محمد هاشم عبد السلام

 

12/10/2016

 

خلال فترة زمنية جد قصيرة، ومن مهرجانين سينمائيين كبيرين، استطاع المخرج الفلبيني المتميز “لاف دياز” الحصول على جائزة “ألفريد باور”، مطلع هذا العام، من مهرجان برلين السينمائي، عن عمله اللافت “تهويدة للغز الحزين”، وهو عن تاريخ الفلبين الثوري والدموي والاجتماعي وأيضًا التراثي، والذي رصد فيه دياز واحدة من أهم الفترات في تاريخ الفلبين، حيث ثورتها ضد المستعمر الإسباني عام 1896، وقد استعرضناه نقديًا هنا في الموقع. وقد اختتم دياز عامه السينمائي هذا باقتناصه، عن جدارة واستحقاق، لجائزة “الأسد الذهبي” من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، عن تحفته الأخيرة  “المرأة التي غادرت”.

لم نذكر كلمة اقتناص هنا من قبيل المصادفة، فلم تكن مسابقة مهرجان فينيسيا هذا العام خالية من الأسماء الكبيرة أو اللامعة أو من الأفلام الجيدة، ومجرد إلقاء نظرة سريعة على قائمة الأفلام وأسماء المخرجين تبين لنا إلى أي مدى كان فوز دياز بالجائزة بمثابة اقتناص فعلي، بعد مطاردة ماراثونية حامية الوطيس مع غرماء لهم أهمية وقيمة لا يستهان بهما في تاريخ السينما.

كذلك، أتى اقتناص دياز للجائزة، وليس مجرد الفوز بأي جائزة أخرى من جوائز المهرجان، ليثبت بما لا يدع مجالا لأي تشكيك من قبل أحد أنه بالفعل أحد المخرجين الأصلاء والمهمين في تاريخ السينما المعاصرة سواء في بلاده أو على الساحة الدولية، وينفي عنه أي شبه ادعاء أو انتفاء للأصالة أو حتى التجاسر على امتهان السينما. ومسيرة لاف المهنية حافلة بما يزيد عن عشرين فيلمًا روائيًا طويلا وقصيرًا وتسجيليًا. وبممارسته إلى جانب الإخراج، التأليف والإنتاج والتصوير والمونتاج. وقد بدأ دياز، الذي ولد في “كوتاباتو” عام 1958، مسيرته المهنة في تسعينيات القرن الماضي فحسب.

في فيلمه الجديد، الذي يرتقي إلى مصافّ الجواهر السينمائية دون أدنى مجاملة، والذي حمل عنوان “المرأة التي غادرت” The Woman Who Left 2016، والذي استلهمه دياز عن قصة قصيرة للأديب الروسي الكبير ليو توليستوي بعنوان “الله يرى الحقيقة، لكنه يتمهل”، استطاع المخرج أن يبهرنا على أكثر من مستوى. ومجرد عقدنا لمقارنة بسيطة بين فيلم دياز قبل الأخير، “تهويدة للغز الحزين”، فبراير هذا العام، وفيلمه الأخير “المرأة التي غادرت”، سبتمبر هذا العام، تبين لنا، إلى حد بعيد، مدى التفاوت الجلي في تقنيات وأسلوب المخرج، وكأننا، إلى حد كبير، إزاء مخرج آخر، وليس نفس الشخص، وهذا التفاوت، بطبيعة الحال، لم يكن بالمعنى السلبي للكلمة على الإطلاق، بل بالمعنى الإيجابي الخالص فيما يتعلق بتحدي النفس والسعي دائمًا لتقديم كل ما هو فني جديد وأصيل.

في “المرأة التي غادرت”، ورغم استلهامه من نص أدبي تمامًا مثل” تهويده للغز الحزين”، لكن دياز لم يقع هنا أسيرًا للنص الأدبي أو لترك ما هو أدبي يطغى على ما هو سينمائي، ويجعله يشوِّش إلى حد بعيد سياق وزمن وأسلوب الفيلم ورسم الشخصيات وحتى أداء الأبطال. هنا، نحن مع عمل سينمائي بكل معنى الكلمة، ينطق في العديد من مشاهده بلغة سينمائية خالصة صافية، لا مجال فيه للهنّات الزمنية أو التداخلات المكانية أو اضطراب الأداء أو مسرحيته أو ضعف الشخصيات المرسومة.

كذلك، يمكننا القول إن دياز تمكّن بحرفية من ضبط إيقاع الفيلم الزمني، لن نبالغ إن قلنا هذا عن إيقاع كل لقطة بالفيلم، لدرجة أننا، برغم طول الفيلم النسبي، ثلاث ساعات وخمسين دقيقة، لا نشعر قط بأن الفيلم يمتد دون أدنى داع أو أنه كان بحاجة إلى مونتاج لضبط إيقاعه أو أن به من مشاهد زائدة عن الحاجة وكان من الضروري التخلص منها، بل في هذا السياق يمكننا القول إن إيقاع الفيلم هنا، وتلك ربما تعتبر مفارقة، يتسم، برغم بطء إيقاع المشاهد وطولها النسبي زمنيًا، بسرعته الفائقة وعدم جنوح الأحداث للملل أو الرتابة على الإطلاق، ومردّ هذا بالطبع للسيناريو المحبوك جيدًا، والتشويق الذي يتضمنه كل مشهد، والاتزان الإيقاعي للمشاهد جميعًا، الأمر الذي جعلها تبدو معًا في غاية الانسجام والتجانس دون أي زيادة أو نقصان.

في نفس الوقت لا نستطيع، يمكننا الزعم، بأن دياز قد تخلى عن جلده تمامًا في “المرأة التي غادرت”، فالكثير من السمات الأسلوبية والفنية التي ميزت أفلامه السابقة حاضرة أيضًا في فيلمه الجديد، ومنها، الاعتماد على أو استلهام النصوص الأدبية، وبرغم سينمائية الفيلم الطاغية لكن دياز هنا لم يبتعد كثيرًا عن الأدب، من حيث التكثيف والرسم البارع للشخصيات وسبر أعماقها النفسي، الأمر الذي يجعلك تستدعي على الفور، إلى جانب قتامة الموضوع والتناول، دوستويفسكي وشخصياته وأجواء العديد من أعماله، وذلك بالرغم من أن قصة الفيلم، كما أسلفنا، مستلهمة من قصة قصيرة لتوليستوي، لكنها بالقطع بعيدة كثيرًا عن أجواء عوالم توليستوي وشخصياته الأدبية.

كذلك، تصوير الفيلم بالكامل بالأبيض والأسود، مع ترك مساحة كبيرة للإضاءة الطبيعية والاصطناعية كي تبرز ما بينهما من تدرجّات، وتجنب التصوير الخارجي في أوقات النهار، وإن حدث فيكون في حالات احتجاب الشمس أو الغيوم الكثيفة وغلبة الأمطار، وافتتانه باللقطات الطويلة، والطويلة الساكنة، وابتعاده عن اللقطات المقربة. استخدام الكاميرا الثابتة عادة، والتصوير في العمق حيث نفس مقدار التوازن بين مقدمة الصورة وعمقها. أيضًا، الميل لإخراج بعض المشاهد بحيث يبدو عليها الطابع التسجيلي البحت في التصوير، والاعتماد تقريبًا على نفس طاقم التمثيل، وأخيرًا وليس آخرًا اضطلاعه، إلى جانب الإنتاج والإخراج، بالكتابة والتصوير والمونتاج، واعتماده الدائم تقريبًا على شقيقه “بوبو دياز” في تصميم المناظر.

في “المرأة التي غادرت” نجد دياز يركز بصفة أساسية على العديد من الأوتار الإنسانية المعقدة والمركبة، وذلك إلى جانب الشعور بالذنب، والظلم، والجريمة والعقاب، واليأس والانتقام أو محاولة الانتقام، وانتفاء الرحمة وروح التسامح وغيرها من الأمور داخل المجتمع الفلبيني العادي البسيط، بمختلف طبقاته، لا سيما المنسحقة منها اجتماعيًا وماديًا وسياسيًا، ناهيك بالطبع عن تطرقه الدائم لملامسة تاريخ الفلبين، ووضعه السياسي والاجتماعي والاقتصادي المعاصر.

كل تلك الجوانب وغيرها الكثير مما هو أعمق وأعقد يطلعنا عليه دياز في فيلمه، وتلك مفارقة أخرى في الفيلم، عبر قصة غاية في البساطة والسلاسة، وتكاد تكون بالغة العادية ومطروقة بشدة. تلك القصة التي تدور أحداثها في نهايات السبعينيات من القرن الماضي، تدور حول المعلمة المثقفة “هوراشيا” (أدتها الممثلة العظيمة كارو سانتوس كونشيو)، التي سجنت ظلمًا لمدة 30 عامًا بتهمة قتل امرأة، وذلك بعدما زج بها في السجن حبيبها السابق “رودريجو ترينيداد” (مايكل دي ميسا)، بعدما أوعز لصديقتها بالاعتراف عليها بأنها قد اقترفت تلك الجريمة. وبعد هذه السنوات الطويلة، يتم إخبار هوراشيا بأنها قد صارت حرة، وأن التهمة قد سقطت عنها عقب اعتراف صديقتها، التي سجنها رودريجو أيضًا، بأنها قد كذبت.

تخرج هوراشيا من السجن لتكتشف أن زوجها قد مات منذ زمن، وأن ابنتها قد كبرت وتزوجت وأنجبت، وابنها لا أحد يعلم أين اختفى. ولأن حياتها الاجتماعية والأسرية دُمرّت تمامًا، ولم يعد لديها ما تبكي عليه، تصمم هوراشيا على الذهاب إلى حيث يوجد رودريجو، السياسي الثري ورجل الأعمال والسلطة، من أجل الانتقام منه. تتعرف هوراشيا عن طريق إحدى المشردات، وهي شخصية لافتة بالفيلم، على مكان رودريجو، فتتبع خطواته وترصد تحركاته وترابط أمام مسكنه ليلا بغية تصيده عند خروجه للإجهاز عليه.

في تلك الأثناء، تتعرف هوراشيا أيضًا على العديد من الشخصيات البسيطة المعدمة المنتمية لقاع المجتمع، التي سحقتها الطبقة الحاكمة المسيطرة، ومنها على سبيل المثال “نوني” (نوني بوينكامينو) بائع البالوت (البيض المسلوق)، الذي تعقد معه صداقة حقيقة، وتمد له يد العون، ويساعدها بدوره على توفير سلاح الجريمة، دون أن يدري ما تُدَبِّر له.

أيضًا تصادف تلك الشخصية المحورية، “هولاندا” (الممثل الرائع جون لويد كروز)، وهو متحول جنسيًا فاقد لمعنى الوجود، لا هدف له في الحياة ولا ينتمي لتلك البلدة، تنتابه نوبات صرع بين الحين والآخر، أقدم غير مرة على الانتحار بسبب رفض المجتمع له، وتعرض مرارًا للاغتصاب المهلك، والذي كاد من فرط وحشيته أن يفقده حياته في مرات عديدة. تفتح له هوراشيا باب بيتها، وتأويه وتضمد جراحه وتجعله يستعيد الثقة بنفسه وبإنسانيته، وقبل كل شيء تتقبل اختلافه. وبينهما تدور العديد من المشاهد التي ترقى بالفعل لذروة التحف، وقد أدى كروز دور هولاندا على نحو يصعب نسيانه ويندر تكراره. وقد كان من الطبيعي بحكم العيش تحت سقف بيتها أن يعلم هولاندا بمأساة هوراشيا، التي أخفتها عن جميع من حولها. وذات يوم تبحث عنه ولا تجده بالبيت.

تخرج للبحث عنه، وتكتشف لاحقًا أن رودريجو قد قُتل، وأن هولاندا هو من قتله، بعدما لمس عن قرب أن تلك السيدة برغم كل الغضب وروح الانتقام بداخلها لن تقدم على فعل القتل، وربما، في النهاية، تتسامح في حقها وتغفر. وبعدما تحققت العدالة، إن جاز التعبير، بيد غيرها، ومع انتفاء أي مبرر لوجودها، تنطلق هوراشيا مجددًا في رحلة مضنية للبحث عن ابنها المفقود. ومثل النهاية المفتوحة للفيلم، نجدنا بعد تلك الوجبة الدسمة، إزاء العديد من الأسئلة النفسية والأخلاقية والوجودية التي لا نهاية لها، والتي تصب كلها في سياق الوجود الإنساني برمته.