محمد هاشم عبد السلام
كاتب وناقد ومترجم مصري
عن دار ميريت بالقاهرة صدر مؤخرًا كتاب “النحت في الزمن” للمخرج الروسي الكبير، الملقب بشاعر السينما، أندريه تاركوفسكي، وقام بترجمة الكتاب الروائي والمترجم البحريني القدير الأستاذ أمين صالح.
ترجع أهمية هذا الكتاب إلى أنه مكتوب بقلم المخرج الكبير، وقد وضع فيه خلاصه فكره وتجاربه وخبراته فيما يتعلق بالسينما والأدب والفن بصفة عامة، وقد صدر في ألمانيا عام 1986، في نفس سنة وفاة المخرج الذي توفي في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر من العام نفسه.
يقول أندريه تاركوفسكي في تصديره للكتاب “ليس الغرض من هذا الكتاب تعليم الآخرين أو فرض وجهة نظري عليهم. غايته الرئيسية أن يساعدني في إيجاد طريقي عبر متاهة من الإمكانيات والاحتمالات المتضمنة في هذا الشكل الفني الشاب والجميل. الذي لم يسبر جوهريًا إلا في حدود ضيقة – ولكي أكون قادرًا على إيجاد نفسي ضمنه، على نحو كامل ومستقل”.
حمل الفصل الأول من الكتاب عنوان “البداية”. وتحدث فيه تاركوفسكي عن بداية مشواره مع فن السينما، وأول فيلم قام بإخراجه بعد تخرجه من معهد السينما في موسكو، وهو فيلم “طفولة إيفان”، مبينًا الصعوبات التي واجهته كمخرج في بداية طريقه إلى الإخراج السينمائي، ثم انتقل بعد ذلك إلى التحدث عن فيلميه “أندريه ربليف” ثم “المرآة”. ثم انتقل في الفصل الثاني من الكتاب، والذي جاء تحت عنوان “الفن.. التوق إلى المثال”، إلى التحدث بعمق وشمولية عن رؤيته الخاصة للفن بصفة عامة والفن السينمائي بصفة خاصة، وتساءل في بداية هذا الفصل قائلا “قبل الذهاب إلى المعضلات الخاصة بطبيعة الفن السينمائي، أشعر أن من المهم تحديد فهمي للهدف الجوهري للفن في حد ذاته. لماذا يوجد الفن؟ من يحتاجه؟ وهل يحتاجه أحد بالفعل؟ هذه أسئلة لا يطرحها الشاعر فحسب، بل أيضًا أي فرد يقدر الفن ويدرك قيمته.. وحتى “المستهلك”، وفق التعبير الشائع الدال على العلاقة المعاصرة بين الفن والجمهور”.
وقد جاء الفصل الثالث من الكتاب تحت عنوان “الزمن المطبوع”. وفيه تحدث تاركوفسكي عن الزمن وفهمه له وعن طبيعة الزمن الخاصة بالسينما، وفي ذلك يقول “للمرة الأولى في تاريخ الفنون، في تاريخ الثقافة، وجد الإنسان وسيلة للإمساك بالزمن وطبعه. وعلى نحو متزامن، إمكانية نسخ ذلك الزمن على الشاشة قدر ما يشاء المرء.. أن يكرره ويعود إليه مرة أخرى. لقد اكتسب الإنسان منبتًا للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار بالإمكان الاحتفاظ به في علب معدنية لفترة طويلة ( إلى الأبد .. نظريًا)”. ويضيف في مكان آخر من هذا الفصل “الزمن، المطبوع في أشكاله وتجلياته الواقعية: تلك هي الفكرة الأسمى للسينما بوصفها فنًا، والتي تقودنا إلى التفكير في ثراء الموارد في الفيلم”.
وفي الفصل الرابع الذي حمل عنوان “الدور المقدر للسينما”، يعود تاركوفسكي إلى النقاش بشكل موسع عن السينما والدور أو “القدر”، بحسب تعبيره، الذي من المفترض لها أن تقوم به، خاصة في ظل الظروف الجديدة المغايرة لتلك التي نشأت فيها السينما قديمًا، حيث التطور والإمكانيات الهائلة التي دخلت إلى هذا المجال، وكذلك رأس المال ودوره في التأثير عليها.
وانقسم الفصل الخامس الذي جاء تحت عنوان “الصورة السينمائية” إلى عدة أقسام هي على الترتيب: “الزمن والإيقاع والمونتاج”، و”السيناريو وسيناريو التصوير”، و”التحقيق التصويري للفيلم”، و”الممثل السينمائي”، و”الموسيقا والأصوات”، وفيه تحدث تاركوفسكي عن كل موضوع من هذه الموضوعات بشكل مستقل ومتمعق مع إبراز رؤيته الخاصة وطريقة توظيف كل أداة من هذه الأدوات لدى غيره من المخرجين، والطريقة التي يفضلها في استخدامه وتوظيفه لها.
أما الفصل السادس فقد حمل عنوان “المبدع في بحثه عن الجمهور”، وفيه يرجع تاركوفسكي مرة ثانية إلى توضيح دور الفن وطبيعته ووظيفته رابطًا كل هذا بعلاقته بالمشاهد أو المتفرج، يقول تاركوفسكي “الفن بطبيعته أرستقراطي. وهو انتقائي في تأثيره على الجمهور، إذ حتى في تجلياته “الجماعية”، مثل المسرح أو السينما، نجد أن تأثيره متصل اتصالا وثيقًا بالانفعالات الحميمية الشخصية جدًا، لكل فرد يشاهد العمل. وكلما مسّت تلك الانفعالات والمشاعر أعماق الفرد واستحوذت عليه، احتل العمل مكانة هامة في تجربته. لكن الطبيعة الأرستقراطية للفن لا تعفي الفنان، بأي حال من الأحوال، من مسؤوليته تجاه الجمهور وتجاه الناس عمومًا. على العكس تمامًا، فبسبب إدراك الفنان لزمنه وللعالم الذي يعيش فيه، يصبح الفنان صوت أولئك الذين لا يستطيعون أن يصوغوا، أو يعبروا عن رؤيتهم للواقع. بهذا المعنى، الفنان هو فعلا صوت الشعب. لذلك هو مطالب بأن يخدم موهبته، والذي يعني أن يخدم شعبه”.
تناول تاركوفسكي في الفصل السابع الذي جاء تحت عنوان ” مسؤولية الفنان”، القطب الأول من العملية الإبداعية، وهو الفنان، بعدما تطرق في الفصل السابق إلى القطب الثاني منها وهو الجمهور. وتحدث تاركوفسكي في هذا الفصل عن الفنان بصفة عامة، وقام فيه بعقد مقارنة متميزة جدًا بين الكاتب والمخرج، والفرق بين الكتابة والتلقي الأدبي، وبين الإخراج السينمائي والرؤية البصرية، وناقش حرية الفنان وكذلك الحرية الإبداعية وحدود الحرية المخولة للفنان، ومفهومها الأخلاقي عنده. وفي ختام هذا الفصل تحدث تاركوفسكي عن مسؤوليته هو كفنان قائلا: “مهمتي أن أحث الآخرين على التفكير بشأن ما هو إنساني وسرمدي وجوهريًا في نفس كل فرد، والذي غالبًا ما يتم التغاضي عنه، حتى لو إن مصيره يقع تحت سيطرته وتصرفه”.
“ما بعد نوستالجيا” هو عنوان الفصل الثامن في الكتاب، وفيه تحدث بالتفصيل عن فيلمه قبل الأخير، نوستالجيا أو الحنين، وعن معنى هذه الكلمة عنده، وما كان يرمي إليه من إخراجه لهذا الفيلم منذ أن بدأ التفكير فيه وحتى انتهى منه. وهذا هو الشيء نفسه الذي فعله في الفصل التاسع والأخير من الكتاب والذي جاء تحت عنوان “القربان”، وهو اسم آخر فيلم قام بإخراجه في السويد.
وقد ركزّ تاركوفسكي في “خاتمة” الكتاب على ما أراد أن يوصله عبر الكتاب ككل، وذلك من خلال تحدثه عن الفن ورؤيته له ودوره بشكل مطلق، ومن دون التحدث عن أفلامه أو أفلام الآخرين، وتعتبر هذه الخاتمة بمثابة الرسالة التي أراد تاركوفسكي توصليها إلى محبي فنه، فهي تعبر بصدق وضوح عن خلاصة فكره وتجاربه ورؤاه.
ويجب أن نشير في النهاية إلى أن الكتاب ليس قاصرًا على العاملين في مجال السينما فحسب، أو المتخصصين فيها، فالكتاب ثري بشكل لا يوصف فهو ينتقل بنا من الفلسفة في معانيها البسيطة والفنون ووحدتها أدب وموسيقا ومسرح وسينما وفن تشكيلي، ولا يخلو في صفحة منه تقريبًا إلى الإحالة إلى نموذج أدبي، رواية أو قصة أو مسرحية أو قصيدة، وكثيرًا ما سيصادف القارئ مقاطع من أعمال أدبية أو اقتباسات من قصائد شعرية، سواء من الأدب الروسي أو العالمي.
وفي الختام أود أن ألفت نظر القراء ومحبي أعمال المخرج العظيم ومن يتابع كل ما كتب عنه، إلى كتاب آخر كان قد صدر في نهاية العام قبل الماضي عن سلسلة الفن السابع التي تصدرها وزارة الثقافة السورية العدد 68، بعنوان “كتاب المقارنات حوارات مع تاركوفسكي”، وهو ترجمة، عن الروسية مباشرة قام بها الأستاذ يونس كامل ديب، لمجموعة من المقابلات كانت قد أجرتها مع تاركوفسكي “أولغا سوكورفا”. وهذا الكتاب مكمل إلى حد لكبير لكتاب النحت في الزمن، بل وهناك بعض الفصول فيه تحمل العناوين نفسها، وبه الكثير من الجمل المتشابه إلى حد التطابق مع ما في كتاب النحت في الزمن، بالطبع مع بعض الاختلافات والإضافات الطفيفة هنا وهناك، ولا ينبغي أن يثير هذا دهشتنا على الإطلاق، فتاركوفسكي نفسه يشير إلى أولغا سوكورفا في مقدمة النحت في الزمن قائلا: “أخيرًا، يتعين عليّ أن أضيف بأن هذا الكتاب قد تألف من فصول مكتوبة، وملاحظات على شكل يوميات، محاضرات، ومناقشات مع أولجا سوكورفا التي تابعت تصوير فيلم “أندريف روبليف” حين كانت تدرس السينما في معهد السينما بموسكو، ثم أصبحت ناقدة محترفة، وتعاونت معنا عن قرب في السنوات التالية. وأنا مدين لها للعون الذي قدمته لي طوال كتابة هذا الكتاب”.
ولد المخرج الكبير أندريه تاركوفسكي في الرابع من ابريل عام 1932، درس الرسم والموسيقا واللغة العربية لفترة، وكان مهتمًا بكل ما يمت للشرق بصلة وخاصة الجانب الروحاني منه، درس الإخراج في معهد السينما في روسيا على يد المخرج الكبير ميخائيل روم. حصل على العديد من الجوائز العالمية وكان محط إعجاب وتقدير أينما ذهب.
أخرج أندريه على مدار حياته القصيرة: “طفولة إيفان (1962)، أندريه روبليف (1966)، سولاريس (1972)، المرآة (1975)، ستالكر (1979)، نوستالجيا(1983)، القربان(1986)”.
عنوان الكتاب: النحت في الزمن
المؤلف: أندريه تاركوفسكي
ترجمة: أمين صالح
الناشر: مختارات ميريت – القاهرة
الطبعة: الأولى 2006
الصفحات: 207 قطع كبير