محمد هاشم عبد السلام

 

في أحدث أفلام المخرج الدانمركي المتميز “توماس فينتيربيرج”، والذي يحمل عنوان “الكوميونة” (The Commune)، يعود فينتيربيرج ليتناول أحد الموضوعات التي كثيرًا ما تناولتها السينما الاسكندنافية عبر تاريخها، وذلك على يد أكثر من مخرج لافت من مخرجيها، الذين حاولوا عن طريق رصدهم لفكرة الكوميونة أن يسبروا أغوار ذلك النمط الاجتماعي، الذي انتشر على نحو ما في بعض المجتمعات الأوروبية بداية من سنوات السبعينات من القرن الماضي، وحتى تلاشيه تقريبًا مع مطلع هذا القرن.

والكوميونة ليس المقصود بها المعنى المُتعارف عليه للكلمة الفرنسية، وإنما يُقصد به مجموعة من الأفراد، البالغين عادة، الذين يكوِّنون ما يشبه المجتمع الخاص بهم داخل أحد الأماكن التي يختارونها. قد تكون شقة أو فيلا كبيرة أو مرزعة على سبيل المثال. وعادة ما يتفق أعضاء تلك المجموعة على التشارك والمشاركة في كل شيء تقريبًا، الممتلكات والمتعلقات والأفكار والآراء، وأحيانًا حتى تقاسم النقود أو الدخل والعمل وأيضًا العلاقات الجنسية.

وبالعودة إلى فيلم الكوميونة، الذي عُرض في مسابقة مهرجان برلين هذا العام، وفازت بطلته بجائزة أحسن ممثلة، والمأخوذ عن مسرحية تحمل نفس العنوان من تأليف مخرج الفيلم، كان قد كتبها عن فترة طفولته وشبابه اللتين قضاهما في العيش وسط مجتمع الكوميونة أيضًا، نجد أن أحداث الفيلم التي تدور في عام 1975، تتكئ فقط على تيمة أو موضوع الكوميونة كإطار خارجي يغلف فكرة العيش المشترك ويتجاوزها دون التوقف كثيرًا عندها. وقد جاء هذا مُخالفًا لما كان يُعتقد عن أن فكرة الكوميونة ستكون هي لب الفيلم والموضوع الرئيسي الذي تدور حوله وتتفرع منه الأحداث. وقد تجاوز فينتربيرج موضوع الكوميونة بمهارة ولم يسقط كثيرًا في فخ التركيز عليه، فقط رصد ما يكفي من أجل التذكير بذلك النمط من العيش، وليؤسس من خلالها لما يود أن يطرحه في فيلمه.

ولذا فإن المشاهد العابر أو من استوقفه اسم الفيلم فحسب، من ينتظر رؤية فينتربيرج الخاصة لموضوع الكوميونة والتي بالقطع كانت ستخرج على قدر من التميز والفنية، لن يستطيع التفاعل مع الفيلم على نحو فني منفتح. أيضًا، سيعتقد الكثيرون أن ثمة مشكلة في السيناريو أو المعالجة الخاصة بقصة الفيلم، وأنه لم يكن هناك داع بالمرة لطرح فكرة الكوميونة، لا سيما وأن الفيلم يمضي على نحو شديد التقليدية إلى تناول قصة حب وخيانة. وبالرغم من تأكيدنا على أن المستوى الفني المتميز للفيلم لم يرق بالقطع لفنية أقوى أفلام فينتربيرج السابقة، لكن الفيلم لا يعاني من أية مشاكل فنية على مستوى السيناريو أو فيما يتعلق بتقليدية قصته.

يتناول فينتربيرج في فيلمه الجديد، وعلى نحو أساسي، ذلك المثلث التقليدي الدرامي المعهود مع بعض التغيير، فبدلا من العودة لقصة الزوج والزوجة والعشيق، يتناول المخرج هنا قصة الزوج والزوجة والعشيقة. وبالطبع ليس مجرد تبدل ذلك الثالوث هو ما يجعل القصة غير تقليدية أو السيناريو قويًا، وإنما الكيفية التي طرح بها وعالج من خلالها المشاعر الأنثوية المترتبة على تلك العلاقة، ورصده تبعاتها ونتجائها. أضف إلى ذلك أن تلك المعالجة تأتي ضمن سياق أو إطار فكرة الكوميونة، والتي كان الأمر سيختلف كثيرًا لو جرى طرحها بمعزل عنها، وكان من الممكن بالقطع أن تخرج المعالجة عادية وتقليدية، لكن فكرة الكوميونة وأبعادها وأفرادها أضافت الكثير، وعمقت من حدة الألم بالفيلم، وأوصلت المشاعر إلى ذروة السادية في التعامل، برغم ما تحمله فكرة الكوميونة في حد ذاتها من طوباوية مُفترضة.

بإخلاص جزئي لقواعد سينما الدوجما 95، وقد كان فينتربيرج أحد روادها في الدانمرك، حيث الاستخدام المكثف للكاميرا المحمولة، المهتزة في بعض الأحيان، واللقطات المقربة، والالتزام بمكان تصوير الأحداث، واستخدام الألوان، وسيرًا أيضًا على النهج القديم والمعاصر بعض الشيء في السينما الدانمركية والاسكندنافية، على وجه الخصوص، حيث ما يمكن أن نطلق عليه دراما الحجرة، ينسج فينتربيرج أحداث فيلم الكوميونة، التي تبدأ مع بطل الفيلم “إريك” (أولريخ تومسن)، الذي يرث فيلا كبيرة عن والديه اللذين رحلا مؤخرًا. يرغب إريك في بيع الفيلا نظرًا لضخامتها وتكلفة صيانتها وغيرها من الأعباء التي لن يستطيع تحملها ولا طائل تحتها، لا سيما أسرته الصغيرة المكونة من زوجته وابنته ليست بحاجة ماسة لها.

في البداية، كان إريك راغبًا في بيع الفيلا، لكن زوجته “آنا” (ترينة ديرهولم) وابنته “فرايا” (مارتا صوفي هانسن)، جعلتاه يتراجع عن فكرته. كانت فكرة إريك أن العيش في مكان كبير يصعب على المرء فيه الشعور والإحساس ورؤية الآخر لا تعتبر فكرة جيدة للعيش، في حين رأت آنا أن العيش في مكان صغير يجعل العقل محدودًا. سريعًا، تُصارح آنا زوجها بأنها تشعر بالملل الشديد في زواجهما بعد انتقالهما للفيلا، ولهذا السبب تحديدًا تقترح عليه فكرة العيش المشترك أو الكوميونة، يتردد إريك في البداية لكنه يوافق في النهاية بعد إلحاح آنا وفرايا.

سرعان ما تمتلأ الفيلا بالكثير من الأصدقاء البوهيميين وذوي الأطوال الغريبة وشبه العاديين، ستة على وجه التحديد، وذلك بعدما عقدت مقابلات سريعة لاختبارهم وامتحان مدى قدرتهم وقابليتهم على الانضمام إلى الكوميونة. وبعدما كانت الفيلا الضخمة النائية لا صوت فيها، صارت تعج فجأة بالأفراد الجدد والأصوات واللقاءات والحوارات الثنائية أو النقاشات العامة – خاصة أثناء تناول الوجبات – شبه العنيفة أو العدائية المتعلقة بالأساس بقوانين الفيلا، والنظم التي تحكم توزيع المهام والأدوار داخلها أو الاجتماعات الدورية المهمة لأخذ الأصوات بشأن القرارات المصيرية المُلحة.

رغم عدم وجود روابط أسرية مُباشرة أو شبكة دعم عائلي أو عاطفي بأي حال من الأحوال بين أفراد الكوميونة، ولا شبهة تلميح لأي اتصال جنسي أو علاقات خيانة أو انجذاب أو تلميحات أو تحرشات جنسية أو مشاعر في غير محلها، حتى وإن كانت مُجرد مشاعر غيرة عادية، فلم يخل الأمر من بعض الفرح والمرح فيما بينهم، خاصة في الاحتفالات والمناسبات والأعياد، كما تجلت روح الجماعة والترابط عند اتخاذ القرارات المشتركة التي تخص وتحكم الحياة فيما بينهم. ومن ثم، استشعر المرء في بعض الأحيان أن ذلك المكان يكاد يتحول تدريجيًا إلى مكان طوباوي بامتياز.

ذلك المكان الطوباوي، الذي يصعب مع كل لحظة تخيل أي تهديد قد يقوضه، ما سرعان ما تتهدد ركائزه، ليس من داخله وإنما من الخارج على وجه التحديد، من ذلك الصدام الذي ينشأ بين الرغبات الفردية أو الشخصية وروح التضامن أو التسامح داخل الكوميونة. فإريك، الذي يبدو عليه عدم الرضا وفقدان الذات ضمن هذه المنظومة التي يحاول التماشي معها بطريقة أو أخرى، يفقد نفسه في النهاية بمنتهى السهولة عندما تتقرب منه تلميذته الشابة “إيما” (هيلينا نويمان)، التي سرعان ما تستوعبه وتوقعه في حبها، فتحل محل زوجته.

تكتشف فرايا، في الرابعة عشر من عمرها، العلاقة بين والدها وإيما، الأمر الذي يضطره لمصارحة آنا بطبيعة العلاقة، وفي أحد أقوى وأقسى مشاهد الفيلم تتقبل آنا العلاقة بصدر رحب، بل وسرعان ما تطلب منه انتقال إيما للعيش معهما، وبالفعل يؤخذ رأي الجميع، وتتم الموافقة على انتقال إيما للعيش وسط الكوميونة. شيئًا فشيئًا، يتحول الأمر إلى كابوس مرعب بالنسبة لآنا، وفي محاول منها للحفاظ على مثالية الكوميونة تضحي بسنوات زواجها وحبها لإريك، وتضغط على نفسها ومشاعرها وأحاسيسها كامرأة في منتصف عمرها، ربما تمر أيضًا بأزمة منتصف العمر، وتبذل قصارى جهدها لتقبل وجود إيما.

وبعدما حاولت آنا، قدر استطاعتها، تحمل مشاعر الغيرة والوحدة للمحافظة على وحدة ذلك الكيان وعدم خرق نواميسه، سرعان ما تنهار على جميع المستويات، نفسيًا وجسديًا وعمليًا أيضًا. ومن ثم، تصبح مثيرة للمشاكل، والأهم مصدر تهديد لأمن وسلام ذلك الكيان. وهنا يجد أفراد الكوميونة أنفسهم بين أمرين، إما طرد إيما وإريك أو آنا أو الإبقاء على الأمر كما هو عليه. يكون القرار في النهاية بضرورة ترك آنا الفوري للكوميونة، وتُرجِّح هذا الاحتمال القاسي وتطلبه مباشرة ابنتها فرايا، بعدما رأت كيف تتمزق والدتها أمام عينيها.

وبصرف النظر عن الحبكات الأخرى الفرعية المتفاوتة المستوى والأهمية والعمق أو لنقل الزيادات الزمنية الميتة، التي شتت مسار الفيلم  بعض الشيء وحادت به عن مغزاه الرئيسي العميق وبؤرة صراعه وتوتره، حيث العلاقة الثالوثية بين آنا وإيما وإريك، إلا أن فينتربيرج لم ينزلق قط نحو الميلودراما في فيلمه، رغم وجود الكثير من المواقف الدرامية التي كان من الممكن ببساطة أن تتحول بسهولة إلى ميلودراما، لكنه تجاوزها بمنتهى البراعة ولم يتوقف عندها بالمرة. إن فيلم “الكوميونة”، بكل ما له وما عليه، إما أن يجد المرء نفسه غير قادر على التفاعل معه ومع علاقته وفكرته أو أن يتفاعل بحرارة مع برودة المشاعر وقسوة العلاقات الإنسانية التي هي طابع وخاتم مميز للسينما الاسكندنافية عامة.