أجرى المقابلة: بول رابينو
ترجمة: محمد هاشم عبد السلام
بول رابينو: لماذا لا تشارك في المجادلات العنيفة؟
ميشيل فوكو: أحب المناقشات، وعندما توجه إليّ أسئلة، أحاول الإجابة عنها. صحيح أنني لا أحب الاشتراك أو التورط في المجادلات العنيفة. إذا فتحت كتابًا ورأيت أن الكاتب يتهم خصمًا “باليسارية الطفولية” أغلقه ثانية على الفور. ليست هذه طريقتي في تناول الأشياء، أنا لا أنتمي إلى عالم الناس الذين يتناولون الأشياء بهذه الطريقة. أصر على هذا الاختلاف كشيء ما أساسي أو جوهري: هناك أخلاقيات بأكملها في خطر، تلك التي تتعلق بالبحث عن الحقيقة والعلاقة بالآخر.
في اللعبة الجادة الخاصة بالأسئلة والأجوبة، في القيام بالشرح أو التوضيح المتبادل، ثمة حقوق ما لكل شخص متأصلة بشكل أو آخر في المناقشة. هذه الحقوق تعتمد فقط على الموقف الحواري. يمارس الشخص الذي يقوم بتوجيه السؤل الحق الذي أعطي له: أن يظل غير مقتنع، أن يكون على وعي ودراية بالتناقض، أن يطلب مزيدًا من المعلومات، أن يؤكد الافتراضات أو المسلمات المختلفة، أن يشير إلى التعليلات المليئة بالعيوب والنقائص، وهكذا. وبالنسبة للشخص الذي يجيب عن الأسئلة، يمارس هو أيضًا الحق الذي لا يتخطى حدود المناقشة نفسها؛ وهو، عن طريق منطق محادثاته الخاص، مشدود ومقيد إلى ما قاله في وقت سابق، وبقبوله للحوار فإنه يكون مقيدًا ومشدودًا للاستجواب من جانب الآخر. تعتمد الأسئلة والأجوبة على لعبة – لعبة لطيفة وصعبة في نفس الوقت – يبذل فيها كلا الشريكين جهدًا عظيمًا فقط لاستخدام الحقوق المخولة له من جانب الآخر ومن جانب الشكل أو القالب الحواري المقبول.
المجادل، من ناحية أخرى، يخوض المواجهة وقد تحصن خلف الامتيازات التي منحها لنفسه مقدمًا ولن يوافق أبدًا على أن يتساءل. كمبدأ، إنه يمتلك الحقوق التي تخول له شن الحرب وجعل ذلك الصراع بمثابة قضية عادلة أو شيء مشروع؛ الشخص الذي يواجهه ليس شريكًا في البحث عن الحقيقة بل عدوًا، ذلك العدو الذي هو على خطأ دائمًا، والذي هو مدجج بالسلاح، والذي يشكل وجوده هو بالذات تهديدًا. بالنسبة له، لا تتكون اللعبة إذن من الاعتراف بهذا الشخص كذات فاعلة لها الحق في التحدث لكن لإلغائها كمخاطب أو كمحاور، من أي حوار ممكن؛ وسيكون هدفه النهائي ليس الاقتراب قدر الإمكان من صعوبة الحقيقة بل فقط إحراز انتصار للقضية التي كان يناصرها بوضوح منذ البداية. يعتمد المجادل على شرعية أن خصمه بوضوح مرفوض أو نكرة.
ربما، يوما ما، سيكون من الواجب كتابة تاريخ طويل من المجادلات، المجادلات كشكل طفيلي على المناقشة وكعائق أو عقبة في سبيل البحث عن الحقيقة. على نحو تخطيطي جدًا، يبدو لي أن بإمكاننا اليوم التعرف على وجود ثلاثة نماذج من الجدال: النموذج الديني، النموذج القضائي، النموذج السياسي. كما في المذهب الهرطقي، تعيّن عملية المجادلة لنفسها مهمة التحديد القبلي المسبق للركيزة الأساسية غير الملموسة للتعصب المذهبي، المبدأ الجوهري والضروري الذي أهمله الخصم، تجاهله أو تجاوزه، ويشجب المجادل هذا الإهمال كعيب أخلاقي، في أصل الخطأ، تجد في عملية المجادلة سمات العاطفة، والرغبة، والاهتمام، وسلسلة كاملة من العيوب والارتباطات غير المقبولة التي ترسخه وتؤكده كذنب أو موقف يستحق الإدانة. وكما في الممارسة القضائية، تحرص عملية المجادلة على مصادرة أية إمكانية لمناقشة متكافئة: المجادلة تختبر وتفحص القضية، دون أن تتعامل مع مخاطب، إنها تتعامل مع الارتياب أو الاشتباه، إنها تجمع أدلة على ذنبه، تحدد المخالفة أو الخرق الذي ارتكبه، وتنطق بالحكم وتقوم بتنفيه. على أية حال، الجدال الذي نتحدث عنه الآن لا يمكن أن يكون بقصد أو بغرض بحث وتحقيق مشترك؛ يعلن المجادل الحقيقة في شكل حكم من جانبه وبفضل السلطة التي أسبغها هو على نفسه. لكن النموذج السياسي هو الأقوى اليوم. هذا الجدال العنيف يحدد أو يعين التحالفات، والأنصار الجدد، يوحد الاهتمامات والآراء، يمثل حزبًا؛ يرسخ الآخر كعدو، ذلك المؤيد أو الداعم للاهتمامات المعارضة التي يجب أن يحارب المرء ضدها وصولاً غلى تلك اللحظة التي يُهزم فيه هذا العدو فإما يستسلم أو يختفي.
بالطبع، إعادة التنشيط، في المجادلات، لهذه الممارسات السياسية، والقضائية، والدينية ليست أكثر من شكل مسرحي أو وسيلة للتعبير. يشير أحدهم أو يومئ في حديثه إلى: اللعنات، العزل (الحرمان الكنسي)، الإدانات، المعارك، الانتصارات، والهزائم على أنها كلها ليست أكثر من طرق للتحدث، أولاً وأخيرًا. ومع ذلك، فإن الخطاب في شكل محاضرة، هو أيضًا سبيل للفعل والتصرف لا يخلو من نتيجة. هناك بالطبع الآثار التي تصيب بالعقم والجدب. هل سبق لأحد أن رأى في أي وقت فكرة جديدة نتجت عن جدال؟ وكيف يمكن أن يسير الحال إلى ما هو أفضل، في ظل اندغاع الطرفين المتحاورين تحت ضغط التحريض لا على التقدم في محادثتهما، وليس على مواجهة المزيد والمزيد من الأخطار أو المغامرات فيما يصدر عنهما، بل نجد التحريض هو على التراجع باستمرار إلى الحقوق التي يطالبان بها، وإلى شرعيتهما، التي يجب أن يدافعا عنها، وإلى براءتهما التي يؤكدانها ؟ ثمة شيء ما أكثر خطورة هنا: في هذه المهزلة، يحاكي المرء الحروب الزائفة، والمعارك، والإبادات، أو الاستسلام غير المشروط، يخوض في كل ذلك بأكبر قدر من الروح القتالية داخله. لكنه من الخطير فعلاً جعل أي شخص يعتقد أنه يمكن له أن ينال الحقيقة بمثل هذه الطرق وبالتالي يضفي شرعية على، حتى وإن كان في شكل رمزي فقط، الممارسات السياسية الحادثة بالفعل والتي يمكن تسويغها وتبريرها عن طريقها. دعنا نتخيل، للحظة، أن عصًا سحرية لّوحت وان أحد الخصمين في الجدال أعطي القدرة على ممارسة كل السلطة التي يرغب فيها على الآخر. لا يجب على المرء تخيل حتى هذا: على المرء فقط أن يلقي نظرة على ما حدث أثناء المناظرة في الاتحاد السوفيتي عن اللغويات أو علم الوراثة منذ فترة ليست بالبعيدة. هل كانت هذه فقط انحرافات شاذة عن المألوف وعما كان مفترضًا أن تكون عليه مناقشة سليمة؟ ليس على الإطلاق – لقد كانت النتائج الحقيقية لسوك أو موقف جدالي تظل أثاره في العادة مرجأة ومعطلة.
ب. رابينو: تمت قراءتك كمثالي، كعدمي، كـ”فيلسوف جديد”، كمعارض للماركسية، من المحافظين الجدد، وهكذا… أين تقف؟
م. فوكو: أعتقد في الحقيقية أنني تم وضعي في معظم الخانات فوق لوحة الشطرنج السياسية، على التوالي وأحيانًا في نفس الآن: كفوضوي، كيساري، ماركسي متفاخر أو متنكر لماركسيته، عدمي، مضاد للماركسية علانية أو سرًا، تكنوقراط في خدمة الديجولية، ليبرالي جديد وهكذا. اشتكى أستاذ أمريكي من أن ماركسي متخف مثلي كان مدعوًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الجانب الآخر تم شجبي من قبل الصحافة في بلدان أوربا الشرقية لكوني شريكًا للمنشقين. لا يوجد في هذه الأوصاف ما هو مهم في حد ذاته؛ تناولها معًا جملة واحدة، من ناحية أخرى، يجعلها ذات معنى. ويجب أن أعترف أنني إلى حد ما أحب ما تعنيه هذه الأوصاف مجتمعة.
صحيح إنني لا أحب أن أعرّف أو أحدد نفسي، أنا مستمتع بالطرق المتنوعة التي تم بها تصنيفي والحكم عليّ. شيء ما يخبرني بأنه من الآن تقريبًا يجب عليّ أن أجد مكانًا ما تقريبيًا، بعد المجهودات الكثيرة التي بذلت في مثل هذه الاتجاهات المختلفة؛ ونظرًا لأنني لا يمكنني بوضوح أن أشك في كفاءة الناس الذين تخبطوا في أحكامهم المختلفة، ونظرًا لأنه ليس بالإمكان تحدي غفلتهم أو تحاملاتهم، فيجب عليّ أن أكون الاقتناع بأن عجزهم عن تصنيفي كانت له علاقة بي بعض الشيء.
وليس هناك شك أساسي أو جوهري يتعلق بطريقتي في الاقتراب من القضايا السياسية. نعم إن موقفي ليس نتيجة للشكل النقدي الذي يدعي أنه ممارسة منهجية لرفض جميع الحلول الممكنة باستثناء الحل الوحيد الصحيح. إنه على الأحرى يثير “الإشكالية” – الذي يعني، تطوير مجال الأفعال، والممارسات، والأفكار التي تبدو لي تطرح إشكالية على السياسة. على سبيل المثال، أنا لا أعتقد أنه فيما يتعلق بالجنون والمرض العقلي ثمة أية “سياسة” يمكن أن تحتوي على حل صائب وحاسم ومحدد. لكنني أعتقد أنه في الجنون، والخبل، وفي مشاكل السلوك، هناك أسباب لتوجيه الأسئلة إلى السياسة، ويجب أن تجيب السياسة عن هذه الأسئلة، لكنها لن تجيب عنها أبدًا بشكل كلي. نفس الشيء صحيح في الجريمة والعقاب: طبعًا، سيكون من الخطأ أن تتخيل أن السياسة عاجزة فيما يتعلق بمنع الجريمة وبالعقوبة، ولذلك لا يمكن عمل شيء مع عدد معين من العناصر التي تعدّل من شكلها، ومعناها، وتكرارها؛ لكنه سيكون من العدل الحكم بخطأ الاعتقاد في أن هناك صيغة سياسية ملائمة لأن تحل قضية الجريمة وتضع نهاية لها. نفس الشيء ينطبق على النشاط الجنسي: إنه لا يتواجد بمعزل عن العلاقة مع الهياكل السياسية، ومتطلباتها، وقوانينها، ولوائحها التي توليه أهمية رئيسية، لديها له أهمية رئيسية؛ بيد ان المرء لا يمكن أن يتوقع أن تقدم السياسة الصيفة التي سيتوقف معها النشاط الجنسي عن أن يكون مشكلة.
إنها إذن مسألة التفكير بشأن علاقات هذه التجارب المختلفة بالسياسة، والتي لا تعني أن المرء سيبحث في السياسة عن المكون الرئيسي لهذه التجارب أو الحل الذي سيسوي مصيرها بشكل حاسم، المشاكل التي تثيرها أو تطرحها تجارب مثل هذه على السياسة ينبغي دراستها بالتفصيل، لكنه من الضروري أيضًا تحديد ما الذي يعنيه بالفعل مصطلح “طرح المشكلة” على السياسة. يشير ريتشارد رورتي إلى أنني في هذه التحليلات لا ألجأ أو أحتكم إلى أي “نحن” – ولا أسعى لأي من هذه “النحن” المتعددة، لهذا الإجماع أو لهذه الجموعية، لهذه القيم، لهذه التقاليد التي تؤلف أو تشكل إطارًا للفكر وتحدد الظروف التي يمكن أن يكون الفكر بها صالحًا وشرعيًا. لكن المشكلة، بالتحديد، هي أن تقرر إذا كان مناسبًا فعلاً أن يضع المرء نفسه داخل نطاق الـ”نحن” لتأكيد المبادئ التي يعترف بها والقيم التي يقبلها، أم أنه بالإمكان، على العكس أو بالأحرى، أن تجعل التكوين أو (البنية المستقبلية) لـ”النحن ” ممكنًا عن طريق التعمق في دراسة المسألة. لأنه يبدو لي أن الـ”النحن” لا يجب أن تسبق القضية؛ يمكن فقط أن تكون نتيجة – ونتيجة ضرورية مؤقتة – للقضية حسبما يصوغها المرء في المصطلحات الجديدة. على سبيل المثال، أنا لست متأكدًا من أنني حينما كتبت “تاريخ الجنون”، أنه كان هناك وجود سابق ومقبول لـ”النحن” التي كان يتوجب عليّ فقط الإشارة إليها لأتمكن من كتابة كتابي، والتي كان على هذا الكتاب أن يأتي كتعبير تلقائي عنها. لم نحن، لانج، كوبر، باساجليا، وأنا جماعة أصدقاء أو زملاء، لم نلتق، ولا كانت بيننا علاقة من أي نوع؛ لكن المشكلة طرحت نفسها على هؤلاء الذين قرؤونا، مثلما طرحت نفسها أيضًا على بعض منا، لرؤية ما إن كان ممكنًا تأسيس الـ”النحن” على أساس العمل الذي تم القيام به، الـ “النحن” التي من المحتمل أن تكون شكل أو نموذج لمجتمع فعل، وحركة، وعمل، وإثارة.
لم يسبق لي أبدًا محاولة تحليل أي شيء من أي نوع من وجهة نظر السياسة، لكنني دائمًا أسأل السياسة عما يجب أن تقوله فيما يتعلق بالمشكلات التي سبق لها أن واجهتها. أسألها عن الأوضاع والمواقف التي تأخذها والأسباب التي تعطيها في هذا الشأن؛ أنا لا أطلب منها أن تعين نظرية لما أقوم به. أنا لست عدوًا ولا مناصرًا للماركسية؛ أنا أسألها عما ينبغي عليها أن تقوله بخصوص التجارب التي أسأل أسئلة عنها.
بالنسبة لأحداث مايو 1968، يبدو لي أنها تقترن بمُعضلة أخرى. لم أكن في فرنسا في ذلك الوقت؛ عدت بعد عدة أشهر فقط. وبدا لي أن بإمكان المرء التعرف بشكل كلي على العناصر المتضاربة في الموقف العام: من ناحية، المجهود، الذي كان مؤكدًا على نطاق واسع جدًا، لسؤال السياسة سلسلة كاملة من الأسئلة التي لم تكن عادة جزءًا من اختصاص أو مجال سلطتها، (أسئلة عن المرأة، عن العلاقة بين الجنسين، عن الدواء، عن المرض العقلي، عن البيئة، عن الأقليات، انتهاك القانون والجنوح)؛ و، من ناحية أخرى، الرغبة في إعادة صياغة كل هذه المشاكل في مفردات أو مصطلحات النظرية المقترحة التي كانت مستمدة مباشرة تقريبًا من الماركسية. لكن المعالجة التي كانت واضحة في هذا الوقت أدت إلى ليس الاضطلاع بالمشاكل المطروحة عن طريق المذهب الماركسي بل، على العكس، أدت إلى المزيد والمزيد من الضعف الواضح من جانب الماركسية في مواجهة هذه المشكلات. لذلك وجد المرء نفسه يواجه الأسئلة التي كانت موجهة للسياسة لكنها لم تنبثق عن مذهب سياسي. من وجهة النظر هذه، بدا لي مثل هذا التحرر الذي واكب فعل الاستجواب على أنه قد لعب دورًا إيجابيًا: الآن كان هناك عدد وافر من الأسئلة المطروحة تلقائيًا على السياسة بدلاً من إعادة تقديم فعل الاستجواب في إطار مذهب سياسي.
ب. رابينو: هل تريد أن تقول أن عملك يقوم بتنسيق العلاقات بين علم الأخلاق، والسياسة، وجينالوجيا (تتبع مصادر وجذور) الحقيقة؟
م. فوكو: بإمكان المرء أن يقول دون شك أنني بمعنى من المعاني أحاول تحليل العلاقة بين العلم الوضعي، والسياسة، وعلم الأخلاق، لكنني لا أعتقد أن ذلك سيكون تصويرًا دقيقًا بالكامل للعمل الذي بدأته. أنا لا أريد البقاء في هذا المستوى، على العكس، أنا أحاول أن أرى كيف أن هذه العمليات قد تتداخل مع بعضها البعض في تكوين أو صياغة حقل علمي، مع هيكل سياسي، مع ممارسة أخلاقية. دعنا نأخذ الطب النفسي كمثال: لا شك، أنه بإمكان المرء تحليله اليوم على أساس هيكله المعرفي – حتى وإن كان هذا لا يزال غير دقيق إلى حد ما؛ بوسع المرء أيضًا تحليله في إطار المؤسسات السياسية التي تعمل فيه؛ كذلك بإمكان المرء دراسته في ضوء تضميناته الأخلاقية، فيما يتعلق بالشخص الذي هو موضوع الطب النفسي مثله مثل الطبيب النفساني نفسه. لكن لم يكن هدفي القيام بهذا؛ على العكس، حاولت أن أرى كيفية تكون وتشكل الطب النفسي نفسه كعلم، حدود مجاله، وتعريف موضوعه الذي يتضمن أو يحتوي على بنية سياسية وممارسة أخلاقية: بالمعنى المزدوج الذي افترضاه مسبقًا كعلم بواسطة التنظيم الحديث للطب النفسي، وقد قام العنصران بتغييره أيضًا عن طريق هذا التطوير (السياسي الأخلاقي). الطب النفسي كما نعرفه لم يكن من الممكن أن يتواجد من دون تفاعل كلي للهياكل السياسية ومن دون مجموعة المواقف الأخلاقية؛ لكن بشكل عكسي، فإن تأسيس الجنون كميدان معرفي (بأخلاقية وبلباقة) قام بالتأثير على الممارسات السياسية والمواقف الأخلاقية المتعلقة به. كانت المسألة عندي تحديد دور السياسة والأخلاقيات في ترسيخ الجنون كحقل مستقل للمعرفة العلمية (علم)، وأيضًا تحليل آثار الأخير على الممارسات السياسية والأخلاقية.
نفس الشيء صحيح في العلاقة بالنسبة للجنوح والخروج على القانون. كانت مسألة رؤية أي استراتيجية سياسية، مع إعطائها المكانة الشرعية بالنسبة للجريمة، كانت قادرة على الاحتكام إلى أشكال بعينها من المعرفة (الواقعية) ومواقف أخلاقية بعينها؛ كانت مسألة رؤية كيف أن قولبة أو تنميط المعرفة (العلم) وهذه الأشكال الأخلاقية كان يمكن أن ينعكس في، وتتغير بواسطته، هذه التقنيات الرقابية النظامية. في حالة النشاط الجنسي كان تطور الموقف الأخلاقي هو الذي أردت عزله؛ لكنني حاولت إعادة بنائه عن طريق مسالكه المرتبطة بالهياكل السياسية (بشكل أساسي في العلاقة بين التحكم في النفس والهيمنة على الآخرين) وبقوالب المعرفة (الإدراك الذاتي ومعرفة المناطق المختلفة للنشاط).
لذا وإزاء تلك الثلاثة – الجنون، والجنوح، والنشاط الجنسي – كنت أؤكد جانبًا خاصًا في كل مرة: ترسيخ موضوعية معينة، تطور السياسة والتحكم في النفس، والتوسع في الأخلاقيات والممارسة فيما يتعلق بالمرء نفسه. لكنني في كل مرة كنت أحاول أيضًا الإشارة إلى المكان الذي يشغله العنصران الآخران الضروريان لتكوين حقل أو نطاق التجربة والخبرة. إنها بالأساس مسألة النماذج أو الأمثلة المختلفة التي تندمج فيها العناصر الثلاثة الجوهرية أو الأساسية لأية تجربة: لعبة الحقيقة، علاقات السلطة، وأشكال العلاقة للفرد والآخرين. وإذا تم لكل من هذه الأمثلة تأكيد وإبراز، بطريقة معينة، أحد هذه الجوانب الثلاثة – نظرًا لأن تجربة الجنون كانت منظمة حديثًا كحقل معرفي في الأصل (علم)، والجريمة كمنطقة تداخل سياسي، في حين أن النشاط الجنسي كان معرفًا كوضع أخلاقي – فإنني كنت في كل مرة أحاول فيها إظهار كيف أن العنصرين الآخرين حاضران، وإظهار الدور الذي يلعباه، وكيف أن كل واحد منهما يتأثر بالتحولات الحادثة في الاثنين الآخرين.
ب. رابينو: تحدثت مؤخرًا باستمرار عن “تاريخ الإشكاليات”. ما هو تاريخ الإشكاليات؟
م. فوكو: لفترة طويلة، كنت أحاول أن أرى إن كان بالإمكان توصيف تاريخ الفكر كشيء مختلف عن كل من تاريخ الأفكار (الذي أقصد به تحليل أنظمة التمثل أو التصور) وتاريخ العقليات (الذي أقصد به تحليل المواقف وأنواع التصرف). بدا لي أنه كان هناك عنصر واحد كان قادرًا على وصف تاريخ الفكر – كان هذا العنصر هو ما يمكن أن يطلق عليه المرء المشاكل، أو، بالتحديد أكثر، الإشكاليات. ما يميز الفكر هو أنه شيء ما مختلف كلية عن مجموعة التصورات التي تشكل سلوكًا معينًا؛ وهو أيضًا مختلف كلية عن حقل المواقف التي يمكن أن تحدد هذا السلوك. ليس الفكر هو ما يتلبّس سلوكًا معينًا ويمنحه معناه؛ على العكس، إنه ما يسمح للمرء بالتراجع عن هذه الطريقة أو تلك في التصرف أو الرد، إنه يقدمها أو يطرحها للمرء ذاته كموضوع فكري ويثير حولها الأسئلة فيما يتعلق بمعناها، وظروفها وحالتها، وأهدافها. الفكر حر فيما يتعلق بما يفعله المرء، إنه الحركة التي يتحرر وينفصل بها المرء عنه، ويعينه، ويثبته كموضوع، ويتأمله كمشكلة.
أن تقول أن دراسة الفكر هي تحليل الحرية ذلك لا يعني أن المرء يتعامل مع نظام عرفي يشير إلى نفسه ويكتفي بذاته فقط. في الواقع، في حقل العمل والممارسة، والسلوك، ولدخول حقل الفكر، من الضروري وجود عدد معين من العوامل التي تجعله غير أكيد، ولا يقيني، وفاقد لمألوفيته، أو أن تثير تلم العوامل عددًا معينًا من الصعوبات حوله. هذه العناصر ناتجة عن عمليات اجتماعية، أواقتصادية، أو سياسية. لكن هنا، دورها الوحيد هو التحريض أو الإثارة. ويمكن لها أن تتواجد وتؤدي دورها لفترة طويلة جدًا، قبل أن نضج إشكاليات الفكر المؤثرة. وعندما يتدخل الفكر، لن يفترض شكلاً فريدًا يكون هو النتيجة المباشرة أو التعبير الضروري عن هذه الصعوبات، إنه استجابة أصلية ومحددة – في الغالب تأخذ أشكالاً كثيرة، بل ومتناقضة أحيانًا في جوانبها المختلفة – إزاء هذه الصعوبات، التي يتم تعيينها له من خلال موقف أو سياق، والتي تحمل الحقيقة كقضية ممكنة أي محتملة.
بالنسبة لكل مجموعة من الصعوبات، يمكن القيام بعدة استجابات. وفي معظم الأوقات تكون حزمة الاستجابات المختلفة مطروحة بالفعل. لكن ما يجب فهمه هو ما يجعلها متاحة وممكنة معًا في آن واحد: إنه النقطة التي يتجذر فيها تزامنها؛ وهو التربة التي يمكن أن تغذيها جميعًا في مجموعتها المتنوعة، وأحيانًا برغم تناقضاتها. بالنسبة للصعوبات المختلفة التي تم التعرض لها عن طريق الممارسة المتعلقة بالمرض العقلي في القرن الثامن عشر، كانت الحلول المختلفة مطروحة: تووكي وباينل مثالين. بنفس الطريقة، كانت هناك مجموعة كاملة من الحلول المطروحة لمواجهة الصعوبات في النصف الثاني من القرن الثامن عشر عن طريق الممارسات العقابية [1]. أو مرة ثانية، لنأخذ مثالاً بعيدًا جدًا، فقد طرحت المدارس الفلسفية المتنوعة في العصر الهيليني حلولاً مختلفة للصعوبات الخاصة بالأخلاقيات الجنسية التقليدية.
لكن عمل أو دور أي تاريخ للفكر يمكن أن يكون إعادة اكتشاف أصل أو جذور هذه الحلول المتنوعة، أي الشكل العام للإشكاليات التي جعلتها متاحة كحلول – حتى في تعارضها الشديد، أو ما يجعل بالإمكان تحول صعوبات وعقبات الممارسة إلى مشكلة عامة حيث يقترح لها المرء حلولاً عملية متنوعة. إنها الإشكالية التي تستجيب إلى هذه الصعوبات، لكن عن طريق القيام بشيء ما مختلف فعلاً عن التعبير عنها أو إماطة اللثام عنها: فيما يتعلق بها، إنها تخلق الظروف التي يمكن أن تُعطى فيها استجابات ممكنة؛ إنها تعين العناصر التي ستؤلف التساؤلات أي ما تحاول الحلول المختلفة أن تجيب عنه. هذا التطور في الانفتاح على القضية، هذا التحول لمجموعة الصعوبات والعقبات إلى المشاكل التي ستحاول الحلول المتنوعة أن تستجيب لها، هو ما يشكل منطقة الإشكالية والعمل المحدد للفكر.
إنه لمن الواضح إلى أي مدى يكون المرء بعيدًا عن التحليل باعتباره تفكيكًا أو إعدامًا وحسب (أي خلط بين هاتين الطريقتين سيكون غير حكيم). بالعكس، إنها قضية حركة التحليل النقدي التي يحاول المرء فيها أن يرى إلى أي مدى يتم تركيب الحلول المختلفة للمشكلة؛ لكن أيضًا كيف نتجت هذه الحلول المختلفة عن شكل بعينه من الإشكاليات. ومن ثم يبدو أن أي حل جديد قد يَُضاف إلى الحلول الآخرى سيكون نتاجًا للإشكالية الحالية، وفقط لتعديل عدد من الافتراضات والمسلمات أو المبادئ التي يؤسس عليها المرء الاستجابات التي تصدر عنه. دور الفكر الفلسفي يرجع فقط إلى مجال العمل الفكري شريطة أن يفهم المرء ويدرك بوضوح أن الإشكالية ليست كنسق للتصور الذهني بل كعمل فكري.
* عقدت هذه المقابلة ليجيب فوكو عن أسئلة سُئلت كثيرًا من الجمهور الأمريكي. أجراها بول رابينو، مايو 1984، قبل موت فوكو مباشرة. ترجمتها ليديا ديفيز، ونشرت في المجلة المجلد رقم (1) “علم الأخلاق” من “الأعمال الأساسية لفوكو” إصدار نيويورك 97.
[1] كان الجنون جنحة أو جناية في قوانين العقوبات (جريمة الاتصال بالشياطين). المترجم