محمد هاشم عبد السلام
تُعد أفلام قاعات المحاكم من الركائز النوعية الأصيلة والمتجذرة بعمق في السينما الأميركية، حيث الجمع بين نوعية دراما التحقيقات القانونية والتحرّيات ومداولات المُحَلِّفين، والدراما النفسية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية، وأيضًا التشويق الكامن في استعراض قضايا مُعقدة تُبرز الدور الخطير لثنائيات فلسفية عديدة، مثل ماهية القانون والعدالة، والخير والشر، والحقيقة والكذب، الإنصاف والظلم.
اللافت جدًا أن أغلب هذه الأفلام، على تنوّعها وتباين مستوياتها وفنياتها ومكانتها في تاريخ السينما الأميركية، تعتمد بالأساس على معارك قانونية حامية تُسلط الضوء على شخصيات المُدانين، وبالطبع المحامين والمُحَلِّفين، ضمن سياق ينطلق من قضايا شائكة ومعقدة، ومحاكمات تُبرز مواضيع شتى لصيقة بالظلم والفساد وغياب العدالة الاجتماعية والقانون وغيرها، لكنها نادرًا ما تتطرق أو تتناول بعمق وجرأة وجسارة، القضاة والسلك القضائي، أو الشخصيات المنتمية للهيئات أو النظام القضائي الأميركي. وهذا ما يؤكده فيلم “المُحَلِّف رقم 2”، أحدث الأفلام المنجزة حديثًا بتوقيع المُخضرم كلينت إيستوود.
صعوبة المساس بالقضاء
لم تستطع السينما الأميركية الاقتراب بقوة من موضوع فساد القضاء الأميركي كما ينبغي؛ صحيح أنه يُطرح أحيانًا، لكن على استحياء، وليس بتوسّع أو تنوع. الأسباب متعدّدة ومعقدة، وغير معلنة في الأغلب، لكنها مرتبطة قطعًا بعوامل اجتماعية وثقافية وسياسية. أبرزها، ضرورة أو حتى حتمية الحفاظ على صورة النظام القضائي في المجتمع الأميركي الذي يُعتبر القضاء ركنًا أساسيًا في الديمقراطية الأميركية، ورمزًا للعدالة المقدسة والحريات الفردية. لذا، تُحاول السينما بشكل عام الحفاظ على هذه الصورة المثالية لأن التشكيك المتكرّر في نزاهة النظام قد يُزعزع ثقة الناس في القانون والدولة.
ثمة تأثير للرقابة، بلا شك، حتى وإن كانت ذاتية الطابع. كما أن للضغوط السياسية دورها الأكيد، المباشر وغير المباشر، في إحجام الاستوديوهات الكبرى وكتّاب السيناريو، عن الإقدام على التناول العميق لهذا الموضوع. ما أدى، إجمالًا، إلى تجنّب صُنّاع الأفلام الخوض في مشاكل أو فساد القضاء بشكل مُباشر لتجنّب ردود الفعل السلبية من مؤسسات الدولة أو الرأي العام، وبالطبع، عدم الإساءة لصورة أميركا خارجيًا. ومن ثم، حتى في حالة التناول، كان التركيز على الفساد السياسي والجريمة المنظمة بالأساس، ويتم إلقاء اللوم على “السياسيين” أو “المجرمين” إلخ، وليس القضاة والمؤسسات القضائية. وحتى، في حال التعرّض لدائرة القضاء فالأغلب كان يتم تصوير القضاة كضحايا لضغوط خارجية، رشوة من المافيا، مثلًا، وليس كمصدر رئيسي للفساد.
من هنا، جاء الابتعاد التام تقريبًا عن شُبهة التشكيك في شرعية المحاكمات وآلياتها والنظام القضائي برمّته. فالأمر أيضًا فيه ما قد يُخالف فكرة أساسية في الدستور الأميركي حول إنصاف النظام القضائي، وتمثيله للعدالة خير تمثيل عبر إتاحة “المحاكمة العادلة” لكافة المواطنين. وعليه، في حال تقديم مشاكل القضاء، ينحصر الأمر عادة ضمن إطار كونها “حالات فردية” أو “نادرة”، لا تُمثّل النظام أو المؤسسة ككل، وإلا ستُقابل بالرفض أو تُعتبر “معادية للمؤسسات الوطنية”، حتى من جانب الجمهور. ما يؤكد على أن السينما الأميركية تسعى غالبًا للحفاظ على التوازن القائم وتقدير هذه المؤسسة تحديدًا.
أفلام قاعات المحاكم
لا تشذ أفلام قاعات المحاكم عن هذه القاعدة، لكنها تتناول الأمر من منظور آخر، إجرائي بالأساس، مبتعدة كل البعد عن القضاء نفسه، والقضاة ودوائرهم المغلقة. من أشهر هذه الأفلام “أن تقتل طائرًا بريًا” (1962)، لروبرت موليجان. وقد تناول العنصرية في القضاء الأميركي، وقدَّم تصوره من خلال التحيزات العرقية الكامنة في القوانين والعادات والتفرقة المجتمعية. في “الحكم” (1982) لسيدني لوميت، نحن بصدد السلطة القانونية والنفوذ في مقابل القوانين الأخلاقية وضعف النفس البشرية، ويعرض الصراع الداخلي للبطل، والرغبة في تحقيق العدالة، والوقوف ضد المغريات المالية. ويُعتبر من أفضل أفلام المحاكم التي تركّز على الفساد المؤسّسي وكرامة الإنسان.
وقد أتى فيلم “ابن عمي فيني” (1992) لجوناثان لين، ليعرض لنا جانبًا آخر لهذه النوعية من الأفلام. إذ ابتعد كثيرًا عن جو الصرامة والجدّية والتوتر، وغيرها من الأجواء المعهودة في هذه النوعية، ليتخذ الطابع الكوميدي في طرحه الدرامي. يعتبر الفيلم بحق من الأفلام التي أضافت طابعًا خفيفًا ومرحًا إلى نوعية أفلام المحاكم بفضل الأداء الرائع للممثل جو بيشي. يتناول “حفنة من الرجال الطيبين” (1992) لروب راينر، قضايا عديدة بجرأة لافتة، مثل الولاء، والسلطة العسكرية، والفجوة بين القيم الأخلاقية والقانونية. ويُعدّ من أكثر الأفلام التي تُبرز التصادم بين الحقيقة والسلطة. أما ما يمكن وصفه كأحد أعظم أفلام المحاكم في تاريخ السينما الأميركية، والتحفة الفنية الصامدة حتى الآن، رغم مرور أكثر من نصف قرن تقريبًا، فهو “12 رجلًا غاضبًا” لسيدني لوميت.
سيدني لوميت ورجاله
يُعتبر سيدني لوميت (1924 – 2011) أحد أهم المخرجين في تاريخ السينما الأميركية والعالمية. اشتهرت أعماله بتناول موضوعات العدالة والفساد والصراع الأخلاقي، في مؤسسات وأوساط عديدة، مثل القضاء والشرطة والسياسة. كما امتازت بعمقها الإنساني، وصدقها الواقعي، ونقدها الاجتماعي. لكن، ما أتاح لأفلامه التفرّد فعلًا نقدها الشجاع لمؤسسات الدولة والسلطة، خاصة الأوساط القانونية والقضائية. من هنا، يمكن أن نطلق عليه “مخرج العدالة”، بسبب انشغاله وتركيزه على أخلاقيات القضاء، وآليات النظام القانوني، وتعدّد أعماله المُثيرة لأسئلة مهمة وعميقة حول العدالة، والسلطة، والمسؤولية الأخلاقية.
فنيًا، يُعد لوميت من بين أساتذة الاشتغال ضمن الأماكن أو الديكورات الداخلية، وتوظيف المساحات المحدودة، على أكمل وجه. لذا، نجد الكثير من أفلامه دارت في أماكن صغيرة، داخلية، مغلقة. مثلًا، حجرة محكمة، أو غرفة مُداولة. ومن هنا، كان تركيزه الكبير على الحوار ورسم الشخصيات وتطورها، واختيار النجوم وإدارتهم، لإبراز التوتر الدرامي المطلوب وتحقيق واقعية وصدق الأداء. وليس مستغربًا تقديمه لأداءات تمثيلية فذة فعلًا لكبار نجوم عصره. نلاحظ هذا، مثلًا، في فيلمه الأشهر “12 رجلًا غاضبًا”، رغم كونه أول تجاربه السينمائية.
كان تحفته “12 رجلًا غاضبًا”، ولا يزال، من الأفلام المُلهمة في تاريخ السينما. يدور حول هيئة مُحلفين من 12 شخصًا يتعين عليهم اتخاذ القرار النهائي بشأن إدانة شاب مُتهم بقتل والده. ورغم اقتناع الجميع في البداية بذنبه، يبدأ أحدهم (هنري فوندا) في التشكيك في الأدلة. يُصر على مناقشة القضية بالتفصيل، ويبدأ رحلة طويلة من الجدال والمناظرات تكشف عن شكوك في الأدلة، وتُحَفِّز المُحلفين على مواجهة تحيّزاتهم الشخصية. النقاش الطويل والمعقد يُعري الشخصيات، ويفضح أيضًا عيوب النظام القضائي. وهكذا، قدَّم لوميت في فيلمه دراسة نفسية غير مسبوقة على مستويات عديدة، لا سيما بصريًا، لشخصيات المُحلفين، وكيف تُؤثر الخلفيات الثقافية والاجتماعية والبيئية على قراراتهم. كما يتعرض لمفهوم وقيم الديمقراطية وحرية الفرد في مواجهة الضغط الجماعي، في عمل مُشوق ومُحفز ومُلهم.
فنيًا، إلى جانب الأداء التمثيلي اللافت، نجد أن لكل عضو شخصيته المميزة والبارزة، وكيف تُمثل توجهًا فكريًا أو نفسيًا أو اجتماعيًا مختلفًا. مما أضاف عمقًا للدراما وأتاح للمشاهدين فرصة لرؤية كيفية تأثير التحيزات الشخصية على اتخاذ القرارات. مثلًا هنري فوندا، بأداء رصين وهادئ وقوي، يمثّل صوت العقل والمنطق في محاولته إقناع الآخرين بالشك المعقول، وبضرورة التروي في إصدار الحُكم. بينما لي جيه. كوب، يُمثّل الغضب والتعصب الأعمى، ويُجسِّد الصراع بين العواطف الشخصية ومُخاصمة المنطق، ما يُبرز ويُثير جملة من القضايا الشائكة، مثل ماهية العدالة، والتحيز، وكيفية اتخاذ القرارات المصيرية… إلخ.
كما اعتمد لوميت على فنيات عديدة، مثلًا، تغييرات ذكية في زوايا التصوير. استخدم زوايا تصوير واسعة وعريضة تعكس المساحة وتعدّد الشخصيات. تدريجيًا، يُقلّص المساحة البصرية باستخدام اللقطات المقرّبة، والزوايا المنخفضة ليُشعر المُشاهد بضغط الحجرة وتفاقم التوتر. كما كان لتوظيف الإضاءة دوره اللافت في نقل الحالة النفسية للمُحَلِّفين. إذ بدأت الإضاءة مُشرقة في البداية، وصارت بالتدريج أكثر قتامة نتيجة الجو المشحون والتوتر النفسي.
ورغم الحوار المتواصل بلا انقطاع تقريبًا، وملاحظة مدى عمقه، إلا أن تطور النقاشات وتصاعد حدّتها جعلا الإيقاع مشوقًا وديناميكيًا. وذلك، لأن كل جملة تخدم الحبكة وتدفع القصة للأمام، وليست محض حشو أو ثرثرة في مشاهد غير ضرورية لا تنم عن ضبط متوازن للإيقاع. في النهاية، نجدنا أمام فيلم ليس مجرد دراما في غرفة تداول بمحكمة، بل دراسة معمقة للنفس البشرية وأخلاقيات العدالة. وكيف أن الشك من أهم العناصر المطلوبة لإرساء قضاء عادل. مع ضرورة الابتعاد عن التحيّزات الاجتماعية والشخصية في إصدار الأحكام. وهو ما نلمسه لدى بعض المُحَلّفين الذين كان قرارهم نابعًا من خلفياتهم النفسية أو الاجتماعية، وليس انطلاقًا من أدلة منطقية.
أخيرًا، أبرز الفيلم وبمنتهى القوة مدى أهمية دور الفرد وشجاعته أمام الجماعة، وفي مواجهة الأغلبية أو تَوَجُّه القطيع، وكيف يمكن لصوت واحد أن يُحدث أكبر تغيير. ما يجعل الفيلم يتجاوز نطاق القضية القانونية، إلى مفهوم العدالة في حياة البشر. العدالة التي هي بحاجة ماسة إلى عقل ناقد، عوضًا عن الانصياع الجماعي المُغَيَّب للعقل والذي يقود إلى الظلم وإزهاق حياة الأبرياء. ورغم الظلال التي يُلقيها الفيلم على آليات النظام القضائي وعمله، لكنه يُعيد للمشاهد إيمانه بأهمية العدالة والقيم الإنسانية ودور العقل البشري، وكيف أن الإمعان في التفكير لا يُفضي إلى التشوش، بالعكس. أيضًا، التأكيد القاطع على أن التحيّز أو الانحياز الأعمى يحجب الحقيقة. وإن كان لوميت، في النهاية، تَجَنَّبَ بذكاء الاقتراب أو الاشتباك بقوة مع تعريف الحقيقة وماهيتها، وهو ما لم يفعله إيستوود في جديده “المُحَلِّف رقم 2”.
كلينت ورجله رقم 2
يُعدّ كلينت إيستوود أحد أبرز المخرجين والمنتجين والممثلين المؤثرين والمُلهمين في تاريخ صناعة السينما الأميركية والعالمية. لا شك في أن الكثير من أعماله من العلامات الفارقة في تاريخ الفن السابع منذ انطلاقته كممثل في الستينيات، أو بعدما لفت الأنظار كمخرج متمكن في السبعينيات. يجمع إيستوود وبتمكّن فائق، في أغلب أعماله، بين الأسلوب الفني الرفيع وقوة الإحساس الدرامي. ونجح فعلًا في تقديم دراما تنطوي على تعبيرات إنسانية عميقة، ذات شخصيات واقعية مُركبة ومتعدّدة الأبعاد والتعقيدات، عاكسة لاضطرابات أو جوانب نفسية غير هينة. خاصة، تلك التي تُواجه تحدّيات شخصية أو أخلاقية أو اجتماعية. وقد ساعد على إبراز هذا حُسن اختياره وتوظيفه وإدارته الذكية للممثلين في أغلب أعماله.
يُوظّف إيستوود الرمزية بشكل كبير، سواء من خلال العناصر البصرية، أو في طريقة السرد والحوار. كما يتعمد ترك حرية تفسير الرموز والإحالات والتلميحات للمُتفرج. ورغم تقديمه لأفلام تحمل في طياتها صراعات داخلية جمة، إلا أنه دائمًا ما يعشق الأسئلة الجدالية العميقة المرتبطة بهذه الصراعات، وتركها بلا إجابات نهائية، ما جعل أعماله على قدر كبير من التنوع والعمق والتشويق. ومن هنا، كان تناوله لقضايا عميقة وحادة مثل العنف والحرب والفقد والعدالة. وتنقله بين أنواع درامية عديدة، الويسترن والكوميديا السوداء والرومانسية، وغيرها. كلها تصب في مسار تناول قضايا اجتماعية وسياسية من صميم الحياة الأميركية بصفة خاصة، وتناول تعقيدات النفس البشرية والمسؤوليات الأخلاقية بصفة عامة.
في أحدث أفلامه، “المُحلف رقم 2” (Jure #2)، وهو دراما قانونية عن أروقة المحاكم، يستلهم إيستوود إلى حدّ كبير، يصل أحيانًا حد التطابق في بعض الخيوط والشخصيات والجُمل الحوارية، فيلم “12 رجلًا غاضبًا”. ما يطرح أسئلة كثيرة حول الجديد الذي جاء به. وسبب الإقدام على هذا النهج في المُعالجة، وعدم الابتعاد عن شبهات التقاطع وفيلم لوميت الشهير. خاصة وأن نسخته جاءت جدّ باهتة، ومُستنسخة، رغم ما تضمنته من إمكانيات هائلة. خاصة لو أُحسِنَ استغلال الشخصية الرئيسية ورد فعلها وموقفها المُتأزم على نحو مُغاير لما شاهدناه بالفيلم.
تتناول الأحداث محاكمة معقدة تتعلق بجريمة قتل، لكن يتمحور الصراع هنا حول عضو هيئة المُحَلِّفين رقم 2، جوستين (نيكولاس هولت)، الذي يكتشف تدريجيًا أن له علاقة مباشرة بالقضية التي عليه البت فيها. يُظهر الفيلم صراعه الداخلي الحاد بعدما وجد نفسه أمام خيارين صعبين: الحفاظ على سره وحماية نفسه وأسرته، أو التصرف وفقًا لضميره والقانون. يستعرض الفيلم خلفيات وتداعيات هذا الاشتباك والضغوط التي يشعر بها جوستين والصراع بين العدل الشخصي والمسؤولية القانونية. هنا، يعود إيستوود لموضوعه الأثير: الأخلاقيات، وتعقيداتها، سيما في حالة ارتباطها بالعدالة وبالنزاهة الشخصية. ولذا، لم يستهدف المخرج خلق أي نوع من التشوق والإثارة فيما يخص كشف غموض الجريمة أو هوية مُرتكبها. إذ جرى توضيح هذا منذ الربع الأول في الفيلم تقريبًا، ضاربًا عرض الحائط بالكشف التدريجي التشويقي المُتمهل عن المعلومات. ومع مرور الوقت، سرعان ما ينتبه المُشاهد إلى أنه يهدف إلى تناول الحيرة والمُعضلة الأخلاقية التي يعيشها المُحَلِّف بالأساس.
فنيًا، ينجح كلينت إيستوود في جعل المُشاهد يتفاعل وبعمق مع شخصية المُحَلِّف، التي أداها نيكولاس هولت بجودة لافتة، بمساعدة بقية طاقم التمثيل. خاصة دوره المحوري في بناء التوتر العاطفي والنفسي في الفيلم. ورغم جودة الأداء التمثيلي إجمالًا، لكنه ليس بارعًا ولا خارقًا، إذ ينحصر في حدود أداء الشخصيات المرسومة أصلًا. أيضًا، خلافًا لعادة إيستوود المتعلقة بالاقتصاد في الحوار قدر الإمكان، والتركيز على الشخصيات والعلاقات الداخلية المعقدة، يعج الفيلم بمشاهد حوارية كثيرة، بدون الكثير من التعقيد والتعمق، بل أحيانًا تكون مسرحية الطابع، وأغلبها غير مبتكر، سيّما تلك الخاصة بالمناقشات والتفاعلات بين المُحَلِّفين، ودورها في وصولهم إلى قرارهم النهائي.
أخيرًا، على النقيض من تجنّب لوميت التصدّي لمفهوم الحقيقة وملابساتها، حاول إيستوود المضي لأشواط بعيدة، متناولًا الحقيقة في مقابل العدالة، وكيف أن الحقيقة لا تُعَبِّر عن العدالة، وليست مرادفًا لها. يضرب البطل مثالًا بحالته الشخصية الخاصة في مشهد النهاية في حواره مع فيث (توني كوليت)، مُمَثلة الادعاء والمُدعية العام للولاية لاحقًا، والتي نظرت بتشكك إلى شعار “نثق في الله” (In God We Trust) بعد النطق بالحكم، وكشفها لحقيقة ما حدث فعلًا، والتزامها الصمت. يتساءل جوستين عن ماهية العدالة بخصوص تدمير حياته وأسرته والزجّ به في السجن في مقابل خروج وبراءة شخص سيء؟ بهذا الطرح الإشكالي، يُغلِق إيستوود الدائرة التي فتحها في بداية الفيلم. إذ نرى لقطة علوية من خلف تمثال العدالة، المُتأرجح كثيرًا طيلة الفيلم، لنتذكر المشهد الافتتاحي في الفيلم حيث نرى أليسون (زوي دويتش)، زوجة جوستين، وهي معصوبة العينين بينما يقودها زوجها إلى حجرة أعدّها حديثًا لمولودهما القادم.