محمد هاشم عبد السلام
في هذه المجموعة القصصية الصادرة حديثًا تحت عنوان “النغم المتصاعد وقصص أخرى”، نتعرف فيها على جانب مهم وجديد من إبداع الكاتب والمبدع الإيطالي الكبير دينو بوتزاتي، والمجموعة تضم خمس قصص جاءت عناوينها بالترتيب كالتالي: “النغم المتصاعد”، و”ضروب من الوحدة”، و”افتتاح الطريق”، و”المعطف”، و”طالب الشفاء”.
والمجموعة القصصية رغم صغر حجمها إلا أنها تعبر خير تعبير عن عالم الكاتب الإيطالي الكبير، ذلك العالم الذي يتناول موقف الإنسان من الموت وإحساسه بالرعب تجاه الوجود وأنه فريسة له. وقد كان بوتزاتي يعاني من الغربة والوحدة، ويستغرقه بشدة التفكير في الموت الآتي والتقهقر الإنساني أمامه، ومن ثم الاستسلام له.
في قصة “النغم المتصاعد” يكتب بوتزاتي بطريقة الموجة الموسيقية، تلك الدوائر التي تعاود التجدد بلا نهاية ولا بداية، وتتصاعد نغمات الموجة من موجات صغيرة تضرب الحس الإنساني برفق، إلى موجات كابوسية، فيعاود بوتزاتي تصوير لقطة ثم يعيد صياغتها ثم يلح ويحفر في هيكل الموت القادم، فلا يجدي الانتظار إلا في تجسيد الهلوسات.
ويأتي الموت رويدًا رويدًا، خفيفًا في بادئ الأمر، ثم يطل برأسه حولنا، ثم يأتي ثقيلاً، يكسر الأبواب ويخترق الجدران ويتحول الكائن الميت إلى حشرة تشبه حشرة كافكا في “المسخ” وإن كانت تختلف عنها، حسبما يشير إلى ذلك الكاتب محمد الراوي في تقديمه لهذه المجموعة.
وتدور قصص المجموعة في فلك ملمحين أساسيين، أولهما كما أشرنا هو رصده للموت وموقفه منه، والآخر هو الوحدة الشديدة التي يعاني منها الإنسان ومحاولاته للتغلب عليها أو الاستلام لها، ويبرز هذا جليًا في قصته المعنونة بـ “ضروب الوحدة”، والتي ترصد في عدة مشاهد منفصلة ضروبًا من الوحدة، تجسد مواقف حيايتة مختلفة، وقد حملت هذه المشاهد عناوين فرعية جاءت كالتالي: “الجدار”، و”والاعتراف”، و”طريق السيارات”، و”قبر أتيلا”، و”المسجلة”، و”الأيام الضائعة”.
أما عن قصة ترجمة ونشر هذه المجموعة القصصية فهي غريبة فعلاً تمامًا كغرابة عالم دينو بوتزاتي، فالمجموعة القصصية كان قد تم الانتهاء من ترجمتها المترجم السوري القدير جورج سالم عن الإيطالية مباشرة في أوائل عام 1975، وكان قد أرسل نسخة منها لكاتب المقدمة وصديقه محمد الرواي، وتوفي المترجم جورج سالم في أواخر 1975، قبل أن يخرج العمل المُترجم إلى النور، وقد ظلت المجموعة حبيسة الأدراج ودور النشر طوال تلك المدة حتى رأت النور أخيرًا في هذه الطبعة التي لم تترجم أو تنشر معظم قصصها من قبل.
أما عن الكاتب دينو بوتزاتي الإيطالي الجنسية فقد وُلِدَ في عام 1906، ورحل في عام 1972. وبالإضافة إلى كتابته للقصة والرواية، فقد كان بوتزاتي يمارس هواية الرسم وأقيمت له عدة معارض. كما كان يرأس تحرير جريدة “كورييري ديلاسيرا” الإيطالية.
من قصته المعنونة بـ “ضروب الوحدة”، نقرأ تحت عنوان فرعي هو (المسجلة) ما يلي:
“طلب إليها (بصوت منخفض جدًا) قال لها:
– أرجوك أن تصمتي، فآلة التسجيل تسجل من المذياع، لا تحدثي ضجة، فأنت تعلمين أني أحرص على ذلك.
كان يسجل مقطوعة “الملك آرثر” لبرسيل، والتسجيل رائع صاف. إلا إنها تعمدت أن تغضبه، قالت: إنني لا أبالي بذلك. وصارت الجيفة تغدو وتروح وهي تقرقع بكعبي حذائها، لتستمتع بإخراجه عن طوره، ثم راحت ترفع صوتها، ثم سعلت (عمدًا) وهي تضحك وحدها خلسة، وتطقطق بأعواد الثقاب محدثة أكبر ضجة مكنة. وراحت تسير بخطى رنانة في وقاحة، وخلال ذلك، كان برسيل وموزار وباخ وبالسترينا الأنقياء الإلهيون يغنون عبثًا، أما هي فحشرة حقيرة، قملة، وباء الوجود، ولم يكن بالإمكان الاستمرار على هذا النحو.
والآن بعد انقضاء سنوات عديدة يعود فيسمع الشريط القديم المتعب، هو ذا المعلم، هو ذا العظيم، هو ذا برسيل وباخ وموزار وبالسترينا.
لم تعد هنا. رحلت. تركته، آثرت أن تتركه، إنه لا يعرف، ولو معرفة غامضة، إلى أين انتهت بها الأيام. وما يزال برسيل وباخ وموزار وبالسترينا يعزفون ويعزفون. أولئك.. الرجيمون الذين يثيرون الغثيان.
هذه الطقطقة التي تغدو وتروح، هذان الكعبان، هذه الضحكات الصغيرة ولاسيما الثانية، هذه البحة في الحلق، هذا السعال. أجل إن هذا كله لهو موسيقى إلهية.
إنه يصغي، إنه يصغي وهو جالس تحت ضوء المصباح، متحجرًا في مقعده القديم المتهدم. إنه يصغي، من غير أية حركة. لقد ظل ساكنًا جالسًا لكي يصغي: إلى هذه الضجة، ووقع الخطى، وهذا السعال، وهذه الأصوات المعبودية، التي لا نظير لها، التي لم يعد لها وجود، لن توجد، الدهر، بعد الآن”.
عنوان الكتاب: النغم المتصاعد وقصص أخرى
الكاتب: دينو بوتزاتي
ترجمة : جورج سالم
تقديم: محمد الراوي
الناشر: آفاق عالمية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – مصر
الطبعة: الأولى 2004
الصفحات: 77 قطع متوسط