانية. بالرغم من الطابع الإنساني البالغ، الذي يسري عبر الفيلم، لكن ليست هناك أية معلومات معروفة عن حياة ميجيل الإنسانية أو الأسرية، فقط نراه طوال الفيلم على الطريق بسيارته متوجهًا لأماكن عمله، وفي بعض الأحيان ينخرط في بعض المحادثات حول الحياة مع من يلتقي بهم بالكافيتيريا أثناء توقفه للاستراحة. وحتى عندما يهبط الليل ونتابعه في اليوم التالي، لا ندري في أي مكان بات ليلته.

تدريجيًا، ودون أدنى قدر من الملل، نتابع أدق خصوصيات مهنة ميجيل بكثير من الشغف والإثارة، فنشاهده وهو يتنقل هنا وهناك بسيارته، ومعه معدات عرض الأفلام أو بكرات الأفلام الكبيرة مقاس 35 مم، والاتصالات التليفونية التي يجريها مع الشركة التي يعمل بها، والتي تعمل على إمداده بأماكن العروض والساحات المفتوحة التي يتعين عليه التوجه إليها، ونوعية الأفلام التي سيتم عرضها بكل مكان. وبالفعل، في العديد من الأماكن والساحات المفتوحة بالقرى النائية أو المدن، نتابع ميجيل وهو يشرف بنفسه على كل كبيرة وصغيرة، بل وينقل ويحمل، رغم كبر سنه، المعدات والأفلام، ولا يبرح هذه الأماكن إلا بعد التأكد من عمل الماكينات على النحو الملائم، وضبط العدسات والارتفاعات والإضاءة ومقاسات العرض والأبعاد على الوجه الأكمل.

كما ذكرنا، لا يتحدث ميجيل عن أية أمور متعلقة بمهنته والمخاطر التي تتعرض لها ومصيره الغامض، كذلك لا يحاول الفيلم أن يمارس أي تأثير مباشر علينا، فقط يتركنا نتابع عن كثب، في العديد من لحظات الفيلم المؤثرة، الأمر الذي آلت إليه هذه الصناعة من انهيار ودمار وخراب. ومدى الأثر الذي ستتركه بعدما تختفي، فهؤلاء الأطفال والعجائز، الذين رصدتهم كاميرا ليريا، والذين يتجمعون في الساحات والشوارع ليشاهدوا العروض على الشاشات أو الجدران دون الحاجة للتوجه إلى دور العرض، لا شك أنهم سيتأثرون كثيرًا باختفاء ميجيل ومن هم على شاكلته.

بالتوازي مع الخط السردي الخاص بتنقلات ميجيل وإقامة العروض إلى آخره، تضع المخرجة العديد من اللقطات التسجيلية التي صورتها في الكثير من الأماكن الخربة، لتكون بمثابة خط آخر يلقي بمزيد من الإيضاح عن الموضوع المطروح بالفيلم. فعن طريق تلك اللقطات نرى العديد من دور العرض المهجورة والمخازن المهملة التي تبدو كالمقابر، والماكينات التي كساها الغبار وعلاها الصدأ، والعديد من الأشرطة والأدوات الملقاة في إهمال بالغ دون أدنى اكتراث. ولمزيد من تحقيق الأثر المطلوب، تعمدت ليريا أثناء عرض هذه اللقطات إلى عدم وضع أية مؤثرات صوتية أو موسيقى أو أي شيء، فقط مجرد لقطات تعرض أمامنا في صمت جنائزي جليل، عمّق بالفعل من فداحة وهول اللقطات التي شاهدناها على الشاشة.

إن فيلم “الصيف الأخير”، وكذلك اسمه الدال، هو كناية على أن هذا الصيف ربما يكون الأخير بالنسبة لميجيل ورحلاته هذه، وذلك النوع من الكاميرات والعروض والأفلام، وبداية الانتقال إلى عصر جديد. أيضًا، هو تسليم من جانب المخرجة بأن تلك هي طبيعة الأشياء، وأن التطور الذي يفرض نفسه على أوجه الحياة كافة لا بد له من ضحايا وخسائر، وأن الفيلم هو مجرد تحية لهذا النوع من العروض السينمائية للعاملين بها، من أمثال ميجيل، الذين أفنوا حياتهم في سبيل خلق البهجة وإمتاع الناس.

ويبدو هذا جليًا حتى بالنسبة لميجيل، الذي لا نراه في الفيلم كدون كيخوته يرغب في مصارعة طواحين الهواء والوقوف في وجه التقدم. فقط نجده في نهاية الفيلم، بعدما يسأله أحد الأصدقاء عما سيحدث في الصيف القادم، يهز رأسه دلالة على عدم الاكتراث ويشعل سيجارته، وينفث دخانها باتجاه السماء التى مالت الشمس فيها إلى الغروب.