محمد هاشم عبد السلام
في فيلمه الروائي الخامس، “النادي” (El Club)، يُقدِّمُ المُخرج وكاتب السيناريو التشيلي المتميز بابلو لارين، تسعة وثلاثين عامًا، أحد أهم وأقوى وأجمل أفلامه التي صنعها حتى الآن خلال مسيرته المهنية، إضافة لكون الفيلم من أفضل ما أنتجته السينما التشيلية خلال الأعوام الأخيرة الماضية. وفيلم “النادي”، بجانب كونه شديد التميز من الناحية البصرية والإخراجية إضافة إلى الأداء التمثيلي، يتفرد بالعمق الشديد، وانعدم الافتعال وانتفاء المبالغة على مستوى القصة أو الأحداث التي يتصدى لطرحها سيناريو الفيلم. ومن ثم، فإنه يعتبر أيضًا، وبحق، من أكثر الأفلام الشائكة المثيرة للجدل إلى حد كبير جدًا على مستوى الموضوع. وقد أثار الفعل بالفعل الكثير من التبعات وذلك عقب عرضه بالمسابقة الرسمية لمهرجان برلين، ناهيك عن النقد سواء على نحو إيجابي أو سلبي بخصوص المضمون، والفيلم بصفة عامة وهل كان هدف “لارين” الإثارة لذاتها في فيلمه هذا أم كان صادق الرغبة؟
لم يطرح بابلو لارين في فيلمه “النادي“، الفائز بجائزة الدب الفضي في مهرجان برلين العام الماضي، مثل هذا الموضوع الشائك لمجرد الرغبة المجانية من جانبه في لفت الانتباه إلى نفسه أو فيلمه، بقدر ما يتسق الطرح والتناول مع مسيرة المخرج المهنية بصفة عامة، التي قدّمَ خلالها عدة أفلام بارزة عرض فيها الكثير من القضايا وطرح العديد من المشكلات، خاصة السياسية، التي مرت بها بلاده أثناء حكم بينوشيه، والتي لا تزال تعاني من آثارها وتبعاتها حتى الآن. وقد آثر “لارين” أن يبتعد في فيلمه الجديد عن السياسة بعض الشيء، ليضرب بمعوله في صنم آخر من أصنام الحياة المعاصرة، والمثير للمشكلات في بلده والعديد من البلدان الأخرى، والمتمثل في الانحراف والفساد، ليس فقط الفساد الذي تغض الكنيسة الطرف عنه في الحياة المدنية، وإنما ذلك الضارب في جوانبها، والذي يتم التواطؤ والسكوت عنه بكل السبل، فقط حفظًا لماء وجه النظام الكنسي وإبعاد أي شبهة قد تدمغه.
يدور فيلم “النادي”، الذي يمتد زمن عرضه لساعة ونصف الساعة تقريبًا، حول أربعة من القساوسة الكاثوليك أو لنقل القساوسة المتقاعدين، نظرًا لأنهم قد تقاعدوا أو اعتزلوا العمل الكنسي. وعلى نحو تدريجي، وبعد دقائق من تعمقنا في الفيلم، واكتشافنا لماهية هؤلاء القساوسة، يتضح لنا أن الأمر لا يتعلق هنا بكونهم مجرد قساوسة من عدمه، وإنما بطبيعة ما مارسه هؤلاء القساوسة، ذوي الأعمار المتقدمة في السن، الذين يعيشون معًا في منزل شديد التواضح والانعزال، بعيدًا عن أعين المجتمع والاحتكاك به، لدرجة نظن معها في البداية أنه نُزل أو دار لرعاية المسني بإحدى القرى الساحلية. وتلك القرية، “لا بوكا”، الواقعة على ساحل تشيلي، تتسم بالانعزال والأجواء الكئيبة، وسماء مُبلدة بالغيوم وانتفاء أي أثر للشمس تقريبًا، وغرقها الدائم في الظلام والضباب في أغلب الأوقات، وهذا كله يوحي بالانقباض ويعمق من العزلة الضاربة حول المكان على نحو متعمد بطبيعة الحال.
وبصرف النظر عن هذا الوضع الاستثنائي الغريب لهؤلاء القساوسة الأربعة، فإننا نراهم في بداية الفيلم يحيون على نحو طبيعي إلى حد كبير، مع ملاحظة أن حياتهم يكتنفها الملل والروتين بدرجة ملحوظة، كما أن تحركاتهم إلى خارج المنزل جد محدودة لأربع ساعات فقط في اليوم، وأنهم نادرًا ما يتحادثون باسثناء كلمات قليلة خلال مشاهدة التليفزيون. وهؤلاء الأربعة، تعمل على خدمتهم مدبرة بالمنزل تدعى “مونيكا”، نعلم لاحقًا أنها إحدى الراهبات الموفدات من قبل الكنيسة. إذن، لا يبدو أنه ثمة ما هو غير عادي خلف الستار، فقط باستثناء ملاحظ أنهم لا يقومون بالصلاة أو الاعتراف أو ممارسة أي طقوس دينية ولا حتى الذهاب إلى الكنيسة، وأن جُل ما يشغل وقتهم على نحو جاد هو قيامهم بتربية كلبهم السلوقي، وتدريبه من أجل إشراكه في مسابقات الرهان التي تقام بالبلدة.
سرعان ما تنقلب الأمور تنقلب رأسًا على عقب، مع قدوم راهب جديد “ليزكانو” (خوزيه سوزا) ينضم إلى النادي أو إلى تلك المجموعة المتواجدة بذلك المنزل أو النُزل، والذي يأتي في أثره صياد شاب تعرَّفَ عليه، وقد ظل يتبعه حتى انتهز لحظة دخوله المنزل فوقف على العتبة ثم فجّر قنبلة مدوية تفتحت بعدها أحداث الفيلم. ذلك الشاب، الذي يدعى “ساندوكان” (روبرتو فارياس)، كان يخدم من قبل في الكنيسة كصبي مذبح تحت إشراف ذلك القس، وقد تعرّض وقتها لعدة انتهاكات جنسية من جانب القس، وحكى بعضها على الملأ ذاكرًا أن القس وضع عضوه داخل فمه ذات مرة واستمنى. يصاب الجميع بالوجوم والذهول داخل المنزل ولا يستطيعون حراكًا، وبدوره لا يجد القس ما يفعله لإيقاف هذه الفضيحة، خاصة وأن الشاب بدا أنه لن يتوقف ولن يكف عن متابعة القس، سوى أن يستل مسدسًا من حقيبته، وسرعان ما يطلق النار على رأسه، أمام ذهول الجميع.
وهنا لا يكتفي مخرج الفيلم، الذي كتب السيناريو بالاشتراك مع “غييرمو كالديرون” و”دانيال فيالوبوس”، بهذه الفضيحة التي فجرها الشاب “ساندوكان” وهو رمز لجميع ضحايا النظام الكنسي وبالطبع النظم الاجتماعية والسياسية والقانونية التي لم تفعل له ولغيره الكثير خلا التواطئ والكتمان والخرس، وهو رمز أيضًا لمن يقلقون راحة الكنيسة ويتسببون في إثارة المتاعب والقلاقل، وكنا نعتقد أنه سيكتفي أو على أكثر تقدير سيتطرق فحسب على نحو مُوسّع إلى موضوع الممارسات والتحرشات الجنسية الشائنة التي تصلنا أخبارها من حين لآخر مع تفجر فضيحة ما، لكننا نكتشف مع مرور الوقت أنه يلامس ما هو أكثر من ذلك.
فمجرد نكئ الجرح وكشفه على الملأ تطلب، على الأقل من الناحية الفنية، المزيد من الإيغال كي يوجع ويؤلم أكثر وأكثر بمنتهى الجرأة والشجاعة. وهذا ما يفاجئنا به “لارين” بالفعل. فعقب وفاة القس وتلك الفضيحة المدوية، تُرسل الكنيسة أحد القساوسة الشبان وهو الأب “جارسيا” (مارسيل ألونسو) للوقوف على حقيقة ما حدث، والبتَّ نهائيًا بشأن هؤلاء الرهبان وإغلاق ذلك النزل من عدمه. وعندئذ نجدنا إزاء سماع أربع قصص درامية لهؤلاء القساوسة تتكشّف خيوطها أمام أعيننا على نحو تدريجي، فنتبين أنهم شبه محكوم عليهم بالنفي في ذلك المكان من جانب السلطة الكنسية، لكن ليس كنوع من العقاب أو حتى التكفير الروحي والبدني عما اقترفوه، بقدر ما هو بدافع الحفاظ على صورة الكنيسة، وتجنب محاكمتهم علانية والزج بهم في السجون.
يتضح لنا أن الأب “فيدال” (ألفريدو كاسترو)، يصرّح علانية قائلا “أنا ملك الكبت”، يحمل وجهات نظر بخصوص المثلية، ومنها عدم ندمه على ممارستها. أما الأب “سيلفا” (خايما فيدال) فهو يعشق تربية الكلاب ومشاركتها في الرهانات ويرفض أي نوع من أنواع الاعتراف. بينما الأب “أورتيجا” (أليخاندرو جويك) قسيس سابق في الجيش ومؤيد لكل ما فعله بينوشيه. وأخيرًا الأب “راميريز” (أليخاندرو سيفكينج) الذي يعاني من خرف الشيخوخة، كان يسرق ويتاجر في الأطفال الذين ولدوا سفاحًا ويبيعهم لمن يعانون من عدم الإنجاب. إن كل شخصية من هذه الشخصيات، وشخصيات الفيلم عامة، مكتوبة ببراعة وتفرد ملحوظين، وأسهمت الجوانب الإخراجية، إلى جانب التمثيل المتمكن، في إبراز كل شخصية منها على حدة.
وكأن لارين قد تلبسته طبيعة سادية مفاجئة، نجده لا يكتفي بكل ما سبق بل يزيد على هذا بأن يجعل من شخصية الأب الشاب الهادئ الدمث التقي شخصية تصادمية تمامًا. يحاول جارسيا أن يدفعهم على الأقل للاعتراف والتكفير عن ذنوبهم وخطاياهم وإعادتهم للحياة الطبيعية من أجل إغلاق هذا البيت إلى الأبد، فيتبع معهم أقوى وأعنف السبل، ضاربًا بتعاليم الكنيسة من الرحمة والمغفرة ومساعدة الإنسان لأخيه عرض الحائط، فيشرع في وضع قواعد صارمة بالمنزل، مثل منع الخمر، وحرمانهم من ممارسة هوايتهم المحببة وهي تربية الكلاب، بل وحتى يحاول التخلص من الكلب الذي يراهنون به.
والمثير في الأمر أكثر من هذا أن المسار التصادمي الذي انتهجه الأب جارسيا بغية الإصلاح ورد الجميع إلى حظيرة الكنيسة، يقابله عزوف تام من جانب القساوسة في إبداء أي رغبة في التكفير أو الإصلاح أو حتى محاولة الاعتراف، وإن على مضض، وجزء من هذا مرده بطبيعة الحال إلى رغبة جارسيا فحسب في حثهم على الاعتراف، وليس تطهيرهم بالمعنى الديني والروحي. ومن ثم، كان من المحتم أن تبوء محاولة جارسيا بالفشل الذريع، ويتشبث كل قس بموقفه حتى النهاية.