محمد هاشم عبد السلام
18/7/2017
لم يكن من قبيل المفاجأة فوز المخرج السويدي، القادم بقوة، “روبن أوستلوند”، بجائزة السعفة الذهبية في مهرجان “كان” هذا العام عن فيلمه المتميز، “المربع” (The Square)، فالمخرج ليس من الوافدين الجدد على المهرجان، فقد سبق لفيلمه الروائي السابق، والذي حمل عنوان “قوة قاهرة”، الفوز بجائزة قسم “نظرة خاصة”. كما أن فيلمه الجديد “المربع” استطاع وبقوة أن يفرض نفسه على مسابقة هذا العام، التي انضم إليها في اللحظات الأخيرة، وظل منذ عرضه في قائمة أقوى الترشيحات النقدية للفوز بجوائز المهرجان.
وأوستلوند، وهو في الثالثة والأربعين من عمره، بدأ مسيرته المهنية مع مطلع القرن، ولم يقدم خلالها الكثير من الأفلام الروائية، وفي رصيده مجموعة قليلة أيضًا من الأفلام الوثائقية والقصيرة. وقد عُرف اسمه لأول مرة مع فيلمه “قوة قاهرة”، كما ذكرنا، الذي قدم فيه ما يمكن أن نعتبره بذرة لفيلمه الأخير “المربع” أو تيمة يبدو أنها تستهوي أوستلوند، ويرغب في تناولها بعمق وسبر أغوارها، وإن كان بتنويعات مختلفة. وتلك التيمة، التي قام عليها، إلى حد كبير، فيلمه السابق تتمحور حول دور الأب أو رب الأسرة بعدما يتعرض لحادث عرضي يُفرض عليه التصرف أو بالأحرى يضعه أمام نفسه، ومن ثم يقلب حياته رأسًا على عقب.
يمكننا أن نمد خيط فيلم “قوة قاهرة” على امتداده، وعندئذ سنجده يصل بنا، دون أدنى شك، إلى الخيط الرئيسي الذي يتناوله أوستلوند في فيلمه الأخير “المربع”. أي، بدلا من التركيز على علاقة الأب بأسرته، أي على النطاق الضيق المتعلق بالمؤسسة الأسرية بالمجتمع السويدي، ينطلق في فيلمه الأخير من علاقة الفرد، والأب أيضًا، بالأسرة الأكبر والأرحب، أي المجتمع بصفة عامة بكل تعقيداته وتركيباته وأمراضه إلى آخره. من الملاحظ على سينما أوستلوند، إن جاز لنا أن نطلق عليه صاحب توجه أو خط سينمائي عبر بضعة أفلام فحسب، أنه، في الصميم ينتمي إلى المدرسة السويدية العريقة في تاريخ السينما. حيث الاهتمام بالفرد وعلاقته بالمجتمع بشكل أساسي، والتركيز على ربط تلك المعالجة بما هو فلسفي أو ديني أو غيره، والتي غالبًا ما نرصد في معالجاتها أيضًا الجنوح نحو الانشغال باللغة السينمائية أكثر، أي تلك التي تميل إلى التجريب أو المغاير سينمائيًا على نحو بصري وفني.
أوستلوند، يشذ قليلا عن بعض قواعد تلك السينما، التي أرساها عمالقتها، مثل “إنجمار برجمان” و”روي أندرسون”، فسينما أوستلوند تدور في المجتمع السويدي المعاصر، حيث الحياة اليومية دون أي تجريد أو تغريب أو إحالات مجازية أو انشغال بالوسيط السينمائي. فالمخرج يميل إلى تقديم أفلامه الاجتماعية بمسحة كوميدية ساخرة لا تخطئها العين، مُطعّمة بقدر لا بأس به من الفلسفة المُستترة غير الجافة، مع قدر ملحوظ من العمق لا يصل حد الإغراق أو الاستغلاق، الأمر الذي يجعل أفلامه بالنهاية، قابلة لأن تدور في أي مكان أو زمان، ويسهل على المتفرج العادي التفاعل معها، وقراءتها على أكثر من مستوى من مستويات التلقي، وربما هذا بالأساس هو السر الذي أدي لنجاح فيلمه قبل الأخير، والذي سيكون من نصيب فيلمه الأخير عندما يُعرض قريبًا.
وبصفة عامة يمكن القول إن فيلم “المربع” يناقش العديد من الخطوط العريضة الهامة مثل الحرية السياسية وحدودها مع تشابكها والحرية الفنية بصفة عامة، وحرية التعبير وحدودها بصفة خاصة، وتداخل تلك الحريات معًا. لكن يأتي قبل كل هذا، الحرية الفردية، وحدود حرية الفرد في التصرف على جميع المستويات، السياسية والفنية واليومية، ومن ضمنها بالقطع التجارب الإنسانية العميقة والشخصية، وعلاقة كل هذا بالمسئولية الاجتماعية بالأساس. وقد ارتأى أوستلوند أن يرصد كل هذا من خلال شخصية الفنان وأمين أحد أكبر المتاحف الملكية باستوكهولم المخصصة للفن المعاصر، “كريستيان” (كلاس بانج)، وعلاقاته بعمله، وفنه، والمحيط الضيق من حوله، ومن ثم المجتمع على اتساعه، وذلك انطلاقًا من حياته الشخصية، ومن علاقته بأسرته الصغيرة، وتحديدًا طفلتيه.
وفي خضم كل هذا لا يسهو أوستلوند عن طرح قضية اللاجئين، التي هي بمثابة طارئ جديد على المجتمع السويدي وأفراده وطباعهم وخصالهم المعروفة عنهم. إذ فجأة، وجد أفراد تلك المجتمعات أن هؤلاء يعيشون بينهم، وألفوا أنفسهم يعيشون معهم، وأنهم في اضطرار للتعامل معهم أو على الأقل الاحتكاك بهم من حين لآخر، لدرجة تشعر وكأنهم يفيقون فجأة من سبات عميق ويلقون بنظرة على ما حولهم فتتنابهم الدهشة والذهول لفترة عابرة أو قد تقلب الحياة بالنسبة لهم رأسًا على عقب، مثلما حدث مع بطلنا “كريستيان”، الذي كان بحاجة لتلك الصدمة الحادة بعض الشيء، لا لتفقده صوابه وإنما تجعله يعيد التفكير في كل ما حوله، والذي كان من بينه علاقته مع الصبي المهاجر، وتلك المرأة الشحاذة المهاجرة التي كان يلتقيها بالمطعم.
يحاول “كريستيان”، المُخلص لعمله، أن يُحدث قفزة نوعية في المتحف عن طريق تبني أحدث الإبداعات والشطحات الفنية المُمكنة، مفسحًا لها المكان والمجال لتعرض ضمن صفوة الإبداعات الفنية التي يؤمها علية القوم، والمهتمون بأحدث ما وصلت إليه الفنون التشكيلية والتركيبية الحديثة، حتى وإن بدت غير مألوفة. وفي هذا السياق، يُشرف “كريستيان” وفرق عمله على الإعداد لمشروع فني ضخم بالمتحف بعنوان “المربع”، يضم العديد من الأعمال الفنية، وعلى رأسها “المربع”، وكل تلك الأعمال الفنية تعكس اهتمامات اجتماعية – وتلك سخرية مبطنة بالفعل بالنظر لتلك الأعمال في حد ذاتها – و”المربع” على وجه التحديد هو مساحة يُرى من خلالها أنها من المفترض أن تلزم أي شخص، يدخل المربع، بالقيم الإنسانية الرفيعة المتأصلة ضمن إطاراته، حيث الكرامة والمساواة والتضامن، والتصرف بمسئولية تجاه الآخرين، والمحيط بالكامل من حوله.
ينتمي الفيلم إلى المدرسة السويدية العريقة في تاريخ السينما حيث الاهتمام بالفرد وعلاقته بالمجتمع بشكل أساسي، والتركيز على ربط تلك المعالجة بما هو فلسفي أو ديني
يُفتتح الفيلم مع شبه حوار تليفزيوني مع “كريستيان”، تجريه معه الصحفية والمذيعة التليفزيونية “آن” (إليزابيث موس)، التي تذكر له مقتطفات من أقوله، فلا يكاد يذكرها أو يجيد التحدث بشأنها سلبًا أو إيجابًا. تدريجيًا ندخل إلى عوالم “كريستيان”، بداية من عمله بالمتحف وعلاقته بالفن والزملاء، والمجتمع من حوله ثم ابنتيه، وتطورات كل هذه الخيوط على حدة أو على نحو متداخل، ويكون المفتاح لكل هذا حادث السطو الغريب والطريف الذي يتعرض له صباح أحد الأيام أثناء توجهه إلى عمله بالمتحف، إذ يكتشف أنه قد تمت سرقته من جانب امرأة جميلة استنجدت بالمارة، فهب لمساندتها، فيكتشف لاحقًا سرقة محفظته وهاتفه.
تنقلب حياته، لكن بعدما يتمالك نفسه من هول الصدمة. يستعين بأحد الأصدقاء وعن طريق خاصية تتبع الهاتف يعلم أين يوجد مكان الجهاز. ولأنه يجهل اسم السارق ورقم الشقة على وجه التحديد، يطبع العشرات من الأوراق التي تحمل رسالة تهديد للسارق بأنه قد عرفه، وسيبلغ عنه إن لم يعد المسروقات، ثم يدسها في صناديق بريد عشرات الشقق بالبناية المتوقع أن يكون السارق بها وفقًا لما بيّنه الهاتف. وعلى نحو أذهله، في اليوم التالي يجد كل ما سُرق منه وقد عاد إليه دون أي نقصان، لكن ما ترتب على ما فعله “كريستيان” لم يكن في حسبانه، لا سيما من جانب ذلك ذلك الصبي المُهاجر، يبدو من شرق أوروبا، الذي يزعجه ويلاحقه مُطالبًا إياه بالاعتذار عما فعله، لأن والديه ظناه السارق. تلك الواقعة تقلب كيان “كريستيان” وتضعه أمام نفسه، خاصة وأن الابنتين ترصدان ما يفعله والدهما، وتنتظران منه ردود أفعال مغايرة لسلوكه المعتاد.
أحد أقوى وأجمل مشاهد الفيلم، والمُنفذ بحرفية وفنية عالية، ولا يخفى على أحد مغزاها ولا سخريتها
في خضم كل هذا، مطاردة الصبي له على نحو مستفز ومزعج، واضطراره لاستضافة الابنتين في شقته واصطحابهما معه أينما ذ هب، وملاحقة الصحفية والمذيعة “آن” له بعد علاقة عابرة بينهما، ومواجهته بحقيقة ما دار بينهما وما ترتب عليه من توقعات، على الأقل من جانبها، يواجه “كريستيان” فضيحة على اليوتيوب تسببت فيها الدعاية الترويجية للمعرض، الأمر الذي يدفعه بالنهاية لأن يتسق مع ذاته ويتحمل المسئولية، ربما لأول مرة في حياته، فيضطر لمواجهة الصحافة والصحفيين ويعرض تقديم استقالته من إدارة المتحف. لكن ليس قبل التسبب في فضيحة أخرى كبرى، وسط الطبقة الراقية بالمجتمع في استوكهولم وللمتبرعين والرعاة وهواة ومحبي الفنون، وذلك بعد تقديم أحد العروض الأدائية القائمة بالأساس على فكرة اختبار مدى خوف البشر من الحيوانات وثباتهم. ويؤدي فيه أحد الفنانين دور غوريلا ليخيف الحضور ويختبر صلابتهم، لكنه يندمج في الدور ويخرج عن شعوره مُمارسًا الوحشية ضد الحضور، الأمر الذي يضطرهم لممارسة العنف ضده، في أحد أقوى وأجمل مشاهد الفيلم، والمُنفذة بحرفية وفنية عالية، ولا يخفى على أحد مغزاها ولا سخريتها.
والفيلم إجمالا محكم البناء إلى حد كبير. وقد أدت جودة الأداء التمثيلي، والسخرية المبطنة للكثير من المشاهد، والمواقف الطريفة التي كانت تبزغ بين الحين والآخر دونما افتعال، إلى تحمل بعض الحشو والكثير من الإطالة بالفيلم، الذي بلغ زمن عرضه ما يزيد عن الساعتين وثلث الساعة. وقد برز الدور البصري فيه على نحو جلي من خلال تصميم المناظر أو بالأحرى البناء التركيبي لديكورات الفيلم. فقد اختار أوستلوند أن تدور أحداث الفيلم بالكامل تقريبًا في ديكورات داخلية، واستغل هذا أفضل استغلال كي يبرز لنا رؤيته الفنية والجمالية التي تجلت في المساحات الواسعة، والفراغات الهائلة، والألوان القاتمة والفاتحة بتدرجاتهما، والتي تحيل كلها إلى ما هو نفسي، وترمز كلها للابتعاد والانفصال والغربة. وكلها بالنهاية تصب داخل الرؤية الفنية للمتحف ومعروضاته التي تحمل أكثر من مغزى، وتصب كلها في إطار نظرة تشكيلية، يصعب على العين المدربة على مشاهدة الأعمال الفنية، إغفالها.